صفحات الناسمحمد علي الأتاسي

التغـيير في يدنا لا في يد الـغير

null

محمد علي الأتاسي

إلى رياض سيف مناضلاً ليبيرالياً سورياً

السؤال الوحيد الذي يسكن سطور المقالة هو الآتي: ماذا يمكن الواحد منا أن يقدم من جديد؟

لقد تعب الكثير منا، من الكلام والكتابة، من التنبيه والتحذير، عشية كل كارثة وغداتها، من دون أن تجد أصواتنا آذاناً صاغية أو تساهم في تجنب تكرار الأخطاء والإمعان في مسلسل الذهاب بالبلاد من كارثة إلى أخرى أكبر منها، بمعزل عن أي مراجعة أو مسألة أو حاسبة.

اليوم، وبعد خمس سنوات تقريبا من العهد الحالي، علينا الاعتراف بأن لا فائدة ترجى من الكلام التحريضي والمقالات النقدية لدفع السلطة الى إعادة النظر في خياراتها لإستراتيجية. الرهان اليوم هو في أن تعيد المعارضة السورية النظر في سياساتها تجاه الاستحقاقات لمصيرية التي تواجه البلاد، علها تعيد الناس إلى السياسة وتدفعهم إلى أخذ مصيرهم بيدهم.

القصة باتت معروفة وإن يكن لا مناص من التذكير بها. فرغم تعديل الدستور وتوريث الحكم، استبشر الكثيرون بأن المستقبل سيحمل خيراً وأجمعت أطياف المعارضة، من أقصى يمينها إلى أقصى يسارها، ومن الأخوان المسلمين إلى الشيوعيين مرورا بالمثقفين ولجان المجتمع المدني، على إعلان الاستعداد لطي صفحة الماضي والنظر بإيجابية إلى المستقبل شرط أن تعمل السلطة على إعادة المظالم لأهلها وأن تباشر الإصلاحات الديمقراطية الحقيقية التي تحتاجها البلاد والتي عبّرت عنها وفصلت فيها جميع البيانات والعرائض التي طالبت بإلغاء حال الطوارئ وبحرية الرأي والتعبير وبالتعددية السياسية وتبييض السجون وعودة المنفيين.

لم يجد أي من هذه المطالب آذاناً صاغية لدى السلطة، اللهم إلا بعض التنازلات هنا وهناك، وفترة سماح نسبية بالكلام الحر، سمّيت ربيع دمشق ، سرعان ما تم الارتداد عليها وسجن أهم رموزها. هذا في وقت استمر معظم رموز الطبقة السياسية الحاكمة في مناصبهم وزادوا في تكديس ثرواتهم والإمعان في سياسة الشعارات الجوفاء واللغة الخشبية المحنطة، التي لا تمت الى الواقع بصلة.

أما على الصعيد الإقليمي فاستمر مسلسل الكوارث السورية ابتداء بالتعامل الخاطئ مع انقلاب العلاقات الدولية في أعقاب زلزال 11 أيلول 2001، إلى الرهان على صدام حسين وصموده في وقت كان واضحا أن سقوطه ما هو إلا مسألة وقت، إلى تضييع فرصة توظيف انتصار المقاومة في الجنوب اللبناني وتحقيق انسحاب سوري سريع ونقل ملف العلاقات السورية – اللبنانية من المستوى الأمني إلى المستوى السياسي، إلى المماطلة في توقيع اتفاق الشراكة الأوروبية المتوسطية عندما كانت شروطه أكثر تساهلا مع سوريا، إلى العجز الفاقع في الاستفادة من سياسة الأبواب المفتوحة التي مارستها معظم العواصم الأوروبية في البداية على أمل تشجيع دمشق في المضي قدما في مشروع الإصلاح، إلى إتقان سياسية تحويل الحلفاء أعداء من فرنسا إلى السعودية إلى الحريري وجنبلاط في لبنان، وصولا إلى سياسة تقديم التنازلات والتخلي عن معظم الأوراق الإقليمية حتى لا تضطر السلطة إلى التنازل أمام شعبها.

خلال الأعوام الماضية تذرعت السلطة في إبقائها جمود الأوضاع السياسية بهاجس صون الوحدة الوطنية والحرص على استقرار البلاد، وروجت في المقابل لمشروعها في التحديث والتطوير القائل بأولية الإصلاح الاقتصادي والإداري والقانوني على الإصلاح السياسي. وها نحن في نهاية السنوات الخمس من العهد الجديد – القديم نعود إلى المربع الأول لجهة نموذج الإصلاح الذي قالت به السلطة: فلا رؤوس الأموال المهاجرة عادت ولا الاستثمارات أتت ولا البطالة انخفضت ولا أعيد تأهيل القطاع العام ولا تم إفراز نخب جديدة مؤهلة، بل ظل النمو الاقتصادي أسير أرقامه المخجلة وبقيت معظم القوانين الجديدة حبراً على ورق أو تم تدويرها خدمة لمصالح مراكز القوى والنفوذ الممسكة بالبلاد. ويكاد التطور الوحيد الذي يبرز في هذا المجال هو نجاح طبقة أولاد المسئولين في تحقيق تقدم ملحوظ في تحويل نفوذ آبائهم السياسي والأمني والمادي إلى رأسمال مالي سرعان ما انضم بدوره إلى رؤوس الأموال السورية المهاجرة.

أمام هذا الواقع الخطير يظهر جليا أن محاولات بعض أطراف المعارضة إيجاد آذان صاغية لها في صفوف السلطة باءت كلها في الفشل، وأن الرهان الوحيد في تجنيب البلاد كوارث محققة هو في أن تعيد المعارضة السورية النظر في السياسات التي اتبعتها إلى يومنا هذا، وأن تعمل على تجاوز خلافاتها وأن تتوجه إلى الناس قبل السلطة، ببرنامج حد أدنى يجد لديهم آذاناً صاغية ويؤهلهم للعب دور حاسم في تقرير مصير بلدهم. وحتى لا يبقى كلامنا أسير العموميات سنحاول في السطور اللاحقة تقديم بعض الاقتراحات العملية آملين دفع النقاش إلى آفاق أرحب وأكثر واقعية:

1 – ملامح برنامج الحد الأدني وبنوده باتت معروفة لكل الناشطين في الشأن العام، وسبق لمعظم البيانات والعرائض والمقالات التي وضعها المثقفون والمعارضون السياسيون أن تناولتها. ويمكننا أن نورد بعضاً من أهم بنودها كإلغاء حال الطوارئ وإطلاق المعتقلين السياسيين وعودة المبعدين والتعددية السياسية وفصل السلطات وإرساء دولة القانون وحرية الرأي والتعبير والصحافة والنقابات وصولا إلى إجراء انتخابات حرة ونزيهة لتشكيل جمعية تأسيسية تكون قادرة على وضع دستور جديد وإفراز قيادات ورموز يعبرون فعلياً عن مكونات الشعب السوري وتياراته الحية.

2 – أهمية تأكيد اعتماد وسائل النضال السلمي في العمل السياسي والمحافظة على الوحدة الوطنية وعدم الارتباط بالمخططات والأجندات الأجنبية والإصرار على أن يدار الصراع السياسي وفق مبدأ الانتقال السلمي من الاستبداد إلى الديموقراطية بعيداً عن أي تعبئة على أساس طائفي أو إثني، مع ضرورة العمل على تحييد الجيش وإبقائه بعيداً عن أي صراعات سياسية يمكن أن تنشأ في المستقبل المنظور.

3 – إذا كان المجتمع السوري غنيا بتنوعه الطائفي والإثني، فإن انقساماته السياسية كانت، وعليها أن تبقى، عابرة لهذا التنوع وحاضنة له وغير متعامية عنه. من هنا تأتي أهمية إقصاء وعزل أي خطاب يحاول أن يؤثم الطائفة العلوية ويجعلها مسؤولة عن ممارسات النظام الحاكم. لقد دفع عدد كبير من أبناء الطائفة العلوية الضريبة الباهظة ثمناً لمعارضتهم الاستبداد في سوريا، ويكاد يكون عدد المعتقلين السياسيين من أبناء هذه الطائفة هو الأضخم مقارنة بتمثيلهم نسبةً إلى بقية الطوائف.

4 – ضمن التوجه نفسه لا بد من عزل وإقصاء أي خطاب يحاول أن يختصر الطائفة السنية في تيار الإسلام السياسي. فهذه الطائفة لا تجسد في أي شكل من الأشكال كتلة واحدة سواء أكانت سياسية أم إثنية أم مناطقية، بل هي موزعة على كل التيارات والتنوعات التي يضمها المجتمع السوري من يسار ويمين، ومن علمانيين وإسلاميين، ومن عرب وكرد، ومن أهل مدينة وأهل ريف، ومن بدو وحضر، ومن دمشق وحلب، ومن مدن الساحل ومدن الداخل ومدن الجزيرة.

5 – تيار الإسلام السياسي وفي مقدمه جماعة الإخوان المسلمين جزء أساسي من الخريطة السياسية السورية، حاله كحال التيارات القومية والليبيرالية واليسارية، ولا يمكن أن تقوم حياة سياسية سليمة وصحيحة بمعزل عن أي من هذه التيارات. لكن على الجميع القبول بشروط اللعبة الديموقراطية وبمبدأ التناوب السلمي على السلطة، مع ضرورة تأكيد أن تحترم كل غالبية سياسية حقوق الأقليات السياسية والدينية والإثنية. فمن حق الأكراد مثلا أن يتعلموا لغتهم وثقافتهم ومن حق الطوائف الدينية أن تمارس شعائرها ومعتقداتها ومن حق النساء أن يرتدين الحجاب، لكن ليس من حق أي تيار من تيارات الإسلام السياسي أن يحتكر لنفسه تفسير الإسلام، كأن يفرض مثلاً على جميع المسلمات ارتداء الحجاب!

6 – برغم تبني معظم قوى المعارضة السورية الخيار الديمقراطي، فإنها لا تزال مع الآسف أسيرة ماضي الستينات في انشقاقاتها وبناها التنظيمية وخطابها الإيديولوجي، في حين أن أكثر من 60 في المئة من الشعب السوري هو من الجيل الشاب الذي يقل عمره عن ثلاثين عاماً. من هنا تنبع أهمية أن تتجاوز هذه القوى خطابها الموروث وأنانيتها التنظيمة وأن تنفتح على الأجيال الشابة وهمومها وتطلعاتها الجديدة.

من أجل التأسيس على هذه النقاط التي يمكن أن تتقاطع حولها الكثير من القوى المعارضة، ومن أجل الوصول بها إلى شرائح واسعة من الناس والضغط من خلالها لانتزاع تنازلات حقيقية من السلطة، لا بد للمثقفين والشخصيات والأحزاب المعارضة وجمعيات حقوق الإنسان والمجتمع المدني أن يلتقوا ضمن هيكلية تنسيقية جامعة، يمكن تسميتها مؤتمراً وطنياً أو منبراً ديمقراطياً أو لقاء دورياً، يستطيعون من خلالها أن يوحدوا جهودهم وينسقوا خطواتهم ويكسروا العزلة الإعلامية المفروضة عليهم. إن وجود مثل هذه الهيكلية المرنة سيسمح بتجاوز الجمود التنظيمي والنرجسيات المتضخمة والتنافر الإيديولوجي، من أجل أن تصب الجهود جميعها في طريق ابتداع أساليب جديدة في النضال السلمي تتجاوز سياسة البيانات والعرائض وحتى الاعتصامات الصغيرة نحو المزيد من الانفتاح على الناس والدفع بهم إلى ميدان الفعل والعمل السياسي.

ما بين المثال العراقي في التغيير الدموي الآتي من الخارج والمثال اللبناني في التغيير السلمي المستند إلى الخارج، هناك أمل في أن يتمكن الشعب السوري من أن ينهض من جديد ويعمل على تحقيق التغيير السلمي المستند الى الداخل. اليوم، تفصلنا عن الانتخابات الرئاسية مدة عامين تقريباً، ويمكن الجميع أن يكون على موعد مع هذا الاستحقاق الكبير، إذا استطاعت المعارضة أن تدفع لأن يكون هذا الاستحقاق حراً، متعدداً وديمقراطياً. فعلى هذه الأرض يرتفع التحدي وهنا يكمن الأمل.

من مواد نشرة الرأي 76 آذار ونيسان 2008

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى