بدر الدين شننصفحات الناس

الحرية والحياة لعارف دليلة

null

بدر الدين شنن

مساء أول أمس ، كان بشار الأسد في دار الأوبرا بدمشق ، يرتل خطابه الإنشائي المعد له جيداً ، ويعلن رسمياً بدء احتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية عام 2008 ..

وكان الكتور الأستاذ الجامعي والمثقف الكبير عارف دليلة .. في سجنه الإنفرادي منذ عام 2001 ، يئن صابراً صامداً ، من تداعيات الخثرة الدماغية ، التي تسببت بفقدانه الحس الكامل بالطرف اليساري من جسمه ، وقدمه اليسرى تزداد اسوداداً من باطن القدم إلى أعلى الفخذ ، حيث باتت مهددة بالبتر نتيجة نقص التروية الدموية ( لجان الدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطية في سوريا ) وهذا كما هو معروف طبياً يشكل خطراً جدياً متسارعاً على حياته ..

كان بشار الأسد يعدد معاني أن تكون دمشق عاصمة للثقافة العربية هذا العام .. وكانت حال عارف دليلة تشترط الحرية معنى شريفاً واحداً للثقافة وللإبداع في الثقافة ..

كان بشار الأسد يعدد مفاخر أن يضم ثرى دمشق ، مراقد عدد من المثقفين الخالدين في التاريخ العربي ، مثل محي الدين بن عربي والفارابي وحسين مروة وعبد الكريم الكرمي ونزار قباني .. وكانت أسرة عارف دليلة ، التي زارته مؤخراً وشاهدت حاله المتدهورة ، تحسب الخطوات والأيام المتبقية له ، إن لم يتم إنقاذه ، ليرقد في مثواه الأخير ..

وهذه المفارقة الصارخة ، بين الاحتفاء بالثقافة في دار الأوبرا وفي فضاء دمشق الخالدة ، وبين اختفاء فرسان الثقافة ، في الزنازين تعسفاً .. والاغتراب تشرداً .. والانزواء تقية .. تنقل الضوء والاعتبار للثقافة .. من دار الأوبرا وصالات الثقافة الخاوية من قيم الثقافة العلمية المبدعة ومن ألق الحرية المشرقة .. إلى قبور الموت البطئ في السجون والمعتقلات السياسية .. وإلى فضاءات ذل الاغتراب في المنافي .. وإلى مكابدة العزلة الخانقة خارج دوائر الاهتمام والإبداع والطموح .. وتجعل زنزانة عارف دليلة مقاماً رفيعاً مكثفاً لقيم الثقافة في هذا الزمن الرديء .. تجعلها أعظم من دار الأوبرا ومن كل صالات الثقافة المجوفة من أثمن قيم الثقافة والإبداع .. ويصبح أنين عارف دليلة ، الجسدي والسياسي ، أعلى صوتاً ثقافياً بامتياز في رحاب الثقافة في عام دمشق الثقافي .. وأعظم صدقاً وبلاغة من خطاب رئيس دولة ..

ومن زنزانة الدكتوردليلة تنسحب خيوط الضوء إلى زنازين أخرى ، تضم بين جدرانها الباردة معتقلي الرأي الجدد والقدامى ، وتحضر الذاكرة حالات كثيرة مماثلة عرفها تاريخ الاعتقال السياسي ، في زمن الاستبداد المزمن ، بعض تلك الحالات من سقط شهيداً تحت التعذيب .. وبعضها من ا ستشهد بعد الإفراج عنه وهو على شفا الموت . ويفضح هذا الضوء ليس ا سوداد أطراف المعتقلين المشوهة بالتعذيب الوحشي والأمراض العضال فحسب ، وإنما الزرقة والسواد ايضاً حول العيون وعلى الشفاه انعكاساً للاضطهاد والاحساس بالظلم المفرط غير المبرر .

إن احتفالية دمشق الصادقة عاصمة للثقافة العربية ، تقضي بتفكيك الثنائية الصارخة ، المتمثلة بالاحتفال الأوبرالي من جهة ومعاناة مثقف يفترس المرض المضني جسده ببطء ، هذه الثنائية التي تشوه وجه دمشق الثقافي والإنساني معاً ، تقضي بتبادل المواقع بين السجين والسجان .. بانتصار الحرية على الاستبداد .. بانتصار الثقافة والشفافية على الغباء والاستغباء السلطويين .. انتصار قيم وحقوق الإنسان على ” قيم ” سلطة تستنسخ ديمومتها بآليات ا ستثنائية ، تتجاوز مضامين الدستور والقانون وقيم الحضارة ، وتقضي أن يكون مكان المعتقلين السياسيين ، الذين منهم الصحافي والطبيب والمحامي والأستاذ الجامعي والناشط السياسي والحقوقي .. في رحاب الجامعات ومنابر الصحافة والفكر والقضاء والحقل السياسي .. أن يكون تبعاً لذلك مكان الدكتور دليلة في محراب الجامعات بين أحبائه الطلبة .. وفي منابر الحوار المبدع بين زملائه ومريديه .. وليس في الزنازين التي تقبر الثقافة والإبداع والإنسان .

إن ما يتعرض له الدكتور دليلة هو جريمة قتل بطيئ متعمد بأبشع صور القتل العمد لرجل رأي وثقافة . وهو وخاصة لحالته الصحية المتدهورة يشكل صرخة احتجاج عالية على الغدر بالثقافة في عام دمشق الثقافي . الأمر الذي يستدعي فورياً من كل أبناء شعبنا وكافة الهيئات السياسية والثقافية والحقوقية في الداخل والحقوقية الإنسانية في الخارج ، أن ترفع الصوت عالياً مطالبة بالحرية والحياة .. للإنسان المناضل من أجل حقوق الإنسان .. والأستاذ من أجل جيل جيل يمتلك الوعي بقيم العلم والحرية .. والمثقف الذي يحمل قنديله في عز الظهيرة باحثاً عن رجل يعطي الثقافة معناها الدائم .. من أجل كرامة وسعادة الإنسان .. للإنسان عارف دليلة .

معذرة أيها الأستاذ الغالي .. لم نعرفك جيداً .. لم نعطك حقك من التقدير قبل الآن .. حتى كدت في وقت يعز فيه وجود الرجال أن تكون الرجل الذي يغرد وحده ..

أنت في عيوننا وقلوبنا .. أخاً ورفيقاً وصديقا .. أنت ياعارف دليلة

الحوار المتمدن

2008 / 1 / 21

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى