الدور التركي في المنطقة

السجال التركي – التركي حول الموضوع الأرمني

بوراك بوكديل
كان مساء هادئاً وكئيباً عندما ركبت سيارة تاكسي في شارع دوكيسنوي في بروكسيل الأسبوع الماضي. خلال القيادة الهادئة في اتجاه المطار، أخبرني سائق التاكسي عن الأعوام الثلاثة والعشرين التي أمضاها في العاصمة البلجيكية وعن خيبة أمله من السياسة العالمية والحروب التي لا تنتهي في كل زاوية من الخريطة. سألته “من أين أنت؟” فأجاب “أنا أرمني لبناني”.
وإذ تذكّرت أننا في يوم 21 نيسان، قلت لسائق التاكسي (الذي سوف أسمّيه “أي واي”) إن ذكرى “النكبة الكبرى” Meds Yeghern هي بعد ثلاثة أيام فقط، وسألته “هل تحمل الأتراك مسؤولية المأساة؟” فأجاب وهو يهزّ كتفيه “كلا”. فقلت “وهل تظن إذاً أن العثمانيين هم المسؤولون؟” فأجاب مجدداً “كلا”.
فبدأت أفقد صبري، وسألته بصوت مرتفع بعض الشيء على ما أعتقد “لن تقول لي إن ذلك الشيء اللعين لم يحصل قط، أليس كذلك؟”، فنظر إلي “أي واي” في المرآة وسألني “هل أنت يوناني؟ تبدو متلهفاً جداً لإلقاء اللوم على الأتراك”. فقلت له بعد برهة من الصمت عجزت فيها عن الكلام “اسمع، لست يونانياً ولست متلهفاً للوم الأتراك، أنا تركي!” فكاد يصطدم بشاحنة صغيرة متوقفة على جانب الطريق.
تلقي نظرية “أي واي” اللوم على “القوى الكبرى” أي الروس والبريطانيين والفرنسيين. قال متنهداً “قبل دخولهم الصورة، كنا نعيش بسلام مع الأتراك طوال قرون”. أقر “أي واي” أنه ليس شخصية محبوبة في الجالية الأرمنية الصغيرة في بروكسيل، لكنه قال وهو يهز كتفيه من جديد “لكن من يأبه؟” قبل أن أخرج من السيارة.
لقد علّم الرئيس الأميركي باراك أوباما العالم من خلال رسالته في 24 نيسان، عبارة جديدة: Meds Yeghern. كانت خطوة ذكية جداً من واضعي خطب أوباما أن يعيدوا اكتشاف عبارة تسبق إيتيمولوجياً كلمة “إبادة”. قول Meds Yeghern هو بطريقة ما أشبه بقول “شواه” [كلمة عبرية تعني الكارثة] وليس “هولوكوست” [أي محرقة].
قد تساعد هذه الصياغة الجديدة الأميركيين والأتراك والأرمن على تفادي الأزمات في المستقبل أيضاً. مع مفرداتنا التي باتت غنية الآن في موضوع الخلاف حول كلمة إبادة، نستطيع تفادي الحاجة إلى تفاهم تركي-أميركي في حال قرّر الكونغرس الأميركي الاعتراف بالإبادة الأرمنية. إليكم ما يقترحه كاتب هذا العمود: يجب أن يقر الكونغرس قراراً يعترف ب”النكبة الكبرى” الأرمنية. بهذه الطريقة، لا يستطيع الأتراك أن يتذمّروا من أن أصدقاءهم الأميركيين اعترفوا بالإبادة. لا، يكونون قد اعترفوا فقط بالنكبة الكبرى وليس بالإبادة!
أياً كان التعبير الذي اختاره أوباما، ما كان ليرضي الجميع. فالمسار الطبيعي للأمور يحتّم ألا تتمكّن أي لغة من إرضاء الأتراك والأرمن والدياسبورا الأرمنية على السواء. ولذلك تقتضي العقلانية من الجميع في هذه المرحلة من الأحداث أن يحاولوا رؤية النصف الملآن في كأسهم نصف الفارغة.
مع ذلك، هناك اختلاف مفهومي دقيق بين كلمة “إبادة” والتعبير المستخدم في اللغة الأرمنية للإشارة إلى الإبادة. فخلافاً للإبادة، ليست لعبارة Meds Yeghern مضاعفات قانونية، ولا سيما عندما يتلفّظ بها رئيس الولايات المتحدة. وهكذا يتضمّن اختيار العبارة رسالة واضحة للدياسبورا الأرمنية: لا تبحثوا عن أدلة لمطالب قانونية محتملة وتفسدوا الانفراج المخطط له في القوقاز.
لا يمكن أن يكون إعلان خريطة الطريق التركية-الأرمنية رسمياً قبل يوم واحد من ذكرى 24 نيسان، صدفة. أجل، إنها خريطة طريق جدية وتحظى بدعم قوي. لكن من يشعر بالاستياء الأكبر بينما تسير أنقرة ويريفان الآن على بيض، ويبذل الأميركيون كل ما بوسعهم للتأكد من عدم كسر أي منهما لإحداها؟ من جهتنا، إنهم القوميون. بعد قراءة التغطية التي خصّصتها الصحافة “القومية” للانفراج في العلاقات، لم أفاجأ عندما قال لي صديق قومي يملك مقهى إنه غاضب جداً لأننا “نصادق الأرمن اللعينين”.
ولم أفاجأ أيضاً عندما قرأت أن نقابة من العاملين في مجال التعليم تدّعي أنها “قومية” وتُعرَف بEgitim-Sen، جمعت 250 ألف توقيع ضد الانفراج في العلاقات مستخدمةً شعاراً مقرفاً “لا أريد أن أرى قاتل أخي في بلدتي!” شعرت أنني لا أريد أن أرى في بلدتي أشخاصاً مليئين بكل هذه الكراهية.
تعاملت الصحافة الإسلامية مع الخبر بمنظار أكثر نضوجاً بكثير، ودعمت التقارب في شكل عام. وكذلك الأمر بالنسبة إلى خطب الرئيس عبدالله غول ورئيس الوزراء رجب طيب أردوغان. في الجهة الأخرى من الأطلسي، يبدو أن الانفراج هو خبر سيئ للأرمن. في مقال عن ذوبان الجليد الديبلوماسي التاريخي بين تركيا وأرمينيا، اقتبست صحيفة “وول ستريت جورنال” عن أندرو كزيريان، المدير التنفيذي للهيئة الوطنية الأرمنية في المنطقة الغربية، تعبيره القوي عن “خيبة الأمل الكبيرة” التي يشعر بها.
في الجهة الأرمنية من حدود أليكان بين تركيا وأرمينيا، انسحب حزب Dashnaktsutsiun القومي، وهو عضو صغير في الائتلاف الحاكم في أرمينيا، من هذا التحالف السياسي الناجح، معللاً السبب بإهمال “المصالح الوطنية” ليريفان.
في خضم هذه المشاعر، يمكننا دائماً الاعتماد على الافتراض بأن كل ما يغضب الراديكاليين لا بد من أن يكون جيداً. غير أن المشاعر ليست الحاجز الوحيد. بطبيعة الحال، وبعيداً من “المشاعر”، سوف يثير ذوبان الجليد على الحدود الشرقية لتركيا غضباً “عقلانياً” أيضاً. وفي هذا السياق تدخل روسيا الصورة. يملك الروس، ويا للأسف، كل الأسباب الوجيهة لإفساد الانفراج.
فقد كان سيئاً بالنسبة إليهم أن يختار الرئيس الأميركي بذكاء الحديث عن “شواه” بدلاً من “هولوكوست”. غير أن اللعبة لم تنتهِ. سوف نشهد على الأرجح الكثير من “الاهتمام” الروسي العلني أو الخفي بما يبدو في الظاهر وكأنه مسألة تركية – أرمنية لكنه في الواقع مسألة تركية-أرمنية-أميركية-روسية.
لدى محاولتي حساب الخطوات المحتملة في هذه المناورة القوقازية، ذكّرني لاعب في لعبة شطرنج صعبة بالدرجة نفسها بما قاله الفيلسوف وعالم اللاهوت الذي عاش في القرن التاسع عشر سورين كيركغارد: يمكن فهم الحياة بالعودة إلى الوراء، لكن لا يمكن عيشها إلا بالسير نحو الأمام.
يقع على عاتق الأتراك والأرمن أن يفهموا الحياة بالعودة إلى الوراء ويعيشوها بالسير نحو الأمام. فالعكس سيكون مؤلماً للجميع.

(صحيفة “حرييت” التركية ترجمة نسرين ناضر)
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى