صفحات ثقافيةعلي جازو

العزلة طلباً للمعرفة القاسية

null
علي جازو
من هو الفيلسوف؟ ما هي الفلسفة ؟ سؤالان من البديهة بمكانٍ، أم من بديهةٍ كان يرى فيها عقلٌ مثل عقل هيغل أمراً غامضاً على الدوام ؟ سؤالان في سؤال واحد: ما الحاجة إلى فلسفة الفيلسوف أصلاً ؟! لأنها أصلية ـ بالمعنى المبدع والمشرق لهذه الصفة الأولى ـ قدر ما هي ذاتية حية ومطلقة الأهداف والطموح. الفيلسوف كائن عقلي مختلف وهو في الآن أشدّ الناس رهافةً وأقربهم إلى الواقع ومكوناته المختلفة والمتضاربة ونتائج ثقافة المجتمع العامة وظروف التعامل البشري. لأنه حيٌّ ودؤوب في بحثه، مراقبٌ ومتأمل وكاشف. لكن الفلسفة لا تصف وحسب،
لا تراقب وتصنف فقط، لا تتأمل و تقيّم فحسب. إنها تعمل وتصنع، تريد وتؤسس. لذا فالحاجة إليها هي من الطبيعة ذاتها، من سيولتها المسرفة المستمرة، وعنفوانها الجوهري وتحولاتها التي لا تعرف التوقف ولا الجمود. الحاجة إليها هي من عمق الحاجة إلى تلبية الرغبة التي لا تعرف النفاد، ومن القلق الذي ليس سوى اسم آخر للصفاء وبهاء الفكر الإنساني. ربما إن مهنة الفيلسوف، إذا جاز التعبير، من المهن النادرة التي تُختار بحريةٍ تامة؛ حريةٍ يتماهى عبرها وعليها الحبُّ مع العمل، ومتعاتُ العقل النقية مع الاتصال النزيه بمجريات الحياة الحقيقية. في كل زمان رديء وفقير الخيال تبرز الحاجة إلى عقول لامعة. في كل مكان تشوَّه فيه العمل وتحوَّل إلى عبودية لاهثة، في كل زمان أُرغِمَت الإرادة فيه إلى الخنوع إلى ذاتٍ تقدس الانتحارَ وتفضله على العمل والمعاناة والإحساس الجمالي بالحياة المدهشة وعلى التواصل المستمر، تزداد فيه الحاجة إلى الفلسفة. ماذا يا ترى يفعل الأكاديميون الآن، وماذا تقدِّمُ الصحفُ التي يتحفها الأكاديميون بكلماتهم المفوهة؟؟ قديما قالها رالف والدو إيمرسون (إننا نزدهر بالمصائب). هذا ليس خيالَ مفكِّرٍ خرج من بيئة لاهوتية، ولا ادعاء رجل مناسبات عامة وخطيب عميق الثقافة والحساسية الإنسانية. تعيد الفلسفة القوة والرحابة إلى الفعل الإنساني، والإيمان والثقة بقدرة العقل على تجاوز المحن، واستعادة القلوب رقتها واهتمامها العام بعد أن طحنتها كوابيس الاستبداد وظروف القهر وتطحنها عوائد وأخطار السوق الجهنمية ومآسي الحروب خلال السنوات القريبة الماضية. ليس لأن الفيلسوف يحلل فقط ، يجيب فقط، يعرف مثلما يجدر بالحكيم أن يعرف ويقول، بل لأن انشغاله ذاته بالفلسفة، بحبها الخلاق، محتاج إلى صلابة صارمة، وتحقق ملموس. الفيلسوف لا يعِدُ ولا يحلم، إنه يمسِكُ ويمنَحُ . ذلك أن الفلسفة كشفٌ مستمر في عالم يزداد هولاً وضبابية ولهاثاً . لأنه (كفيلسوف لا يريد أن يكون شيئاً آخر، غير رجل علم، لكنه رجل علم حقيقي وراديكالي، ولا يحركه سوى حب الحكمة). إنه الحب، الحب الذي لا يتوقف عن الحاجة إلى التماهي مع العالم وتطويعه لصالح الحكمة التي لا تزول بزوال القوة التي تفرض وتشوه وتبدل بلا رأفة وبلا حسبان. حبٌّ لا نهاية له، أو حنينٌ لا نهائي، لكن الفيلسوف موعود، كذاتٍ غريبة ومنعزلة داخل حبها، بالخسارة التي أتلفَتْ كلَّ حرمانات البشر إلى العدل والجمال والحق. إنه في نهاية المطاف يصل إلى إثراء نفسه بنفسه. لكن هذه السعادة الجنينية المكتفية النائمة تحمل معها بذورَ المرض. الفيسلوف مريضٌ بالسعادة، حتى لو لم تكن. مريضٌ بالخوف حتى إذا زال، مريضٌ بالحكمة ولو تحققت على يديه وأمام عينه . إنه ذلك الذي يبادر إلى نزع الأقنعة الرديئة خالقاً أقنعةً حرة وصحية وجميلة. إنه لا يستسلم أبداً، لا يرتوي أبداً! الفيلسوف لا يصل، لأنه لا يعرف الطرق، أو لا يسلك الطرق القديمة. الفلسفة لا تتحقق لأنه تظل مرهونة بحاجتها إلى نفسها. هذه أيضاً حكمة: أن لا تصل ولا تعرف. قديماً، مرة أخرى ، قالها محيي الدين بن العربي: (كل شوق يهدأ بالوصل لا يعول عليه). لكن، من جديد، ما هي الفلسفة، وما ضرورة الحاجة إلى فيلسوف أصلاً؟!! نذكر لمن يحب أن الشعر أيضاً يحتاج إلى فلسفة. هذه دعوة ملحة وليست ادعاء كيفما كان. الحاجةُ تصرخُ أو إنها تُهمَلُ فتُنْسَى مرة وإلى الأبد. الحاجة إلى الفلسفة هي الحاجة إلى تذوق العالم بأكثر من لسان، هي المسعى المستمر إلى الكمال الذي لا براء منه. ربما لأن الفلسفة، حباً بلا طمع، طمعاً بلا عقاب، تبدأ من الكمال نفسه. إنها مريضة بالكمال، وهذه هي ذروتها المقلقة. على الفلسفة – التي نحتاج ـ أن تشعرَ وهي تفكر، أن تعي وهي تتجسد، أن تتذكر وهي تمرح. على الشعر ألا يهمل العقلَ الذي يفكر ويبتهج ويتعثر ويصفو ويجازف؛ فأي انفصال لا يخدم الإثنين بل يزيد من عبء وجفاء الهوة التي بالتعوُّد على يبْسها النَّهِم وإكسابها حكْمَ الواقع الجاري، يخسر الشعرُ أعرق منابع حكمته، وتتحول طاقة العقل الشاعرة إلى تكيُّفٍ آلي حول تأملات مكررة جامدة. على الشاعر أن يختار العزلة، لا للهرب أو الانطواء عن مجرى الحياة وأحداث الواقع المحبطة، بل كسباً عميقاً ومتنوعاً للمعرفة القاسية كما عبَّر عنها الفيلسوف النادر فريدريك نيتشه : ‘ الشاعرُ يختارُ العزلةَ طلباً للمعرفة القاسية’.

‘ شاعر من سورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى