صفحات العالمما يحدث في لبنان

مراوحة المشهد اللبناني في خلفية صورة الضباط وقد أفرج عنهم

حازم الأمين
لا يبدو ان تغييراً كبيراً أحدثه اطلاق الضباط الاربعة في لبنان على مستوى خريطة نفوذ القوى، سواء السياسي او الانتخابي. لكن ما ترافق مع اجراءات الافراج لجهة تبني أطراف ما لهذا الحدث بصفته انجازاً سياسياً وانتخابياً لاحقاً أمر جدير بالتوقف عنده ورصد وتوقع معانيه. ويضاعف أهمية ذلك شعور فئات لبنانية كبيرة بأن الحدث يستهدفها ويحملها على التكتل من جديد.
في يوم الافراج كان المشهد الخلفي لبيروت موزعاً على النحو التالي: احتفالات في مناطق الشيعة حيث يتمتع حزب الله بنفوذ كبير ووحيد، حال من الترقب والكمد في مناطق السنة حيث لتيار المستقبل حضور، فيما بدت المناطق المسيحية أقل انفعالاً وانجذاباً لمعاني الحدث.
واذا اعتبرنا ان المرحلة المقبلة ستنطبع بحدث الافراج عن الضباط الاربعة فإن المشهد اعلاه سيكون بمثابة «vitesse au point zero»، أي السرعة عند النقطة صفر. ما يعني ايضاً ان السنّة سيضاعفون سنيّتهم (في السياسة طبعاً) والشيعة سيستغرقون في شيعيّتهم، فيما المسيحيون سيكونون مختبر الحدث ومؤشره، وهي حال لبنان منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
حزب الله الذي اعتبر ان الحدث حدثه، لا يبدو انه يجيد لعبة العلاقة مع مشاعر الجماعات الاخرى، او هو لا يريد. فهو اذ استأنف هجومه على تيار المستقبل انطلاقاً من واقعة الافراج، بدأ يجدد بهجومه هذا لحمة كانت بدأت بالارتخاء من حول 14 آذار. فالثابت الى الآن ان سر الانقسام اللبناني يتعدى حدث اغتيال الحريري وان ما يفصلنا من وقائع منذ الاغتيال وحتى اليوم اضيف الى مخزون شعوري لن يبدده حدث الافراج عن الضباط، لا بل من المرجح ان يكثّفه.
لا تبدو محاولات التوظيف مجدية حتى الآن، فهي تساهم في رسم خطوط الانقسام فتظهرها على نحو جلي. فعشرات ممن شعروا ان 14 آذار استخفت بعقولهم وخياراتهم اثناء تشكيلها اللوائح الانتخابية، عادوا اليوم وقرروا التوجه الى صناديق الاقتراع في السابع من حزيران (يونيو) المقبل، وشرائح واسعة ممن أصابهم إحباط ناجم عن تخبط 14 آذار وتنافسها على المقاعد واللوائح تعيد اليوم حساباتها لجهة «شد العصب من جديد».
حزب الله يتصرف وكأن الانقسام في لبنان قائم على توزع منطقي للقناعات، على رغم ان الاصطفاف خلفه هو تحديداً لا يخضع لذلك. وهو بتحويله الافراج عن الضباط الى نصر سياسي له، انما يضع قضيتهم في قفص سياسي اذا لم نقل مأزقاً. فاذا كان الافراج نصراً له فهو بالتالي هزيمة لشريحة واسعة من اللبنانيين، فهل يتحمل الضباط انفسهم هذه المعادلة؟
ثم ان موقع الضباط في المعادلة النفسية اللبنانية لن يخدم حزب الله، اذا كان هذا الاخير يقيم وزناً لما يتعدى خطوةً واحدة منطقة نفوذه الطائفية. فتجربة شرائح واسعة من اللبنانيين مع هؤلاء (حالهم حال غيرهم ممن اتيح له الحكم) ليست بيضاء. وان يختار حزب الله (طائعاً) موقعاً اشكالياً في العلاقة مع اكثر من نصف اللبنانيين، فإنه خاسر من دون شك.
قد يفهم المرء رغبة اللواء المفرج عنه جميل السيد في مباشرة هجوم على تركيبة سياسية امضى 4 سنوات في السجن في ظل وجودها في السلطة، وقد يُفسر ذلك بأكثر من اتجاه، لكن قرار حزب الله تصدّر الهجوم يعني رغبة واضحة بوضع شريحة واسعة من اللبنانيين خارج طموحه في إقامة علاقة معها، خصوصاً ان الحزب ليس من السذاجة التي تدفعه الى الاعتقاد بأن انقلاباً كاملاً في المشاعر أصاب هؤلاء جراء الافراج عن الضباط.
السياسة في لبنان تختزن قدراً لا يُستهان به من السذاجة والخفة والسهولة، واندفاعة حزب الله الأخيرة بدأت سريعاً تؤتي ثماراً معاكسة. فالحزب بطبيعته لا يبعث على الطمأنينة في أوساط الكثير من الفئات اللبنانية، وهو اذا اراد لخطوة الافراج ان تثمر، كان عليه ان يبتعد اكثر عن وقائعها، وان يتركها في منطقة بعيدة عن التوظيف المباشر، فتتسرب الى القناعات من دون قوة دفعه السلبية. الأمر نفسه ينطبق على الضباط الذين يبدو ان بعضهم قرر النزول الى الساحة مجدداً، ثم انهم (الضباط) غير مأموني الجانب واياديهم ليست بيضاء في الكثير من المحطات، فاذا ما أضيف الى ذلك تولي حزب الله مواجهة خصومه بقضيتهم فإن ذلك سيضاعف من انعدام الاجماع من حولهم. وما يقولون انه ظلم وقع بحقهم ستبدده محاولات التوظيف. هذا في ما يتعلق بالضباط المفرج عنهم باستثناء جميل السيد، اذ ان الأخير قرر ان قضيته عامة وانه جزء من تحالف ومن انقسام.
الأرجح اننا استأنفنا في لبنان لحظة «حيوية» في انقسامنا، وستأتي الانتخابات النيابية على وقع هذه الحقيقة. شيء يشبه 14 آذار 2005 مسحوباً منه ايجابية تلك اللحظة. فالصورة التي أريد لواقعة الافراج عن الضباط ان تكونها ايقظت عصبيات كانت بدأت بالتكاسل، هذا على مستوى الانقسام الشيعي السني، اما مسيحياً فالمشهد اكثر تعقيداً، اذ ان واقعة الافراج وفرت لطرفي الانقسام المسيحي اوراقاً سنختبرها في الايام القليلة القادمة. العونيون سيحاولون استثمار الافراج لتأكيد وهن وهشاشة موقع منافسيهم، فيما سيتولى الآخرون الدفع بوقائع الأيام الخوالي، ايام كان الضباط الاربعة رموز مخاصمة النظام للمسيحيين ورأس حربة استهدافهم، بدءاً من 7 أيار (مايو) مروراً بإقفال وسائل الاعلام ووصولاً الى السجن والابعاد.
الضباط ليسوا ورقة رابحة في حمأة الانقسام اللبناني، وحزب الله بدوره ليس قوة الدفع المناسبة لقضيتهم في حال حُسم موضوع ظلامتهم. وافتراض خدمتهم قضية حزب الله وخدمته قضيتهم يقابله ما تخلفه سمعة الحزب في وعي شرائح لبنانية كبيرة في قضيتهم، وما يخلفونه هم في قضية الحزب.
الفرص متكافئة حتى اليوم: السنّة ما زالوا خلف المستقبل والارجح انهم صاروا خلفه اكثر، والشيعة خلف حزب الله، والميزان المسيحي يتأرجح ويستعد بعد ان أضيفت عناصر جديدة لتخبطه.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى