صفحات ثقافية

جرائم بلا روايات

null
عباس بيضون
رغم أن الجرائم ليست قليلة إلا أن الرواية البوليسية ليست زاهرة عندنا. هناك بدايات لكنها ظلت بدايات، من السخف التفكير بأن كثرة الجرائم تنتج أدباً بوليسياً. لو كان الأمر كذلك كنا الأسبق في هذا الفن. ماذا كان لبنان سيقدم فيه او العراق او السودان، في بلدان كهذه عالمان متوازيان: عالم للحضور وآخر للغياب، في بلدان كهذه نعيش مع الغائبين المختفين والمفقودين والمخطوفين بقدر ما نعيش مع المعلومين، البحث عن المخطوفين والغائبين، البحث الطويل والتحري الطويل والفحص الطويل للأدلة الصحيحة والأدلة الزائفة هو تقريباً كل شاغل العشرات. هناك هذه المطاردة المثابرة لعلامات حقيقية وعلامات كاذبة، ومع ذلك لا ننتج أدباً بوليسياً. لم ننتج ولا يبدو أننا بصدد ان ننتج الجرائم التي تحصل في بغداد ودارفور ولبنان. لا تحتاج لمن يبحث عن المجرم، غالباً ما يكون المجرم معروفا وغالبا ما لا يهم كثيراً أن نعرفه. ليس اسمه هو المهم ولكن أسبابه، حين يقتل او يخطف واحد لمجرد انه ينتمي الى مذهب او دين او عرق او لون. لا يهم من هو القاتل. اننا نتعرف عليه في عصبية ما، في عقلية ما، في تربية ما، في ثقافة ما، ولا يهم، لا يهم على الإطلاق من هو بالاسم والكنية. نعرفه ام لا نعرفه فهذا لا يعني شيئاً، لو عرفناه سيبقى مع ذلك نكرة، ولن نحفظ له اسماً، فنحن نعلم انه لم نقصد واحداً بعينه، ولكنه قصد حيه او دينه او عرقه فحسب.
هذه هي الجريمة التي لا نجهل من فعلها. مع ذلك تبقى مجهولة ويبقى صاحبها مجهولاً، نعرفه لا بالاسم ولكن بالجهة والاتجاه والمدبر والدافع. تبقى جريمته، أيا كان اسمه، عامة. ويبقى صاحبها لا شخصاً. بل يمكن القول في الحساب الأخير، ان جريمة كهذه مغفورة ومباحة تقريباً، نستفظعها حتى تحصل فهي اكبر من ان تكون فردية، انها جماعية وهي تصل إلى حد التطهير العرقي، لكنها ليست أفعال أفراد فحسب، إن وجد هؤلاء فقد فعلوا ما فعلوا باسم جماعات فوّضتهم ام لم تفوضهم الأمر سواء، لا تفوض الجماعات مجرمين، لكنها تتبناهم فيما بعد، تنكرهم، ربما في البدء تم لدى أول رد فعل، تستردهم إلى كنفها وربما تجعل منهم أبطالاً فيما بعد. أبطالاً أم شهداء. تدافع عنهم او تعتذر عنهم. تجعل التبعة على الطرف الآخر، تحتج لهم بألف حجة، ثم لا تعتم أن تجعل منهم أبناءها المخلصين وحاملي راياتها، جرائم كهذه مغفورة ومباحة، لأنها جرائم تغدو تاريخية. ستختفي في المصالحة، ستتحوّل إلى معادلة سياسية. ستغدو بعد قليل صراعاً عاماً ولن يكون ممكناً عندئذ إلا طلب الاعتذار او التنصل، لكن جرائم كهذه على وحشيتها المخيفة، ليست جرائم، إنها أفعال تاريخية وسينظر إليها على هذا الأساس.
الرعب هنا وربما من هنا لا نجد أدباً بوليسياً. حين تكون الجريمة فردية يمكن التفكير بأدب بوليسي، حين تكون الجريمة مدانة ومحاصرة بقانون واتفاق جماعي يغدو ممكناً تحريها وكشفها وتقديمها للمحاكمة، أما حين تكون الجريمة مغفورة ومباحة وتاريخية وجماعية فما حاجتها إلى التحري والتحقيق. المجرم معروف ولو كان مجهولاً، والمجرم جماعة ولو كان فرداً. حين تكون الجريمة شرعية فما الحاجة إلى محاكمة وقانون؟ حين تكون الجريمة، في وقت ما، هي القانون فما الحاجة الى تحريها؟ حين تشيع الجريمة وتعم وتبتذل فما الحاجة إلى أدب بوليسي؟
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى