صفحات مختارة

نحو دراسة نظرية للدولة والمجتمع في العالم العربي

كرم الحلو
قد تكون مفاهيم الدولة والسلطة والفرد والمواطن والمجتمع المدني الأكثر إشكالا واختلاطا في الخطاب العربي المعاصر مع أنها الأكثر تداولا وسجالية على ساحة هذا الخطاب. ولعل هذا بالذات ما يشكل خلفية كتاب «الدولة والمجتمع، جدليات التوحيد والانقسام في الاجتماع العربي المعاصر» لعبد الإله بلقزيز، الشبكة العربية للأبحاث والنشر 2008، حيث نبّه الباحث في المقدمة الى كثرة الحديث حول الدولة في العالم العربي وعلاقتها بالدين والمجتمع المدني والاقتصاد وحقوق المواطنة، في حين أن معظم المكتوب المتداول لا يرقى الى مستوى الانتاج الفكري بسبب الفقر في محتواه المعرفي وقاموسه المفاهيمي وخلفيته النظرية، فضلا عن ضعف صلته بمصادر الفكر الانساني. فما هو متاح من أفكار حول الدولة أقرب ما يكون الى السجال الايديولوجي منه إلى الجدل الفكري، إذ ان ثمة التباسا في مفهوم المجتمع المدني وعلاقته بالدولة، وهناك خلط بين الدولة والسلطة في معظم ما يكتب، حتى في الأوساط الأكاديمية.
في رأي المؤلف ان المجتمعات التاريخية لا تنشأ إلا في كنف الدول، وأنه لا سبيل إلى أن يعيش مجتمع من دون دولة، فالدولة ليست مضافا في تاريخ المجتمع، بل هي ماهيته التي من دونها لا يكون مجتمعا، بل فضاء لجماعات منفصلة عن بعضها. انها ثورة في تاريخ المجتمع بمقدار ما كانت تأسيسا جديدا لمعناه ولوجوده التاريخي، بل هي تتمتع بوجود قبلي سابق لوجود الأفراد والجماعات، ولكنها ايضا من صنع الانسان وليست كيانا منزلا من السماء. ان قهريتها، أي سلطتها الإلزامية، ليست منفصلة عن إرادة المجتمع، بل هي تُمارس باسمه وتمثل إرادته. إلا أنه ينبغي التمييز بين الدولة والسلطة. الدولة نصاب تمثيلي مجرد محايد، وهي تطابق الأمة وتعبر عن كيانيتها السياسية والاجتماعية، أما السلطة فمحط منافسة سياسية بين الفئات والأحزاب وهي قابلة للتداول والتغيير.
يقرأ المؤلف مسألة الدولة في علاقتها بالمفاهيم الرئيسة التي ترتبط بها، فيلاحظ أنه لا يمكن التفكير بالدولة الديموقراطية الحديثة، إلا بالتلازم مع التسليم بمركزية الفرد. وحين نتحدث عن الحرية، يتجه التفكير رأسا إلى الأفراد، لأن الحرية هي جملة ما يتمتعون به في الدولة الحديثة من حقوق سياسية واجتماعية، وكذلك لا يستقيم الحديث في المجتمع المدني من دون التسليم بمكانة الفرد فيه، إذ ان الفرد مبدأ المجتمع والدولة، وحين تتعارض الدولة مع المجتمع والفرد تفقد شرعيتها وتنقض مبرر وجودها وتنتفي أخلاقيتها التي تتأسس عليها.
في هذا السياق أعاد هيغل النظر في العلاقة بين الفرد والمجتمع والدولة، مشددا على أن الفرد لا يحقق ذاته إلا في إطار الدولة، فأداء الأفراد لواجبهم هو تحقيق لذواتهم، حيث تتحد المصالح الخاصة مع المصلحة العامة على نحو لا مجال فيه لافتعال تعارض نظري بين الدولة والفرد، وإذا كان من وظيفة للدولة فهي حماية المجتمع والأفراد وحرياتهم. كما أن الفرد نفسه لا يملك حريته إلا بما هو عضو في الدولة، إذ لا مكان للحرية خارج نطاقها، لأن الحرية علاقة سياسية داخل الدولة وليست في الخروج على نظامها وقوانينها.
ثمة تلازم إذن بين الدولة والحرية يعبّر عنه التلازم بين الواجب والحق. فالواجب ليس إكراها للفرد من قبل الدولة، وهو إذ يتحقق يحقق الأفراد من خلاله حقوقهم الفردية وحرياتهم الشخصية. وما يقال عن جدلية الفرد والدولة، الحق والواجب، يقال عن جدلية الدولة والمجتمع المدني الذي لا يوجد إلا في نطاق الدولة الوطنية الحديثة، وهو قطعا مجتمع مواطنين في دولة يؤسسها مبدأ المواطنة. انه لمن الخطأ افتراض التعارض بين القانون والحرية، بين الواجب والحق. الفوضويون وحدهم يذهبون هذا المذهب الذي ليس في حقيقته نزعة ضد الدولة فحسب، وإنما نزعة ضد المجتمع والفرد.
وإذا كان الفكر لليبرالي قد نادى بأولوية الفرد والمجتمع على الدولة، زاعما ان التحرر الاجتماعي والانساني إنما يكون بالتحرر من سلطة الدولة التي تحد من حريات الأفراد، فإن الفكر الماركسي قد قال أيضا بأولوية المجتمع على الدولة مشددا على أن التحرر منها شرط لانبثاق الوجود الانساني الحقيقي. هكذا تتوحد الايديولوجيتان، على تنافر بينهما، في رفض الدولة. لكن المفارقة ان الليبرالية والماركسية على السواء تأدّتا في التطبيق الى عكس ما نادتا به، أي الى التمسك بالدولة، بل الى تقديسها ومحورة الفاعلية الاجتماعية والسياسية عليها، وإن كانت العولمة الراهنة قد شكلت هزيمة لها وتجاوزا لسلطانها، مؤذنة بالانتقال من فضائها الضيق إلى رحاب الكونية المفتوحة.
إن الحقيقة التي ما استطاعت الايديولوجيتان إقامة دليل على بطلانها هي ان المجتمعات لا تقبل الوجود والبقاء من دون كيان الدولة فيها.
لقد اشتركت الليبرالية والماركسية في إنتاج صورة للدولة قوامها اقتران كيانها بالعنف، قمع الفرد الأولى وقمع الشعب في الثانية. لكن هل يمكن افتراض دولة من دون عنف؟ مثل هذا الافتراض ضرب من الطوبى في رأي المؤلف وهو يرادف افتراض اللادولة. لكن العنف يجب ان يكون مشروعا وقانونيا ومن أجل مصلحة عامة وليس من أجل فئة او نخبة. والدولة وحدها يجب ان تحتكر العنف، لأن سوى ذلك يفتح العلاقات الاجتماعية على الحرب الأهلية والفوضى. هذا الاحتكار ليس مظهرا لتسلطية الدولة، فليس صحيحا ان شرعية الدولة لا تتحصل إلا بالعنف، بل بقبولها اجتماعيا، فالقوة وحدها لا تصنع شرعية، ولا بد لأية دولة من إيديولوجيا تبرر سلطانها، إذ لا دولة حقيقية بدون ايديولوجية دولوية.
في ضوء هذه المقدمات الأولية نظر المؤلف في إشكالية الدولة في العالم العربي، فرأى أنها لم تبلغ على تعدد طبعاتها، درجة من التطور تجعلها موضوعا للبحث من منظور مفاهيم الفكر السياسي الحديث، ولم تقطع بعد مع موروثها التقليدي السلطاني، بل ان هذه الدولة تنهل شخصيتها من اجتماع سياسي لم ينفصل عن الروابط العصبوية الحاكمة للاجتماع الأهلي الذي يعيد انتاجها في صور مختلفة. ومن هنا ما برحت منظومة المفاهيم الخلدونية تقدم امكانيات مذهلة لفهم جملة من ظواهر الاجتماع السياسي العربي المعاصر.
ان تكوين الدولة في العالم العربي تواجهه معضلات أربع: أولها حداثة عهدها وعسر قيام مجال سياسي حديث خاص بها، فضلا عن تماهيها مع المجتمع الأهلي وإعادة إنتاجها النظام العصبوي، وثانيها مضمونها التسلطي وضيق تمثيلها الاجتماعي والسياسي، وثالثها إرادة الحد من وظائفها باسم المجتمع المدني او بدعوى الاصلاح الاقتصادي، اما رابعها فعلى ترابط مع العولمة وتأثيرها السلبي على كيان الدولة وتماسكها وسيادتها.
ولقد نبهتنا الفتن والحروب الأهلية إلى هشاشة المجتمع والدولة العربيين، فعند أي انقسام اجتماعي تبدأ الدولة في فقدان سلطانها السياسي، إذ ثمة ترابط بنيوي بين الدولة والمجتمع، والذين يضعون الدولة مقابل المجتمع المدني يتجاهلون حقيقة ان الدولة والمجتمع المدني وجهان للحداثة السياسية، فلا مجتمع مدنيا من دون دولة حديثة. كما أنه من الخطأ افتراض الدولة مجرد أداة للقمع وتجاهل أجهزتها الثقافية والايديولوجية من إعلام وتعليم وتنشئة دينية.
باختصار ان هشاشة الدولة العربية عائدة الى طراوة عودها، والى ثقل المواريث السلطانية المنحدرة من التاريخ الوسيط، وعصبوية القوى الاجتماعية في كيانها السياسي، فضلا عن ضعف فكرة الدولة في المخيال الجمعي. لكنه من العدمية نفي أي دور تحديثي للدولة في العالم العربي، فإن مكتسبات اجتماعية كبرى قد تحققت في نصف القرن الأخير. إلا أن البنى السياسية والاجتماعية بقيت متكلسة تعيد انتاج نفسها باستمرار، ومع ذلك لا يجوز نقد الدولة من أجل نقضها على النحو الذي تسلكه القوى الطفيلية بتبديد القطاعات الانتاجية وسياسة الصفقات والعمولات، فقد كانت نتائج مثل هذه السياسة كارثية على المجتمعات التي أخذت بها.
ان حالة الانسداد التي تعانيها المجتمعات العربية لا يكفي معها إبرام تسويات طائفية وعشائرية او إنتاج نظام للمحاصصة الطائفية والعرقية، إنما يكون الخروج منها من خلال عناوين معلومة: العقد الاجتماعي، الاصلاح الديموقراطي، الاندماج الاجتماعي والانتقال من المجتمع الأهلي العصبوي الى المجتمع المدني الحديث.
نقول أخيرا ان الكتاب على الرغم من التكرار الذي شابه ومن طوبوية بعض طروحاته يبقى مرجعا في كشف الاختلاط في المصطلحات الملتبسة في الخطاب السياسي العربي، وفي تحديد الخطوط الفاصلة بين الدولة والمجتمع المدني، بين السلطة والاستبداد، بين الحداثة والعصبويات في كل أشكالها المؤدية الى الفتن والحروب الأهلية.
([) ـ عبد الإله بلقزيز ـ «الدولة والمجتمع ـ جدليات التوحيد والانقسام في الاجتماع العربي المعاصر» ـ الشبكة العربية للأبحاث والنشر ـ 2008.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى