صفحات ثقافيةيوسف عبدلكي

الــنـــبــــع الأول

null
يوسف عبدلكي
فادي يازجي فنان يأتي من الناحية الأخرى، ناحية البراءة، بعيداً عن المهارات المدرسية، وحذق المهنة.
تقلّب في أتون الأسئلة ومخاضات الأجوبة، وسلك طرقاً، واهترأت أصابعه بتجربة تقنيات، ثم عاد الى نفسه، الى الطفل الذي يسكنه، الى اللعب.
بعد تخرّجه من كلية الفنون الجميلة في دمشق عام 1981، أخذ مثل كل صوت جاد يبحث عن الخاص. استخدم أشكالاً رشيقة مبالغاً في استطالتها، تنوس بين التشخيص والتجريد، ثم راح يستخدم أوراق الجرائد في رسومه مؤطّراً أشكاله بخطوط سوداء ثقيلة غير مبررة، بعدها جذبته العجائن الكثيفة للألوان الزيتية فراح يدعكها بكرم على سطح لوحته. أنتج وقتها سلسلة من شخوصه الممسوخة الكافكوية الدفاقة بالعواطف. شخص في اللوحة أو إثنان، يتحاوران أو يتصارعان، مفصولين عن خلفية ذات لون مغاير. أمسك يازجي وقتها، ووقتها فقط، برأس خيط نفسه، كأنه قال عندها لحاله من هنا أبدأ. ولكنه ككل فنان أصيل كانت تأكله الأسئلة، كان يحتاج الى محاور. أخذ يناقش، يشكك، يطرح هواجسه مع أبناء المهنة. أرسل إليَّ وقتها خمسة أعمال الى باريس لأقول فيها كلمة ما، فراعتني وحشية الألوان والأشخاص. قلت لنفسي: أيّ صخب مأسوي يضج في قلب الفنان الذي يصوّر هذا! كتمتُ ذلك، وقلتُ له عنها كلاماً كثيراً في رسالة تتحدث باستفاضة عن تقنية اللوحات. لكن تبيّن في ما بعد وكأن يازجي بثّ في تلك الأعمال سواد قلبه فعاد بعد فترة طفلاً نقيّ القلب. فأخذ يرسم على الخام الأبيض غير المؤسس رسوماً لأشخاص وحيوانات، رجال ونساء أشبه ما يكونون بأطفال، او تسكنهم براءة الطفولة. في هذه المرحلة الأخيرة يستخدم يازجي أحبار التبصيم الشعبية على القماش التي عرفها الحرفيون في بلادنا، في حلب وحماة على وجه الخصوص. ألوان مصنوعة من الخامات البلدية، ولكنها تصمد لمرور الوقت. ومن ميزات هذه الأعمال أنها لا تقع في فخ المعالجات الفولكلورية لتي نجدها لدى الكثيرين من الفنانين في سوريا وفي الدول العربية، والتي تتوهم أن استخدام الخامات البلدية كفيل وحده لتبرير العمل، لإعطائه هوية أو قيمة. هذه المعالجات تنسى أن كل الخامات لا قيمة لها في حد ذاتها، إنها أدوات، أدوات فقط، ليحقق الفنان بواسطتها رؤاه.
يعمل فادي يازجي بتلقائية أمام اللوحة . يرسم عشرات الرسوم قبل الشروع في عمل اللوحة، لكنها ليست رسوماً تحضيرية لضبط الأشكال أو الألوان أو البناء، يرسم رسومه الصغيرة كتدريب لمخيلته، كعازف يدندن قبل بدء العزف. وهكذا عندما يقف أمام اللوحة لا يعيد رسم ما أنجزه في تلك الرسوم، يقف أمام اللوحة بشغف، بعري، مجرّداً من كل سلاح، سوى سلاح الرغبة في الرسم، فتأتي لوحاته بريئة، طفولية، بعيدة عن جفاف الأكاديمية وجفاف الأعمال المحضّرة طويلاً، وأيضاً بعيدة عن أي تفسيرات أسطورية.
ففادي يازجي لا يرسم أساطير، ولا علاقة لعمله بأيّ ميثولوجيا قديمة. إنه ابن اللحظة وطزاجة الحواس وتقديس الارتجال. يرسم أشخاصاً، أطفالاً، سعداء، جذلين، عراة، عراة من الثياب ومن الضرورات وشظف العيش، عراة وكأنهم خارجون للتوّ من جنّة متخيّلة، واقفين، جالسين، منحنين، مقلوبين، مع ألعابهم، ودرّاجاتهم وقططهم، ولكنهم على أيّ حال سعداء بما هم فيه من براءة وفرح. كل ذلك على نقيض أعماله القديمة السوداء. ذلك لا يمنع أن نجد الطفل المشاغب يطل بين الفينة والفينة ليرسم لنا عيوناً مفتوحة على آخرها، وابتسامات بلهاء. تلك الشخصيات تحتاج الى وقفة، ماذا يريد منا فادي؟ هل هي أقنعة لشخصيات حقيقية يصادفها؟ أم أنه صك إدانة للبله الذي نراه حولنا؟ أم أنه يشير الى أن كل شيء يحمل في أحشائه خلافه أو نقيضه. حتى البراءة تستبطن نقيضها.
لوحات يازجي خرائط خطية بالغة الحيوية والتنوع، تتزاوج فيها الخطوط الرفيعة بالغليظة، القاتمة بالفاتحة، القاسية باللينة، ولكثرة مرانه أصبحت اللوحة بنت عاداته اليومية كالمأكل والمشرب. يرسم، يضيف، يحذف، يدقق، ويعيد الرسم والإضافة، كل ذلك يؤديه ببساطة ممتعة. فهو يقبل على اللوحة من دون حسابات مسبقة، يترك لفرشاته حرية التحرك، فترسم رجلاً هنا وامرأة هناك وقططاً فوقهما، وعندما تتصادم الأشكال لا يوقف فادي ريشته ليوحي لنا أن هذه اليد هي في المستوى الأول وطرف القطة في المستوى الثاني كما توجب قواعد المنظور، بل بكل بساطة يرسم الشكلين متداخلين أحدهما فوق الآخر. ومع تراكم هذا التعاطي الحر مع الأشكال تتجلى اللوحة كشبكة من الخطوط الحرة المعجونة ببعضها، فتحصل على نسيج غرافيكي حيّ بغض النظر عن المغزى التشخيصي للوحة.
في أعماله بالأبيض والأسود ودرجات الرمادي غير المتناهية يقدّم الينا فادي يازجي دعوة الى المتعة، متعة البصر، وهو حين يوشّح ببعض الألوان هنا، ويضيف خلفيات ملونةً هناك على خلاف ما عوّدنا عليه على مدى سنوات فلكي يزيح عن ذهننا فكرة أنه أسر نفسه في إطار نهائي، في أشكال وتقنيات وتحويرات نهائية. ليقول لنا إن الفن كان بالنسبة اليه مغامرة حياته الكبرى، وككل المغامرات فإن أسئلتها تتجدد، وطرقها تتجدد، وتقنياتها تتجدد، كأنها طائر الفينيق الذي كلما مات انتفض من رماد العادة وغباء الاستقرار.

خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى