صفحات الناسمحمود عيسى

خليّة آب /مطر الغياب: نقل وتوزيع المتخفّين

null
محمود عيسى
الجزء الثالث
نقل وتوزيع المتخفّين
أعداد المتخفّين كبيرة.. المدن الصغيرة لا تستطيع استيعابهم وحمايتهم.. صوب دمشق إذن.. بعد توفير أماكن إقامتهم، في دمشق يتوفر الأمان.
حلّ دور جمال في السفر إلى دمشق. كان لقاؤنا مساءً في الشارع الواصل بين الجامعة ومفرق بساتين الريحان.. شارع شعبة التنجيد الثانية.. أبلغته أن موعد سفره قد حان وأن عليه أن يجهز نفسه وأغراضه.. طلب مني تأمين منزل خاص من أجل توديع صديقته نجاة.. لم تكن أمامنا خيارات عديدة.. بل الخيار الوحيد هو اللقاء في بيت المارتقلا.. كان اللقاء حزيناً.. 
والد جمال يبحث عنه, وقد أرسل قصاصة ورق أعطاه إياها أحد ضباط فرع الأمن العسكري.. حول ضرورة مراجعة جمال للفرع لعدة أسئلة وبعدها سيتم إطلاق سراحه ..
كانت المناورة مكشوفة, لاداعي للمخاطرة.. وإن فنجان القهوة يعني سنيناً من الاعتقال..
لما ضاعت جهود الأب المنكوب, في أن يعيد ابنه طالب الطب إلى جامعته وبيته انهارت أحلامه وأصيب بنوبات من الغضب والهستيريا التي أفقدته السيطرة على أعصابه..
نهض جمال صباحاً.. تاركاً خلفه الأهل والجامعة وربما السجن.. واختار صامتاً التخفي النهائي والمصير المجهول.. والمستقبل الغامض.. افترقنا.. على موعد باللقاء في بانياس في اليوم التالي الساعة التاسعة صباحاً على مفرق القدموس ..
كان السفر إلى دمشق بشكل متقطع.. من اللاذقية إلى بانياس .. ومن بانياس إلى مصياف, ثم حمص ثم دمشق.. في محاولة لتجنب المرور على الحواجز..
وصل إلى موعده صباحاً، تمشينا على شاطئ البحر … كان يتجه صوب اللاذقية ويعب من هواء البحر الثقيل مودعاً..! تودعنا في بانياس .. بعد أن أخذ مكان وزمن الموعد في دمشق، الأول والاحتياط .. وتفرقت خلية آب.. زياد اعتقل .. وهاهو جمال يصبح متخفياً.. وأحمد الزعتر متفرغ.. وسافرت بدوري إلى طرطوس، ثم إلى دمشق، نزلت على الموعد المركزي .. لأن المواعيد بعد حملة الاعتقالات ازدادت تعقيداً.. وكان علينا استخدام لوحات الأمان, لوضع إشارة متفق عليها في لوحة الأمان, قبل الموعد .. كانت لوحة الأمان في نفق شارع الثورة. حيث كان هناك مستطيل ماستر ينبغي وضع إشارة × داخلة.. أما الموعد فكان في القنوات.. حملت الإشارات المتفق عليها، جاء الشخص المكلف بالموعد وألقى علي سؤال كلمة السر:
ـ  أين مجمع إبن عساكر؟
ـ إنه في القاموس المحيط.
تم اللقاء ..
كان الموعد الثاني مع “بلال” الأسمر قصير القامة والمتخفي منذ فترة طويلة، وتعرض للاعتقال سابقاً ثم خرج في شباط 1980 ثم عاد إلى العمل السياسي و التحق بالحزب، واضطر للتخفي مرة أخرى، عمل فترة طويلة في اللاذقية قبل اضطراره للسفر إلى دمشق بسبب انكشافه هناك.. وتركز الضغط الأمني من أجل إلقاء القبض عليه.. وأصبحت قصته مشهورة عندما عاجل الشخص الذي يريد اعتقاله بلكمة قوية على وجهه، أفقدته الوعي.. وتمكن من الهرب …
تركز الحديث في لقاءنا حول الهم الأمني.. والتشاور في إمكانية نقل تكتيك الحزب في مواجهة الأزمة “الهجوم السياسي والكمون التنظيمي” من النظرية إلى حيز الواقع…
ـ بعد ساعة سيصل جمال وعليكم استقباله.
ـ كل شيء جاهز لاستقباله في فندق خمس نجوم ..!
في الوقت المحدد للموعد .. نزلت إلى مكان الموعد مع جمال في البحصة أمام المركز الثقافي الفرنسي .. لاشيء غريب إلا جمال،  يقف حاملاً إشارات الموعد كالغريب ينتظر من يأتي ليستقبله.. كانت المفاجئة عندما ناديته.. فأغرورقت عيناه ..
ـ هل حصل أي شيء؟
كان الحزن والإرهاق باديين بسبب السفر الطويل. أشفقت عليه.. وأخفيت مشاعري .. وكبست على الجرح بالملح ..! سرنا سوية وقلت له:
ـ هل تعرف دمشق جيداً ؟
اشتد حزنه وصمته .. صعدنا  باتجاه الجبل .. على طريق المهاجرين .. حتى وصلنا إلى منطقة الموعد قرب المعهد الثقافي الإسباني  “سرفانتس” صعدنا على الدرج درجة درجة كان “بلال” ينتظر في أعلى الدرج، عندما شاهدنا نزل الدرج نحونا .. تعانقا طويلاً .. انعطفنا على اليمين وصعدنا الدرج الموازي .!
ـ هل تريدون مني شيئاً ها قد أوصلتك سالماً .. لا أستطيع التأخر .. لأني يجب أن أكون قبل الصباح في بانياس قبل أن يغادروا البيت ..!
كان باص “الهوب هوب” هو واسطة النقل الرئيسية .. فالطريق طويل .. والبرد شديد .. نزلت في بانياس على جسر القدموس، تجاوزت الساعة الثانية والنصف صباحاً .. الهواء بارد جداً .. المدينة نائمة يهدهدها البحر .. أصوات الأمواج المتكسرة على الشاطئ، وبعض السفن كأنها قادمة نحوي.. طريق القدموس مستقيم يفضي إلى البحر تماماً..
وصلت إلى البناية أخرجت مفتاح الباب وأدرته على مهلن وبهدوء أغلقت الباب خلفي .. كان أحمد الأشقر مايزال ساهراً ينتظر عودتي.. انفرجت أساريره وهدأ .. ناولته الرسائل السرية قرأها ثم أحرقها على الفور.. قلت له:
ـ يبدو أن موعد سفرك ياصديقي إلى دمشق قد اقترب أيضاً .. لم يبق أمامك سوى يزن وثائر..
في الثامنة صباحاً سافرت إلى اللاذقية وقابلت يزن ..يزن غير منضبط .. يخرج كثيراً من المنزل.. ويذهب إلى أقاربه, ويصل إلى حارته في “الدعتور”..
كان قلقاً يجلس على الطاولة ويضع أمامه وقلم ويتقمص دور المحقق والضحية.. يسأل ويجيب:
ـ س : ما علاقتك بالأشقر؟
ـ ج: لاأعرفه ..
وازداد اضطراباً عندما أبلغته أن ساعة الرحيل قد حانت.. ولما أصر على معرفة آلية السفر وزمانه.. قلت له أن السفر سيكون متقطعاً وربما إلى حلب ثم إلى دمشق كي نتجنب بعض المخاطر الأمنية.. أبلغني أن لديه واسطة نقل مأمونة تنقله إلى حيث يشاء.. شرط أن يتم تبليغه قبل 24 ساعة من السفر.
وصل يزن إلى دمشق، عبر واسطة النقل التي أمنها بنفسه، فنزل إلى الموعد في الشارع المجاور لمشفى المواساة.. كانت إشارة التعارف هي سندويشة يأكل فيها.. أما السؤال: فأين مطعم العمر؟ الجواب: أنه على سطح القمر ..!
لم ينزل أحد .. كانت السفرة مكركبة من بدايتها.. وضرب دولاب الباص أول مرة قرب تلكلخ, وضرب دولاب آخر في قارة.. وصل الباص… كنت أول النازلين منه.. استقليت أول سيارة أجرة: ـ إلى المواساة.
ـ خير انشاء لله!! هل لديك مريض هناك؟
ـ نعم!
ـ عليه العافية .. ماهو مرضه ..؟
ـ الجنون .!
ـ لكن المجانين يوضعون في مشفى ابن سينا في عدرا!
ـ امتلأ ابن سينا بالنزلاء ..!
ما زال الوقت باكراً على الموعد الثاني الاحتياطي.. اشتريت سندويشة فلافل بدأت الأكل فيها أخذت أخطو خطوات بطيئة على مهل, أتفحص مداخل البيوت وأدقق بأرقامها وكل ما يغطي مرور الدقائق الثقيلة حتى يحين الموعد .. وقبل نهاية الشارع بعدة أمتار من المشفى .. أطل من الجهة المقابلة يزن, حاملاً سندويشته فلما رآني ألقى سندويشته على الأرض… ورمى بأعلى صوته رشقة من السباب والشتائم.. تعانقنا طويلاً .. أعطيته مفتاح الموعد المركزي, ليضع الإشارة في لوحة الأمان الموجودة   في كبينة الهاتف على يمين مدخل سوق الحرف اليدوية خلف وزارة السياحة ..ثم ودعته وافترقنا .. التقينا سوية بعد عدة أمتار، ثم عاد وتوقفت بإشارة من يده ..
ـ ماذا تريد؟
ـ سلّم لي على اللاذقية والشباب .. وزوجتي وطفلتي..
سيطرت علي في الرحلة كلماته الأخيرة .. وبدأت أستوعب سبب عدم انضباطه خلال إقامته في بيت “مارتقلا” وصلت إلى بانياس، باكراً، العاشرة مساءً
أحضر أحمد العشاء.. أخذت حماماً ساخناً.. وتعشّينا واستمر أحمد الأشقر صامتاً.. الصمت ولاشيء غير الصمت .. افتتحت الحديث عن يزن وطفلته وزوجته وقلت له:
ـ إذا كنت تعرف مدخلاً إليهم فأرجو أن تطمئنهم بوصوله سالماً..
تملكني إحساس فظيع بالفراغ الذي يشكله غياب الأحبة.. والسفر الدائم والحركة الدائمة .. وسألت نفسي إذا جاء دوري فمن سيتولى إدارة المنطقة وشؤون الرفاق رغم أن الاعتقالات متقطعة .. فلا يجري تعويضها .. ولم نلتقط الأنفاس بعد .. وإن معظم المتبقين يعانون من آثار الفترة على نحو مباشر إما بخسران أخ أوقريب أو صديق …
قطع أحمد صمته وقال:
ـ ألن تذهب إلى بيت “أم عادل” لأنك وعدت الصبايا بزيارتهم قريباً.. ومساعدتهن بالدراسة..
ـ غداً بعد أن أعود… سأحاول أن أعود باكراً، من أجل زيارتهن..
**  **  **
يتبع
اقرأ في الجزء الرابع من  “خلية آب/ مطر الغياب”
** أم عادل**
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى