صفحات أخرى

بموجات دماغك… تتحكّم بما حولك!

واشنطن – جويل غارو
تعتمر جهاز الرأس الخالي من أي أسلاك. يبدو هذا أشبه بالجهاز الذي يستخدمه المروّج عبر الهاتف، إلا أن تلك القطع التي توضع في الأذن هي في الواقع أدوات استشعار والميكروفون جهاز رصد موجات الدماغ. لذلك تضع طرفه على جبينك فوق حاجبك الأيسر.
على بعد أمتار قليلة ترى كرة بينغ بونغ داخل أنبوب شفاف يُدعى Force Trainer. ترتكز هذه اللعبة على استخدام أفكارك فحسب، كما تُظهر العصا السحرية على جبينك، لرفع الكرة. تترجم موجات دماغك الكهربائية إلى إشارة يفهمها كمبيوتر صغير يتحكم بمروحة تدفع بالكرة إلى أعلى الأنبوب. هيا! ارفعها! هذا هو تأثير الدماغ السحري في المادة.
كل ما عليك فعله هو التركيز. لا يهم علامَ تصبّ تفكيرك. وكلما ازددت تركيزاً، ارتفعت الكرة. يخبر أحد الموسيقيين أنه عزف مقطوعة في رأسه وصبّ اهتمامه على تبدّل وتر معيّن. وركّز شخص آخر كان نجماً في كرة المضرب في المدرسة الثانوية على ضربته التي تبلغ سرعتها 120 ميلاً في الساعة، في حين راحت تتأمل سيدة في ذهنها صورة شعلة الشمعة. وفي هذه الحالات كلها، ارتفعت الكرة.
ركّز! ركّز! ويعلو صوت الآلة فجأة ليخفت بعد ذلك ويتحوّل إلى همس. فتدور الكرة ببطء، ثم لا تلبث أن تزداد سرعة. ركّز! ركّز! وها هي الكرة ترتفع داخل الأنبوب. فتعلو 5 سنتمترات، 10 سنتمترات، 30 سنتمتراً. ثم تضحك ويضيع تركيزك. فينقطع همس الآلة وتسقط الكرة عائدة إلى سلّتها، محدثةً طقطقة خفيفة. لا تستغرب ما حدث. لكنك تحكمت لتوّك بجسم مادي بواسطة دماغك.
ستُنزل شركتا ماتيل وUncle Milton Industries في فصل الخريف المقبل إلى الأسواق لعبتين متنافستين تعتمدان على تحكّم الدماغ في المادة. تشكل هاتان اللعبتان أولى أجهزة التفاعل بين الكمبيوتر والدماغ التي تدخل أسواق الاستهلاك. لكنها لا تُعتبر مجرد ألعاب، لأنها تجسّد حلم الإنسان على مرّ العقود: حلم التحكّم في العالم بأفكاره، حلم التمتع بقوى الآلهة، قوى التحريك العقلي TeleKinesis.
خدعة أم حقيقة؟
تدفع هذه الألعاب الجميع إلى التساؤل عما إذا كانت مجرد خدعة، مثل طابات Magic 8 أو ألواح الويجا. ويقر جيف والكر، مسؤول بارز في ماتيل، بأن المستخدمين «يمضون العشرين دقيقة الأولى وهم مذهولون يفكرون في طريقة عمل هذه اللعبة». لكن الدليل الذي غالباً ما يُقدَّم لإثبات أنها ليست حيلة، لا يساهم في ترويجها. ويؤكد القيّمون على هذه الألعاب أن البعض لا ينجح في التحكّم بالكرة بفاعلية.
مثلاً، يفشل المحامون ومَن يقتضي عملهم القيام بمهام عدة في آن واحد، فشلاً ذريعاً في تركيز موجات دماغهم، على حدّ قول جوني ليو من شركة نوروسكاي، مبتكر جهاز تحكم العقل في المادة. في المقابل، ثمة مَن يستطيعون التحكم بالجهاز في الحال ومن دون أي مجهود، كما لو أن التركيز جزء من طبيعتهم.
لكن ماذا سيحدث حين تبدأ هذه الألعاب الجديدة بصياغة تفكير الصغار في جيل يعاني كثيراً من اضطراب فرط الحركة وقلة التركيز؟ وماذا سيحدث حين يحصدون مكافآت صرفهم ساعات في التركيز المفرط؟ يبدو أن لا أحد يملك الجواب في صناعة الألعاب. لكن من المؤكد أن الوالدين سيكتشفانه في القريب العاجل.
لنتأمل أولاً في مراحل تطوّر التحريك العقلي. قبل تسع سنوات، أعدّ العلماء أول قردة قادرة على التحكم في الأشياء بقدرتها العقلية. كانت بيل، قردة ليل صغيرة لطيفة في مختبر ميغيل نيكولاليس في جامعة ديوك، أول كائن يستخدم أفكاره للتحكم في أشياء مادية عن بعد. لكن كيف تنمّي هذه القدرة عند قردة؟
أولاً، تشركها في لعبة كمبيوتر. تدرك هذه القردة أنها إذا رأت ضوءاً يلمع فجأة على شاشتها وحركت عصا التحكم يميناً أو يساراً لتضربه، تحصل على قليل من العصير.
بعد ذلك، أحدث الباحثون ثقباً في رأسها، واستخدموا جهازاً يوازي حجمه حجم حبة أسبيرين مخصصة للأطفال يخرج منه كثير من الأسلاك الدقيقة وأنزلوه على قشرة بيل الحركية، جزء من الدماغ يتحكم في حركات العضلات. وعملوا على ربط كل سلك بعصب مستقل بغية رصد إطلاقه الإشارات. ثم شهدوا اللحظة الكبرى في مجال التحريك العقلي.
عندما استأنفت بيل لعبتها، وضع العلماء الإشارة المتأتية من دماغها على الإنترنت ووجهوها عبر أنبوب إلى ذراع آلية في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا على بعد 965 كيلومتراً شمالاً. ولا شك في أن الذراع بدأت تتمايل بالطريقة نفسها التي كانت تحرِّك فيها بيل ذراعها. ذكر الباحثون في تقريرهم: «النبضات الكهربائية التي كانت تتولد في دماغ بيل تحكمت في حركة الذراع». لكن نيكولاليس كتب في مجلة Scientific American: «وسط موجة الفرح العارمة التي اجتاحت دورهام في كارولينا الشمالية وكامبريدج، لا يسعنا إلا الفكير في أن هذه ما هي إلا بداية مسيرة واعدة».
طبعاً، بدأ العمل يتقدّم بسرعة. فقد زُرع في جسم أربعة أشخاص مشلولين تماماً جهاز BrainGate الذي أعدته شركة Cyberkinetics المتخصصة بالتكنولوجيا البيولوجية. فأظهر هؤلاء قدرتهم على استخدام أفكارهم لقراءة الرسائل الإلكترونية وإرسالها، تشغيل التلفزيون وغيره من الأدوات، إنارة الضوء، والتحكم في الكرسي المدولب. كذلك تعلمت قردة مزوّدة بذراع اصطناعية يتحكم فيها الدماغ كيفية حمل الطعام إلى فمها. واستطاع قرد في مختبر نيكولاليس أخيراً التحكم برجل آلي في اليابان.
لكن العمل الأهم تركّز على التحكم العصبي في الأذرع والأيدي والأرجل الميكانيكية. هدف هذا البرنامج، الذي مولته وكالة مشاريع الأبحاث المتقدمة في مجال الدفاع، ابتكار أطراف اصطناعية ذكية تتحكم فيها بواسطة جهازك العصبي وتتيح لك رمي كرة سريعة، إدخال الخيط في ثقب الإبرة، ولعب البيانو. يوضح العقيد جيفري لينغ، طبيب أعصاب ومدير مشروع: «لتكن أحلامك كبيرة. فلن تذهب إلى القمر إذا لم تحلم بالصعود إليه».
لا يتحلى الجبين كموضع لقراءة الأفكار إلا بأفضلية واحدة. يقول ستانلي يانغ، المدير التنفيذي في شركة نوروسكاي: «الجبين مكان غير ملائم لالتقاط الإشارات. إلا أنه الموضع الوحيد حيث لا ينبت الشَعر عند معظم الناس، لأن الشَعر لا ينقل الإشارات».
سيطرة الدماغ
تُعتبر شركة نوروسكاي رائدة في مجال تحويل تفاعل الدماغ والكمبيوتر إلى مواد استهلاكية رخيصة ومتوافرة للجميع. وهي تبيع راهناً قطع أجهزة قراءة الدماغ وبرمجياتها لكل مَن يطلبها، خصوصاً المتنافسين على اكتساح السوق خلال موسم الأعياد، مثل شركة ماتيل بلعبتها Mindflex وشركة Uncle Milton بلعبتها Force Trainer. يُذكر أن هاتين اللعبتين كلتيهما تشملان رفع طابة شبيهة بكرة البينغ بونغ. كذلك تسعى نوروسكاي إلى تزويد قطاعات صناعة السيارات والرعاية الصحية والتعليم بأجهزة استشعار لموجات الدماغ.
يعود مفهوم سيطرة الدماغ على المادة إلى العام 1875، حين اكتشف ريتشارد كاتون أن بإمكاننا الاطلاع على عمل الدماغ برصد نبضاته الإلكترونية. وفي العام 1929، ابتُكر أول جهاز لتخطيط كهربائية الدماغ. فتحوّل إلى هوس أفلام الخيال العلمي، وكثرت مشاهد الأسلاك والرقع الملتصقة بالرؤوس الحليقة.
لكن جهاز تخطيط كهربائية الدماغ في المستشفيات باهظ الثمن، ضخم، ولا ينفع للتحكم في الأشياء الدقيقة. ولاستعماله ستُضطر إلى دهن رأسك بمادة لزجة. نتيجة لذلك، يُعتبر نموذج نوروسكاي بالغ الأهمية. ففيه، يعمل جهاز استشعار واحد جاف على قراءة أفكارك من دون أي مواد لزجة أو ثقوب في الجمجمة. وقد نجحت هذه الشركة في جعل الجهاز يركز على الإشارات الصحيحة في منطقة الدماغ الصاخبة، متخلصاً من أي موجات أخرى. وفي هذا المجال حققت نوروسكاي نجاحاً مذهلاً. يذكر ليو: «يشبه هذا الوضع حضور حفلة صاخبة والتمكّن من إجراء محادثة هادئة». بعد ذلك، عملت نوروسكاي على تصغير حجمه والتقليل من وزنه وثمنه لتتمكن عندئذٍ من طرحه في الأسواق.
مخيّلة واسعة
يوضح يانغ: «تعود أجهزة الاستشعار التي تراها اليوم إلى الجيل الأول. لذلك تُضطر إلى ارتدائها. أما الجيل الثاني فيتمكّن من استشعار موجات الدماغ وغيرها من الإشارات الحيوية عن بعد. ومن الممكن وضع أجهزة الاستشعار هذه في مقعد السيارة، إذ تخترق ملابسك من دون المساس بك. فقد تُزرع مثلاً في حزام الأمان أو المقوَد أو مسند الرأس».
يريد يانغ أن تعرف السيارة ما إذا كان السائق نعساناً، سكراناً، أو يرغب في تشغيل المكيّف، أو خفض صوت الموسيقى. ويتفاوض يانغ راهناً مع شركة الهواتف اليابانية NIT DoCoMo بشأن الهواتف الخلوية. ويؤكد أن مختبر هذه الشركة المتخصص في شؤون الدماغ درس أكثر من 300 منتج يتحكم فيه الدماغ بالمادة.
بعد هذه الاكتشافات كلها يجب إطلاق العنان للمخيّلة، إذ لا حدود لما يمكن ابتكاره: أجهزة تحكم بالتلفزيون وألعاب فيديو وسيارات سباق تعتمد كلها على قدرة الدماغ على التحكم بالمادة.
لا يملك ستيف كونيغ، مدير التحاليل الصناعية في جمعية Consumer Electronics، أدنى شك في الاحتمالات المتخصصة العالية الجودة التي تتوافر في الأسواق أمام تقنية تحكم العقل في المادة. فثمة إمكانات لاستخدامها في صراعات الرجال الآليين العسكريين مثلاً أو في السيطرة على الفضاء أو استكشاف أعماق المحيطات أو الإتاحة لمَن شلّهم المرض أو الإعاقة التحكّم بمحيطهم.
لكنّ البعض يشكّك في الحماسة التي ستثيرها هذه الألعاب. يقول كونيغ: «لا يحب الناس عادة وضع أي شيء على رؤوسهم. لهذا السبب لا ترى كثيرين يضعون جهاز بلوتوث على أذنهم». أما عن أجهزة التحكم بالتلفزيون، فيذكر كونيغ: «إذا كنت مضطراً إلى التركيز لتتحكم بالأشياء، فقد يكون من الأسهل أحياناً الإمساك بالجهاز والضغط على الزر لخفض الصوت».
لكن رايني رايس الاختصاصية في موضة الألعاب في جمعية Toy Industry، تبدو أكثر تفاؤلاً: «نشهد في السنوات الأخيرة اهتماماً حقيقياً بالرياضات والألعاب الفكرية وطرق الحل المنطقية، التي لا تقتصر على الأولاد، بل تشمل أيضاً البالغين»، وخصوصاً مَن ولدوا بعد الحرب العالمية الثانية ويريدون تجنّب مرض الألزهايمر. وتعتبر رايس أن تقنية تحكم الدماغ في المادة «هي الخطوة المنطقية التالية».
ترى رايس أن هذه الألعاب ستلقى رواجاً كبيراً. تخيلوا لعبة تشبه عمل وكالة الاستخبارات المركزية يمكنها استخدام آلة كشف الكذب، أو ألعاباً يتشارك فيها لاعبون عدة «ومن يملك سيطرة الدماغ الأقوى يتحكم بذلك الشيء على الشاشة»، على حدّ تعبيرها.
توجه ماتيل Mindflex للفتيان والفتيات الذين تتراوح أعمارهم بين 8 و12 سنة، مع أنها «ستلقى إعجاب الجميع، سواء كان عمرهم 8 أو 82 سنة»، حسبما ذكر والكر. أما شركة Uncle Milton فتوجه Force Trainer، التي تتمحور حول حرب النجوم، إلى البالغين الذي لم ينالوا كفايتهم من لوك سكايواكر ومن ثم إلى الصبية بين 6 و11 سنة.
لكن صناعة الألعاب تعتبر ثمن هاتين اللعبتين، الذي يتراوح بين 80 و130 دولاراً، باهظاً بالنسبة إلى لعبة أطفال، وخصوصاً في ظل الأوضاع الاقتصادية الراهنة. بيد أن رايس تعتبر أنهما ستثيران اهتمام «الأولاد الأكبر سناً وطلاب الجامعات والبالغين» المستعدين لدفع مبلغ أكبر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى