صفحات الناسمحمد علي الأتاسي

نقاش هادئ مع السيد محمد حسين فضل الله

null
محمد علي الأتاسي
القرار التعسفي الأخير الذي اتخذته المحكمة الدستورية العليا في تركيا، والقاضي بإبطال التعديل الدستوري الذي صوّتت عليه الأكثرية الساحقة من نواب الشعب التركي في شباط الماضي من أجل السماح للطالبات بارتداء الحجاب في الجامعات، آثار الكثير من ردود الأفعال المستنكرة والشاجبة في العالمين العربي والإسلامي. معظم هذه الردود حملت، كما هو متوقع، وجهة النظر الدينية التي ترى في الحجاب فريضة إسلامية ملزمة لا يحق لأي قانون وضعي أن يقترب بها، متجاهلة في الآن نفسه مناقشة الموضوع من منطق مخالفة قرار المحكمة التركية للشرعة الدولية لحقوق الإنسان وما تتضمنه من تأكيد الحرية الشخصية والدينية وحرية الاعتقاد والعبادة واختيار اللباس. أغلب الظن أن السبب في هذا التجاهل يعود إلى كون هذه الشرعة في تأكيدها تجنّب الإكراه في قضايا الحريات الدينية، إنما تؤكد حق الفتاة المسلمة في وضع الحجاب من عدمه. الشق الثاني من هذه المعادلة، هو ما يرفضه المنطق الديني السائد بشدة. تريد هذه المقالة التوقف بالنقاش عند رد آية الله السيد محمد حسين فضل الله على قرار المحكمة التركية كونه واحداً من الردود الدينية القليلة حاول التميز عن غيره، من خلال مقاربة الموضوع شكلياً بالاستناد إلى القيم الإنسانية العامة ومرجعيات حقوق الإنسان، وإن كان يقترب في المضمون من دائرة الجمود العقائدي المغلقة التي يشترك فيها المنطق الديني المحافظ والمنطق العلمانوي المتحجر.
لم ينتظر السيد فضل الله تفجر قضية الحجاب في تركيا حتى يدلي بدلوه في موضوع الحجاب كون هذا المجال من أساسيات فقه المرأة في المذهبين الشيعي والسني على السواء، وسبق للسيد أن تناول هذا الموضوع بالتفصيل في كتابه “دنيا المرأة” الصادر في بيروت في العام 1993.
معنى الانفتاح وحدوده
الجديد في مقاربة السيد فضل الله هو اختياره، منذ تفجر أزمة منع الحجاب في فرنسا، أن يبتعد شكلياً في مخاطبة الآخر عن البراهين والحجج النابعة من اليقينيات الدينية مفضلاً عليها المحاججة العقلية التي تحاول محاكاة مبدأي المساواة والعدالة في بعدهما الإنساني الشامل. عدا أن هذا المنطق المنفتح لدى السيد سرعان ما يقترب من دائرة الإقصاء الأولى التي يشترك فيها الفكر الديني المتزمت والفكر العلمانوي، من حيث إصرار الطرفين على مصادرة حرية المرأة الدينية في ممارسة عقائدها واختيار ملابسها وفقا لما تنص عليه الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، أي بما يوافق اقتناعاتها وبما لا يهدد السلامة العامة ولا يشكّل مسّاً بحقوق الآخرين.
فإذا عدنا إلى البيان الأخير الذي أصدره السيد تعقيباً على قرار المحكمة الدستورية العليا التركية الذي تم فيه إلغاء التعديلات الدستورية التي اقرها البرلمان، نراه يقول “انّ علمانية تركيا انطلقت من خلال الذهنية الشرقية المشابهة للعصبية العشائرية، بحيث أنها هددت حقوق الإنسان وأسقطت الحريات الإنسانية على مستوى فرض الأمّية التعليمية على غالبية النساء المحجبات اللاتي يرفضن نزع الحجاب باعتبار أنه تكليف شرعي وفريضة دينية. ولذلك فقد أصبحت هذه العلمانية تشبه العصبيات الدينية المنغلقة”.
هذا الكلام الذي يبدو مقبولاً ومنطقياً في ظاهره من حيث تأكيده الحريات الإنسانية والحق في التعليم للجميع، يظل ناقصاً ومجتزأً لجهة المسكوت عنه في خصوص النتائج المترتبة على تشبيه السيد لهذه العلمانية بالعصبيات الدينية المغلقة. فالعصبيات الدينية المغلقة، بما فيها تلك المسيطرة على النظم التعليمية في إيران والسعودية وصولاً إلى مدارس المصطفى التابعة لـ”حزب الله” ومدارس جمعية المبرات التابعة للسيد فضل الله، تستأهل هي الأخرى الإدانة لجهة فرضها الحجاب كشرط أساسي لقبول الطالبات في صفوفها، وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بالسعودية وإيران حيث لا مجال لمدراس بديلة تسمح بالسفور بين طالباتها، حتى لو كن من الأقليات غير المسلمة.
في سياق البيان نفسه يؤكد السيد أنّ “الحجاب يدخل في نطاق الحرّية الشخصيّة، شأنه شأن اللباس الذي يغطّي فيه الإنسان – طبيعيّاً – جزءاً من جسده، حيث يمثّل العري حالة شاذّة في العرف العام للناس”. وعليه يتساءل السيد: “لماذا يُفرَض – بمنطق العلمانيّة – على المرأة كشف الرأس ولا يُفرَض عليها كشف أجزاء أخرى من جسدها؟!”. هنا أيضا، فإن ما يترتب على القول بدخول الحجاب في نطاق الحرية الشخصية، إذا فهمناه في معناه اللااستنسابي، يوجب منطقياً إعطاء الفتاة المسلمة الحق في ممارسة حريتها الشخصية في الاتجاهين، وفقاً لاقتناعاتها وفهمها للنصوص الدينية (كشف الشعر أو تغطيته). وإلا فما معنى الحرية الشخصية للمؤمن إذا كانت لا تتضمن حقه في ممارسة حريته الدينية وشعائره كما يرتئيها هو في علاقته مع ربه، وبما لا يتعارض مع حرية الآخرين! انطلاقاً من هذه النقطة الأخيرة، يمكن الإجابة عن تساؤل السيد حول العري وتشبيهه غطاء الرأس بقطعة اللباس التي يستر فيها الإنسان سوءته، بالقول إن الأساس القانوني بالنسبة الى اللباس في كل القوانين الوضعية هو الإباحة بما لا يتعارض مع المصلحة العامة. أما تشبيه كشف الرأس بكشف السوءة، فهو في رأينا غير مصيب كون السيد نفسه يقول إن العري حالة شاذة في العرف العام للناس، في حين أن القبول بالسفور في عالمنا الراهن جزء لا يتجزأ من العرف العام.
الكيل بمكيالين
الطريف والمفيد في هذا النوع من النقاش، أنه يمكن دائما تبيان مدى ترسخ مبادئ العدالة والمساواة لدى الطرف الديني الذي يحاجج وفقاً للمنطق العقلاني ولمبادئ حقوق الإنسان، وذلك من خلال امتحان مدى قدرة هذا الخطاب على قبول تطبيق المنطق والمبادئ نفسها، لا على خصومه فقط، ولكن على وجهة النظر التي ينتمي إليها. فإذا عدنا إلى الوراء، وأخذنا الكتاب المفتوح الذي وجهه السيد في 21/12/2003 إلى الرئيس جاك شيراك في خضم معركة الحجاب في فرنسا، فسنجد المنطق السابق نفسه الذي يحاجج ضد منع الحجاب وفقا لمبادئ حقوق الإنسان، وصولا إلى الحد الذي يتساءل فيه السيد بجرأة: “هل بلغت العلمانية مستوى من الضعف بحيث يخاف القائمون عليها من قطعة قماش أو قلنسوة توضع على الرأس، أو صليب يوضع على الصدر؟؟ إنه منطق لا معنى له”.
القول بأن “هذا المنطق لا معنى له”، لا يكون صحيحاً إلا في الاتجاهين، بمعنى وجود الضعف في الخائف من الحجاب وفي الخائف عليه. وتالياً كان على السيد، لكي تستقيم المحاكمة العقلانية، أن يكمل سؤاله بطرح الشق المغيّب منه والمتعلق بالجانب الإسلامي، وأعني تحديداً السؤال الآتي: هل بلغ التيار الإسلامي مستوى من الضعف بحيث يخاف القائمون عليه أن تنزع الفتاة المسلمة قطعة من القماش؟ عندذاك فقط يمكن أن نردد مع السيد عبارته الأخيرة “أنه منطق لا معنى له!”.
دائما في السياق نفسه، لكن هذه المرة مع بيان آخر نشره السيد بتاريخ 28/10/2006 تعقيباً على موقف السلطات التونسية من الحجاب. ففي هذا البيان يشير السيد إلى أن الاتجاه السلبي لهذه السلطات ضدّ الحجاب، يمثِّل “نوعاً من أنواع الاضطهاد الإنساني للمرأة المسلمة الملتزمة الحجاب، وتقييداً للحريات العامة والخاصة، في الحق الذي يملكه الإنسان في اختيار اللباس الذي يلبسه”. هذا الكلام المهم لجهة تأكيده حق الإنسان في اختيار ملابسه، وكون التدخل في هذا المجال يشكل تقييداً للحريات العامة والخاصة، لا يكتمل من دون تعديل بسيط يخص مبدأي المساواة والمعاملة بالمثل، وذلك بإضافة كلمة “غير” قبل كلمة “الملتزمة”، بحيث يصبح المعنى يخص كذلك “المرأة المسلمة غير الملتزمة الحجاب”! لكن للأسف، بدلاً من ذلك فإن سماحة السيد في الجملة التالية من البيان، يناقض بالكامل ما قاله في البداية، عندما يتحدث عن الحجاب بوصفه “التزاماً دينياً لا يملك المسلم في التزامه الشرعي أن يتجاوزه، والحجاب في الإسلام يمثل حكماً شرعياً إلزامياً لا بد للمسلمة من التقيّد به”. وهو هنا يُسقط ليس فقط حرية اختيار اللباس، ولكن حرية الاختيار لدى المؤمنات بين التأويلات العديدة للآيات التي تخص لباس المرأة في القرآن، وتنحو في بعضها إلى عدم إلزامية الحجاب. ناهيك بأن القرآن كرس مبدأ الخيار الحر للإنسان في أمور العقيدة بقوله تعالى “من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”. فكيف إذاً في أمور العبادات.
دائما في البيان نفسه، حول تونس، يؤكد السيد أن “مسألة الحجاب ليست من مهام الدولة في نظامها الاجتماعي، بل هي مسألة شخصية تتصل بحرية الإنسان في ما يختاره في لباسه، تماماً كالحريات الخاصة”. هنا أيضا، لكي تستقيم المحاججة، كان من المفروض أن ينتقد السيد وفقا للمنطق نفسه، تدخل الدولة الإيرانية وفرضها الحجاب على مواطناتها، لا بل وتدخل الكثير من المؤسسات الإسلامية اللبنانية مع المواطنات اللبنانيات في المسألة نفسها، بما يخرجها من حيز الحريات الخاصة والمسألة الشخصية وفقاً لمنطوق السيد نفسه.
وبما أن سماحة السيد في ختام بيانه يستحضر الديموقراطية، فسنسمح لأنفسنا بأن نقتبس الكلام نفسه مضيفين إليه بين قوسين الكلمات الناقصة التي تسمح للمعنى بأن يكتمل: “إن قوانين منع (أو فرض) الحجاب للطالبات الملتزمات (أو غير الملتزمات) في المدارس، يمثل اضطهاداً عنصرياً للناس لا يلتقي بالديموقراطية من قريب أو بعيد، ويخلق حالاً سياسية ضد النظام العلماني (أو الإسلامي) لدى الناس”.
في الختام
قد يسأل البعض ما السبب الذي يدفع بالسيد إلى مقارعة قوانين منع الحجاب المجحفة من خارج دائرة الفكر الإسلامي التقليدي ومن خلال الاستخدام الانتقائي لمبادئ حقوق الإنسان. الحقيقة أن أفضل من يجيب عن هذا السؤال هو السيد نفسه. ففي مقابلة سبق لجريدة “الحياة” أن أجرتها معه بتاريخ 14/1/2004 حول الجدل في فرنسا في شأن منع الحجاب، بادره الزميل وفيق قانصو بالسؤال الآتي: “المعارضون للقرار إجمالاً ركّزوا على مسألة الحق الشخصي للمرأة في ارتداء الحجاب. هل المسلمون مع الإطلاقية في الحقوق الشخصية، ولماذا لا يسمح للمرأة الغربية التي تزور بلداً إسلامياً ما بالتجوّل سافرةً باعتبار أن هذا حقها الشخصي؟”. أورد السيد في معرض جوابه الآتي: “هناك قاعدة شرعية تقول: ألزموهم ما ألزموا به أنفسهم. الغربيون يلتزمون العلمنة التي تلتزم الحريات الشخصية، وهذا ما عبّر عنه الناطق باسم الخارجية الأميركية من أن العلمنة إذا كانت لا تناقَش، كما يقول الفرنسيون وكما نقول، فالحريات لا تناقش، وعليه، فالحجاب لا يمثل استفزازاً، ومنعه يمثل اعتداءً على الحرية، وبالتالي خروجاً على قانون العلمنة، على قاعدة أننا نلزمهم ما ألزموا به أنفسهم. أما في النظام الإسلامي، فإن الحجاب هو جزء من حركية النظام، ومن الطبيعي جداً أن تقول الدولة الإسلامية إننا ملتزمون الإسلام ونظامنا هو النظام الإسلامي، فكما تلتزمون مفردات النظام العلماني، نحن نلتزم مفردات النظام الإسلامي”.
الحقيقة أن القراءة المتأنية لهذا الجواب تدلنا على أن السيد ينطلق من فكرة مفادها أن أفضل طريقة لمناقشة الغربيين القائلين بموضوع منع الحجاب هي إلزامهم العلمانية الحقة التي تلتزم الحريات الشخصية بما فيها حرية التحجب، أما المسلمون في ما بينهم فغير معنيين بالعلمانية ولا بما تضمنه من حريات شخصية. ففي الدولة الإسلامية ذات النظام الإسلامي، علينا، وفقا لمضمون كلام السيد، أن نلتزم الحجاب كونه جزءا لا يتجزأ من هذا النظام.
لكن ما يغيب عن سماحة السيد هنا، أن التحجب كفعل حرية لا يقوم إلا بقيام السفور كفعل حرية. من هنا فإن الرائدات النسويات في العالمين العربي والإسلامي في بدايات القرن العشرين، من نظيرة زين الدين إلى هدى الشعراوي، اللواتي عندما أسسن للحق في نزع الحجاب، لم يتحركن خارج دائرة المنظومة الإسلامية ولا استخدمن مفردات غريبة عنها، بل حاولن من داخل هذه الدائرة إدخال مبدأ الحريات الشخصية. هذا المبدأ لا قيامة للعالم الإسلامي من دونه

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى