المثنى الشيخ عطية

الحلقة رقم 9 من رواية: سيدة الملكوت

null
المثنى الشيخ عطية
عالم ليماسول السفلي

آخذ كأس بيرتي من على البار. شكراً. أقول للساقية الإنكليزية الحيادية الابتسامة. أفكر بهذه الابتسامة العامة.. من يفهم الإنكليز !. أدخل صالة البلياردو. أجلس على الأريكة المريحة. أحتسي بيرتي وأراقب نصير.. متى ينتهي من اللعب. أفكر بابتسامته المطمئنة التي أصبحت تنرفزني. أراقب وجهه المبتسم، عينه التي تنظر بمواربة إلى كرة البلياردو البعيدة وتنحسر للنظر إلى الكرة المتحفزة بخوف أمام عصاه، أراقب يده السمينة التي تمسك العصا برخاوة مبتدئ. أسمع ضحكته البريئة المعضوضة الخارجة بدفقات وكأنها تهرب من مكبس على الكرة التي طارت من فوق الطاولة إلى الأرض. لا شيء يثير اطمئنان نفسه!.. لقد أصبح هذا يثيرني. أنظر إلى محمد الذي أحضر الكرة البيضاء ضاحكاً وبدأ يركل الكرات بعصاه:
ـ  يلزمك الكثير كي تتعلم.. يقول لنصير واضعاً عصاه فوق الطاولة.
لقد خسر صاحبك. هل تريد أن تجرّب.. يقول لي محمد مطلقاً ضحكته القصيرة الوادعة. أشير له بيدي شاكراً وأرفع كأس بيرتي: “أريد أن أشرب فقط”.. يتجه محمد إلى البار مع نصير، ينحرف عنه يميناً للجلوس أمام الساقية الإنكليزية الحيادية الابتسامة. أنظر إلى طاولة البلياردو الخالية. أحدق بالضوء المنصب فوقها من المصباح الذي يتلاشى أمامي موزعاً الظلال في زوايا المكان. أحتسي الجرعة الأخيرة من كأسي بسرعة. أقوم وأجلس إلى البار بجانب نصير. أطلب من الساقية كأساً آخر من البيرة. أرشف منه رشفة. أتناول سيجارة من علبته المرمية على البار:
ـ ها… بدأت تدخن.. يقول ويمد يده، يشعل لي سيجارتي. آخذ نفساً عميقاً، أقول له:
ـ اسمع يا نصير. زارني موظفان من دائرة الهجرة أيضاً اليوم في المكتب، أبلغاني بقرب انتهاء جواز سفري وأن عليّ تجديده، وقلقت. اتصلت بمحمود اليوم، سألته أن يكون صريحاً معي، هل يستطيع الحصول على جواز سفر لي، وقال إن الأمر صعب الآن.. الأوروبيون بدأوا يضايقون كل من وقف ضد الحرب. أعرف أن محمود يقاتل من أجل تدبير جواز سفر لي لكن الوقت ينفد والأمور لا تطمئنني.
ـ لماذا أنت خائف!؟ قلت لك إنني سأحضره لك بنفسي من عمان عندما يحين وقته.. يقول لي نصير واضعاً يده السمينة على كتفي بابتسامته المطمئنة، وأحتسي رشفة طويلة من بيرتي لكي أهدّئ نفسي.
ـ صدق محمود يخيفني، وثقتك المنتهاة بنفسك تخيفني أكثر. علينا أن نتحرك من الآن. الوقت ليس لصالحي.. أقول مبدياً شكّي.
ـ عليك أن لا تقلق. أعطني عشرة باوند كي أحاسب.. يقول وأضحك.
ـ لكنك صاحب الدعوة.
ـ أضفها إلى حسابك لدي.. يقول ضاحكاً وأناوله النقود.. أفكر أن الأمر بات مقلقاً أكثر فكل رصيدي الذي وفرته أقرضته لنصير، أفكر أنه آن الأوان لمطالبته به. إنه صامت منذ أربعة أشهر ويسحب مني، عليّ أن أطالبه، فلست مسؤولاً عن الفوضى المالية التي يثيرها أينما تحرّك.
ـ أين ستأخذنا اليوم. إنه يوم حريتي، ومحمد يقول إنك ملك الأندر غراوند.. يقول وأضحك من هذا المبكي.
ـ محمد يقول لك للتغطية على نفسه.. أقول له.. ولكن لم لا، الطريق معروف. أولاً سآخذك إلى “برينس أوف ويلز بب”، وسأضعك بجانب ذلك “الصبي ماكسين” لتحس بطعم وحدة الكون، ومن ثم إلى “الكيت كات” لتشهد نثار أجساد حلمنا الاشتراكي مع فتيات المنظومة الاشتراكية المبددة على موسيقى الديسكو، ثم هناك مفاجأة يعدها لك محمد هي ورقة حريته من عائشة اليوم.. أقول ويضحك نصير من عرضي لبرنامج الجنون، ويقبل محمد خائباً من الإنكليزية الحيادية الابتسامة.
ـ يوم حريتي هو “يوم الرأس”.. يقول محمد ضاحكاً وهو يجرنا للخروج، وأشاركه الضحك وأنا أتذكر وجه عائشة المستغرب عندما طلب منها السماح له بهذا اليوم بحجة المساهمة في زيادة وزني بأكلة رأس الخروف.

يوقف محمد السيارة في منتصف الشارع المؤدي إلى ساحة الشرف الوطني لقبرص. “هيا ترجّلا، وصلة مرح خفيفة قبل ليندا”.. يقول محمد، ويقودنا إلى بار كئيب يشبه زاوية حجرة في مطهر دانتي.. أفكّر متى اكتشف محمد هذا المكان، وندخل بار التعب. طاولات وكراس غير متناسقة، أرضية وسخة، طاولة بار مشققة، زجاجات متفرقة في الخلفية مثل فم عجوز مهرهر لخمور رخيصة كئيبة. أشم رائحة تحلل. تقابلنا امرأة خمسينية تلطخ خديها أصباغ حمراء فاقعة رخيصة. يجلس محمد قبالتها ويقدمها لنا:
ـ انظرا!؟ أي جمال، إنها جولييت.. يقول ويقبّل يدها ممثلاً كما في مسرحية لشكسبير قبلة الجنتلمان. أي نعومة!!.. يقول ونضحك بخفاء،  ويستمر محمد. انظرا، هذا الوجه، هذا الصدر. بيرة سنشرب البيرة. سوف لن تنسيا بيرتها أبداً.
ـ لقد عدتَ إذاً كما وعدت.. تسأله جولييت وأنظر ضاحكاً إلى نصير ثم إلى محمد الذي يجيبني محرجاً:
ـ حسناً أنا أجرب أحياناً اكتشاف بارات جديدة في الساحة.. يقول محمد وتبادر جولييت بفتح الحديث معه.
ـ هل جربت بقية البارات؟. إنهم مافيا كما قلت لك.. تقول.
ـ نعم، ولا يملكون الجمال الذي يشع هنا.. يجيبها محمد وينظر إلينا.
ـ هل رأيتما، جولييت، إنها جولييت. دعيني  أمسك بيدك. أي نعومة.. يقول ونرقب المشهد ضاحكين.
ـ هل تريد أن تجرّب؟ يوجد في الخلف هنا غرفة.. تقول جولييت عارضة على محمد مضاجعتها ويفاجأ محمد بهذا العرض. ينظر إلينا مستنجداً. يقول لنا بالعربية أن نسرع باحتساء بيرتنا، ونسخر منه ونتباطأ مسترسلين في فخ المرح.
ـ لماذا لا تجرب جولييت.. يقول له نصير ضاحكاً.
ـ أرجوكما أنا عالق.. يقول محمد راجياً أن نسرع، وتقترب منه  جولييت أكثر فاتحة صدارتها.
ـ لن يكلفك الكثير. عشرون باوند فقط. أقل من مافيا الملاهي.
ـ نعم إنها أقل، لكنني مشغول الآن، وسأعود من أجل هذا.. يقول محمد، ويحتسي ما تبقى من بيرته دفعة واحدة، ويحاول القيام للخروج غير أن جولييت تحتجزه بدلال.
ـ لن أجعلك تتأخر، لأجلك خمسة عشر باوند.. تقول ويستنجد بنا محمد، يحاول التخلص في توجيهها إليّ.
ـ انظري. هذا هو الأعزب بيننا، وسيرضيك أكثر.. يقول وتصرّ عليه جولييت بغريزة الصيادة.
ـ المتزوجون أحوج إلى ذلك. اسألني أنا.. تقول، ويدرك محمد أن علينا الفرار.
ـ قلت لك سأعود. أنا أعدك مرة أخرى، كم حسابك.. يقول لها.
ـ لا عليك، نستطيع أن نتأخر قليلاً.. يقول له نصير، ويشتمنا محمد بالعربية، فتدرك جولييت أنه مصمم على الخروج.
ـ حسناً أربعة بيرة. أربعون باوند.. تقول ويصعق محمد.
ـ ماذا!؟ ماذا شربنا!؟ إنها بيرة.
ـ نعم. مع ليدي 10 باوند للكأس.
ـ لكنه ليس ملهى، إنه بار. باوند ونصف للكأس. ستة باوند.
ـ أربعون باوند.
ـ يا إلهي، ما هذه العلقة.. ينظر إلينا محمد مستنجداً.
ـ ادفع لها، ليس كثيراً على جولييت.. أقول له ضاحكاً.
ـ الأمر ليس مزحة. ستشلّحني. تدخّلا.. يقول محمد، وأحاول الشرح لجولييت.
ـ أيتها السيدة…
ـ إنها أربعون باوند. سوف تدفعون أربعين باوند.. تقول صارخة ويدخل البار ثلاثة رجال كانوا ينتظرون هذه الإشارة للتدخل.
ـ ماذا هناك. لماذا لا تدفعون ما عليكم!؟.. يقول الرجل المعضّل.
ـ سوف ندفع، ولكن بالتعرفة الرسمية.. يقول محمد.
ـ نعم، عشرة باوند للكأس مع سيدة.. يجيبه الرجل مصمماً، وأفكر أننا علقنا فعلاً.
ـ إنها وصلة مرح حقيقية، أقول لنصير ضاحكاً وأتجه إلى الرجل.
ـ انظر أيها السيد. سوف ندفع ما علينا، كما في الملهى. أنت تعرف نظام الملهى، كأس السيدة جولييت عشرة باوند.
ـ من هي جولييت.. يقول الرجل.
ـ السيدة جولييت. أليست جولييت. أقول وينظر إليها الرجل.
ـ نعم. إنها جولييت.
ـ حسناً كأس السيدة جولييت عشرة باوند، وكؤوسنا واحد ونصف باوند للكأس، أربعة ونصف باوند، أي أن المجموع أربعة عشر باوند ونصف، ونصف باوند للمحل، خمسة عشر باوند، سوف يدفع لك الرجل خمسة عشر باوند.. أقول مقنعاً الرجل وينتفض محمد.
ـ لن أدفع سوى ستة باوند.
ـ أغلقو المحل.. يقول الرجل ويتحرك الرجلان لإغلاق المحل، وأوقفهما بإشارة من يدي.
ـ أرجوك يا محمد، هؤلاء مجرمون. وذاك الأعور مستعد أن يقتل أمه من أجل نصف باوند. إنها خمسة عشر باوند. أقول له وأتجه إلى الرجل.
ـ دعنا لا نختلف أيها السيد. العراك لن يفيد أحداً، ستحضر الشرطة، وأنت تعلم أننا على حق. سوف ندفع لك خمسة عشر باونداً فقط. ونذهب كأصدقاء.. أقول ويوافقني الرجل بهدوء.
ـ حسناً يا محمد، من أجل جولييت.. أقول له ويضحك، يسلّم المرأة خمسة عشر باوند، ضاحكاً.
ـ لماذا ياجولييت!؟ لقد كنا أصدقاء.
ـ أصدقاء!؟.. مافيا أنتم مافيا عرب.. تقول ويجر نصير محمد للخروج مع شتائم جولييت. أوباش، مافيا، أنتم مافيا.

ـ سوف أروي ما حدث لليندا.. أقول ويرمقني محمد بنظرة راجية أن لا أفعل، وتدرك ليندا أنه ارتكب حماقة. تنظر إليه أن يحدثها بنفسه.
ـ لا شيء. وصلة مرح في بار كادت أن تكلفنا حياتنا.. يقول ضاحكاً، وتكتفي منه ليندا بذلك، إنها تعرف أنه سوف يحدثها عن ذلك في وقت آخر. تدخل صبي البار الشموس ماكسين. أنظر إليها معجباً بجسدها المثير المحير بين الفتى والفتاة، ومدهوشاً بأنوثتها الطافرة وهي ترتدي الفستان لأول مرة منذ عرفتها في هذا البار.
ـ ماكسين بالفستان! أي إثارة سوف تضرب مخك!!.. يقول محمد موجهاً كلامه إليّ وهو يطلق ضحكته القصيرة العذبة، وأضحك. أتأمل ماكسين وهي ترفل بعذوبة الفتاة في رشاقة الصبي الذي كانته. أتأملها معجباً وهي تصب لنفسها البيرة، وتأتي لتستقر بيني وبين ريتشارد على البار في المكان الذي ركزت مخي عليه أن يظل خالياً وفعل.
ـ كيف حالك؟.. تسألني بتهذيب.
ـ أنا جيد. وأنت!؟ هناك تغيير مثير!.. أقول وتضحك.
ـ هل أعجبتك بالفستان؟ ليندا قالت لي إنني سأكون مثيرة به وفعلت.
ـ ليندا معها حق لكنك أحبطتني. وعدت صديقي نصير أن أريه الصبي الجميل، لكن يبدو أنني سأريه الصبي الأجمل. دعيني أعرّفك عليه. نصير صديقي الذي خذلته، ماكسين.
ـ “حسن صبي” الذي وعدت أن تريني إياه.. يقول ضاحكاً ومداعباً ماكسين التي تستغرب. أشرح لها ضاحكاً.
ـ “حسن صبي” هو التعبير الذي نطلقه في بلادنا على الفتاة البرية التي تتمرد على وضعها كفتاة وتلعب ألعاب الصبيان وتجاريهم في كل تصرف، وقد تتغلب عليهم، وبعضنا مثلي يحب هذا النوع من الفتيات.. أقول لها وتحسّ بالسعادة. أستمر في تعريف نصير على زبائن البار.. ريتشارد صديق ماكسين.. أقول ويضحك ريتشارد، يحييه ويطلب منّا أن نقبل كأس بيرة على حسابه. أوافق شاكراً إياه، وتصب ليندا  البيرة. تسأل محمد عن شقاواته اليوم، ويهرب من الحديث سائلاً إياها أن تنظر إلى الانسجام بيني وبين ريتشارد هذا اليوم. تلتفت ليندا إليّ، تلاحظ دون غيرها حزني الذي يخفيه مرحي. تقول لي أن لا أفكر بما ينغّصني..
“أنت بين أصدقاء”.. تقول لي، وأخبرها أنني بخير. أثبت لها ذلك بتلمسي ظهر ماكسين التي تلف عنقها متعبة.. “آآه أنا مرهقة هذا اليوم”.. تقول ويبادر ريتشارد بالمساعدة، يضع يده على رقبتها يدلّكها بكفه من الأسفل. تقوّس ماكسين كتفيها مثل قطة. أبادر بنجدتها محاولاً إغاظة ريتشارد. أدلّك ظهرها بيدي اليسرى، أنزل إلى الأسفل قليلاً، وأدلّك ما فوق ردفيها الصغيرين. أحس بنبضهما المثير بين أصابعي.
ـ هاهم الإنكليز والعراقيون يتفقون. الروابي المذكّرة توحدهم. يقول محمد، وتضحك ليندا.
ـ يكفي. إنكما تربكاني.. تقول ماكسين هاربة من الإثارة، وأعيد يدي إلى كأسي. يضحك ريتشارد بصفاء.
ـ سأكون سعيداً بإنهاء الحرب بيننا يا هاني.. يقول ريتشارد. صدّقني أنا مثلك لا أحب مارغريت تاتشر. لقد أحضرت لك كتاباً لكيتس من مكتبتي. لا تستغرب، أنا موظف مطار لكنني أحب الشعر. تركته لك مع ليندا.. يقول وتناولني ليندا الكتاب. أشكر ريتشارد متأثراً. أقلّب كيتس. أقرأ مقطعاً من السيدة الجميلة القاسية:

“ماذا ألمّ بك أيها الفارس الحزين. حتى تهيم على وجهك وحيداً شاحباً.
لقد ذبل العشب وزال من البحيرة، الطيور انقطعت عن التغريد.
ماذا ألمّ بك أيها الفارس المدجج بالسلاح.
لقد رأيت ملوكاً وأمراء ومحاربين شاحبي الوجوه.
جميعهم كانوا في شحوب الموت. لقد سمعتهم يصيحون:
إن الجميلة التي لا تعرف الرحمة قد أوقعتك في إسارها”…

الجميلة التي لا تعرف الرحمة.. أردد الجملة وأغلق الكتاب. أنظر إلى
ماكسين متخيلاً إياها تجول على حصانها بسيف الفايكنج، عارية إلا من قطعة جلد لاتكاد تستر حوضها، وتحصد رؤوس الفرسان. أنظر إلى ليندا التي كانت تستمع مأسورة: “إنه جميل”!.. أنظر إلى نصير المنشغل بحديث تجاري مع محمد: “لن يضير الكتاب أن يكون ممنوعاً. الكتب الممنوعة دائماً مرغوبة” .. أنظر إلى كأسي الفارغ. أنظر إلى ليندا التي تأخذ كأسي بتفهم قبل أن أطلب منها ذلك، وتملؤه لي..  “بيرة، أليس كذلك”؟.. تقول بابتسامتها التي يملؤها الحنان.

يقودنا الساقي إلى الطاولة الاستراتيجية في منتصف المكان المفتوح على مسرح العرض في ملهى الكيت كات. نجلس في نصف دائرة مفتوحة على استعراض الفتيات الرومانيات اللواتي يرتدين ثياب الراهبات مع موسيقى أنيجما الشهيرة التي تبدأ بتراتيل كنسية تنفتح على إيقاع الديسكو، ويتبعها كشف مباغت عن الأجساد النابضة بحركات الفعل الجنسي، ودفقات الضوء على الأجساد.
ـ ما نوع الفتيات!؟.. يسألني نصير وأقول له إنهن رومانيات البيروسترويكا. أنظر إلى وجه نصير المأخوذ بالفتيات. أقرر أن أكون شيطاناً وأراقب انفعالاته، غير أن نصير يخفي انفعاله بابتسامة الدعة على وجهه. كم تعجبني إرادته، وكم سيعجبني تكسّرها أمام الجسد الذي يتلوى وينبض عبر حيوانية الجنس الخالص. أحتسي كأس الفودكا التي تلهب جسدي. تهبط علينا فجأة ثلاث فتيات ويتوزعن بيننا. نرحّب بهن.
ـ هل هذا جزء من الطقس!؟.. يسألني نصير، وأقول له ناظراً إلى محمد
ـ نعم، لكنه الجزء الذي ستحذفه الرقابة. ينظر محمد إلي.
ـ  أنت لن تعارض هذه المرة.. يقول محمد محذراً إياي.. “لا مجال” تقول له عيناي، لكنه يهملني. يتحدث مع الفتاة. يمسك بيدها. تقترب الفتاة الثانية مني. أسألها عن اسمها.
ـ إيرينا
ـ اسمعي يا إيرينا، أنت فتاة جميلة ودودة، لكنني سأعتذر عن تقديم المشروب.
ـ  لا عليك.. تقول لي بمودة، وتنظر إلى رفيقتيها. ينظر محمد إليّ بلوم. يترك يد الفتاة، ويضحك، يقول لها مشيراً إلي.
ـ  هذا هو ملاكي الحارس الذي وضعته زوجتي على بوابة النعيم لمنعي من الدخول. إنهما يظنان نفسيهما راعيا الفضيلة. هي الرئيسة وهو نائبها، وأنا عليّ أن أمتثل. إنهما يجريان تحقيقاً صحفياً عن المهنة الأقدم في التاريخ، والبغاء المقدس. هي ترسله لكبحي عن التمتع، وهو يقوم بالتحقيق مستمتعاً بذلك. هل تشكين أنه لا يستمتع بلقائكن!؟ .. يقول محمد، وتضحك الفتاة، تحس أن عليها القيام. تعتذر مع رفيقتيها ويذهبن. ينظر محمد إليّ محرجاً مما نطق به، ويضحك نصير. يضع محمد يده على كتفي محاولاً إرضائي.
ـ  أنت تعلم أن الأمر مزعج.. يقول لي ضاحكاً وأبادله الضحك.
ـ حسناً، أتقبل كل شيء وقد تكون محقاً، أنا أقدّر كرمك وحنانك الأمومي مع النساء لكني أكره أن تعتبرني من حرّاس الفضيلة.
ـ حسناً.. دعنا نناقش الأمر بصورة إجرائية. أنت تعلم أنهن يأخذن عمولة على الكأس، وتعوضهن هذه العمولة عن الأجر البائس الذي يرميه لهن أصحاب الملاهي. هنّ يقدمن لنا مشاعر تعوضنا عن نواقصنا، ونحن لا نخسر الكثير بتقديم كأس لهن.
ـ أنت لا تشك بأنني نَسَوي مثلك، فنحن نعمل معاً من أجل تحرر النساء، ولو توقف الأمر على كأس لهانت. وأنت تعلم أن الأمر يتطوّر وأن مهنتهن تتطلب منهن عدم الاكتفاء بكأس، وأنهن سيصلن إلى اللمس ثم الموعد.. إن أصحاب الملاهي يدفعونهن للدعارة. والكأس هو المقدمة.
ـ وما اعتراضك على البغاء المقدس. يقول محمد ضاحكاً بسخرية لإغاظتي.

يسألنا نادل مطعم الخروف الأجرد ماذا نطلب، ويقول له محمد أن يحضر كل  رؤوس الحرية، ويحضر الساقي ما تبقى من رؤوس الخرفان.
ـ رأسان فقط. هل هذا كل ثمن حريتي اليوم!.. يقول محمد ساخطاً بمرح، ونرضى بهذا النصيب. يكمل نصير حديثه مع محمد حول الكتب التي ستطبع.
ـ  يمكننا إدخال الكتب الأربعة حول حرب الخليج إلى ليبيا مع كتاب
“المرأة الليبية”..، ولن تكون هناك مشكلة حتى لو تأخرت هذه الكتب. إنها ستبيع نفسها.. يقول نصير لمحمد وأغرق في حزني. يلاحظ محمد شرودي، ويسألني إن كان حديثنا اليوم بالمجلة هو ما يعكّر صفوي، وينظر إلي نصير مستفسراً.
ـ  لقد طلبت من محمد وعائشة إنزال اسمي كمدير للتحرير في ترويسة المجلة، ولم يجيباني.. أقول ناظراً إلى محمد الذي يصمت.
ـ وهل هذا مهم!؟  يسألني نصير.
ـ  نعم إنه مهم، كما أن من المهم لي أن أعرف كل ما يدور في المجلة.. أقول ويحضر النادل رأس الخروف الأول.
ـ  كل يا رجل. كل، ليس هناك ما يستوجب الزعل.. يقول لي محمد بطيبة وهو يتحرك لتقطيع الرأس بيده، ويجيبه نصير هادئاً:
ـ أنا أتفهم ترددكما أنت وعائشة، فلا شيء واضح الآن، لكن هاني جزء من المجلة ويجب أن يعرف ما يدور.
ـ حسناً.. لست ضد إخبار هاني بما يحدث، ولكي أتخلص من هذا العبء أقول له أن الأمر يتعلق بتمويل المجلة. لا شيء واضح لدينا، وستسافر عائشة إلى ليبيا لحل الأمور، ومقابلة شركائنا.. يقول محمد ويتابع.. كلا، أنت ضيف  الشرف اليوم، ولأنك لا تحب الخد ولا العين، تفضل، هذا اللسان لك.. يقول لي محمد بمودة، وأطلب صحناً وشوكة وسكيناً من النادل. أراقب أصابع نصير وهي تستخرج عين الخروف. أصابع نصير الغليظة الماهرة تنكش عين الخروف من الأسفل بالإبهام، وتستلم أصابعه الغليظة الأخرى العين، ترفعها إلى فمه، بينما تقتلع يد محمد الخد من وجه الخروف، وأشيح بوجهي.
ـ سوف تسدّان شهيتي بهذه الوحشية.. أقول ضاحكاً وأتناول اللسان بالشوكة والسكين. أضعه في صحني. أذر الملح والفلفل على اللسان بأناقة مضاعفة لإثارتهما. أقطع جزءاً من اللسان ويضحك نصير ساخراً مني.
ـ ما شاء الله، لا يلزمك سوى القفازات لاستخراج المخ. يا للجنتلمان. جرّب الخد وسترى، لن تسمن أبداً وأنت بهذه النفس.. يقول نصير وهو يتناول بأصابعه العين الأخرى للخروف.

خاص – صفحات سورية –
باذن خاص من الكاتب المثنى الشيخ عطية
للكتابة الى الكاتب مباشرة
mothannas@hotmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى