صفحات الناس

في تذكّر حالة الطوارئ و أحداث القامشلي ومعتقلي الرأي في سوريا

null


محي الدين عيسو

تمر هذه الأيام أربعة أعوام على الأحداث المأسوية التي تفجّرت في مدينة القامشلي-أقصى شمال شرقي سورية ذات الغالبية الكردية- بتاريخ 12/3/2004 إثر مباراة كرة قدم بين فريق المدينة نفسها وفريق المحافظة المجاورة دير الزور، وراح ضحيتها العشرات من القتلى والجرحى،
والاعتقالات التي حدثت في صفوف الأكراد وتعرضهم للتعذيب الوحشي في الأقبية المظلمة، وما رافقها من هجمة إعلامية موجهة.لكن الحركة الكردية تمكنت بفضل سياستها الواقعية وجهود قوى وطنية وفعاليات اجتماعية وثقافية وسياسية وحقوقية من الطيف الوطني الديمقراطي من عدم جرّ الأكراد إلى معركة يكون الخاسر الوحيد فيها هو الوطن. غير أن أحداث القامشلي لم تكن وليدة لحظة، ولم تكن أحداث شغب داخل الملعب كما يجري في بعض المنافسات الرياضية بمعظم دول العالم، وإنما كانت نتيجة طبيعية لممارسات سلطوية تعود لأكثر من أربعين عاماً،عانى منها المجتمع السوري بأكمله، وتحديداً منذ استلام البعث للسلطة بالانقلاب العسكري في الثامن من آذار من العام 1963.ومنذ ذلك اليوم تعيش سوريا حالة الطوارئ(المؤقتة!) حتى يومنا هذا وما يعني من إلغاء القانون والدستور-على علاته- والانقضاض على مفهوم المواطنة و الدولة الحديثة التي تضمن لمواطنيها الكرامة الإنسانية والعيش المشترك والمساواة خصوصاً وأن المجتمع السوري يضمّ في مكوناته عرباً وكرداً وآشوريين وأرمن وسائر الأطياف والقوميات والأديان، وسياسة السلطة لا تنتج عملياً،للأسف، سوى ما يمزّق هذا التلاحم الوطني بغية ديمومة واستمرار حالة الطوارئ المفروضة على الشعب السوري منذ ذاك اليوم المشؤوم. ضاعف من ذلك شعور الكرد بالظلم والاضطهاد نتيجة للإجراءات الاستثنائية المطبقة بحقهم من تجريد من الجنسية السورية بموجب إحصاء جائر عام 1962 (وأنا واحد من ضحاياه البالغ عددهم اليوم ربع مليون إنسان محروم من الجنسية السورية)ومشروع الحزام العربي عام 1973، وتعريب أسماء القرى والبلدات الكردية، وسائر الحقوق الثقافية والسياسية التي حرم منها مكون أساسي من مكونات الشعب السوري، وأيضاً تجاهل قوافل الشهداء الكرد في سبيل الاستقلال الوطني والمعارك مع إسرائيل، فكان الإنفجار الكبير انطلاقاً من شرارة صغيرة من ملعب رياضي. و كرد فعل على الممارسات السابقة الذكر وغيرها، هبّ الكرد في سائر أنحاء البلاد للتظاهر والاحتجاج ضدّ القتل بدم بارد من قبل من يفترض أن تكون مهمتهم حماية الوطن والمواطن لا قتل المواطنين وتعذيبهم داخل السجون.

عندما اندلعت هذه الأحداث الصارخة في دلالاتها لم يجد الكرد أنفسهم معزولين عن محيطهم الوطني الديمقراطي وقد تجسّد التلاحم الوطني من خلال تلك المواقف الصادقة من قبل القوى والشخصيات الوطنية،لا سيما التي لها تاريخ طويل في مواجهة الاستبداد وفضح ممارساته وأساليبه وأدواته القمعية، والذين ما زالوا زوار المعتقل وزنزانات النظام.يمكن تذكر ما كتبه،على سبيل المثال لا الحصر، الكاتب والسياسي أكرم البني المعتقل،للمرة الثانية، منذ تاريخ 11/12/2007 في مقالة هامة بعنوان ” أحداث القامشلي مسؤولية النظام وأوهام التطرف القومي ” أن السلطات السورية تتحمل مسؤولية مزدوجة تجاه ما جرى في القامشلي، مرة بإصرارها على تجاهل خصوصية الوضع الكردي، وإهمال مطالبه وحقوقه المشروعة مما أنعكس إحباطاً سياسياً واحتقاناً اجتماعياً في صفوفهم، ومرة باللجوء إلى الخيار الأمني لمعالجة هذه التوترات، وأن السلطة تمارس سياسة ممنهجة تهدف إلى طمس الهوية الكردية وصهر الأكراد ” كأفراد ” في بوتقة القومية العربية، تجلت في استمرار قمع الحركة السياسية الكردية واعتقال نشطائها وحرمان الأكراد من التحدث بلغتهم الخاصة، ومنع الموسيقى والأغاني الكردية، وتغيير الأسماء التاريخية الكردية لمئات القرى والبلدات والتلال والمواقع واستبدالها بأسماء عربية ..

و ما كتبه الكاتب والناشط علي العبدالله المعتقل،للمرة الرابعة، منذ تاريخ 17/12/2007 في مقاله المعنون ” الاضطرابات الكردية في سوريا : ثقافة القوة ” إن قراءة متأنية لما حدث تكشف، دون كبير عناء، عن ثقافة القوة التي لا تجيد السلطة وأجهزتها الأمنية غيرها في تعاملها مع المواطنين، حيث كان بالإمكان السيطرة على شغب الملعب دون إطلاق رصاص وقتل مواطنين أبرياء، وتطويق المشكلة في حدود ذلك….حيث تحتاج السلطة إلى إعادة نظر شاملة في نظرتها إلى ذاتها وإلى مجتمعها، في منطقها وفي أسلوب التعاطي مع الأوضاع والتطورات، وفي نظرتها إلى المواطن في إنسانيته وحقوقه وواجباته وفي خياراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، باعتباره حراً وراشداً، وفي ثقافة أجهزتها الأمنية التي تتعاطى مع المواطن باعتباره مذنباً ، عدواً، نكرة ….

و كان الكاتب والصحافي فايز سارة المعتقل منذ تاريخ 3/1/2008 قد قام بتشكيل وفد واسع الطيف من مثقفين وحقوقيين وسياسيين زار مدينة القامشلي وجوارها وعمل على تهدئة الأوضاع من خلال اتصالات مباشرة مع مختلف الفعاليات في المحافظة وعلى كافة المستويات، وإدانة عمل السلطة في التعامل مع هذه الأحداث والتضامن مع المواطنين الأكراد في محنتهم.

ويؤكد الدكتور كمال اللبواني المعتقل ،للمرة الثانية،و المحكوم من قبل محكمة الجنايات الأولى بتاريخ 10/5/2007 بالسجن لمدة ( 12 ) سنة في مقاله ” مساهمة في ملف أحداث القامشلي ” في مجلة الحوار الثقافية الكردية: أن ما حدث في ملعب القامشلي سببه بسيط وبسيط جداً: هو عدم احترام السلطات لحقوق الإنسان وللكرامة الإنسانية من حيث حق كل مواطن في التعبير عن هويته ومعتقداته وأفكاره وحقه في المشاركة في الحياة السياسية، وفوق ذلك اعتداء السلطات على مواطنيها في الشارع وممارسة العنف في مواجهة المتظاهرين مما أدى إلى سقوط الجرحى والقتلى …. وأن السلطات لا تملك الشرعية الأخلاقية لمقاضاة من ساهم في المرحلة الأخيرة من الأحداث – مرحلة الشغب والتخريب – إلا إذا اعترفت هي أولاً بكل الأسباب المهيأة وكل الأخطاء التي ارتكبتها هي….أما أن – تكسر الشربة – برأس مجموعة فما ذلك إلا تجاهل للمرض وللخطر وإعفاء للذات من المسؤولية وتستر على المذنب الحقيقي…..

هذه مواقف تسجل للتاريخ لأناس مازالوا يدفعون ضريبة الحرية، ويجاهدون سلمياً وعلنياً كي تكون سوريا لكل مواطنيها، وأن يكون الوطن فوق كل اعتبار و حتى لا تتكرر مأساة القامشلي في أي مدينة سورية أخرى.لكل ذلك يبقى من واجبنا تذكّر أولئك الوطنيين الأحرار بضمائرهم وهم يقبعون في سجون صغيرة تنتشر على سائر خريطة السجن الكبير:سورية.

كاتب و ناشط حقوقي سوري

mihyediniso@gmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى