الدور التركي في المنطقة

لا تقلّلوا من شأن الرؤية التركية الجديدة

بقلم جيدا كاران
حالياً يطرح الجميع في العالمَين الغربي والشرقي الأسئلة نفسها. ما هي المسارات الجديدة التي تسلكها السياسة الخارجية التركية؟ ما هي المشاغل والخيارات الحقيقية لتركيا؟ هل ستساهم السياسة الخارجية التركية في الجهود الرامية إلى رفع التحديات في المنطقة؟ هل يمكن أن تشكّل تركيا نموذجاً يحتذى في تحوّل المنطقة نحو الدمقرطة؟ إنها أسئلة تصعب الإجابة عنها. وبالإضافة إليها، تثير التطورات الأخيرة في علاقات تركيا المتدهورة مع إسرائيل وانخراطها مع إيران سؤالاً جديداً. هل تتحوّل تركيا كبلد علماني كبير نحو الشرق بدلاً من الغرب؟
قبل عقد، كانت تركيا في نزاع مع معظم جيرانها، وكانت علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي متشنّجة واقتصادها في حالة ركود كبير. لكن اليوم نرى صورة مختلفة كلياً. لقد استطاعت تركيا بفضل عملية الإصلاح الداخلية والإمكانات الاقتصادية المتزايدة أن تبرز كمروِّجة للسلام في المناطق المجاورة لها. على الرغم من المشكلات البنيوية (المسألة الكردية، التشنّجات مع الجيش والقوى العلمانية خلال عملية الدمقرطة التي تشهدها الدولة)، فإن الاستقرار السياسي النسبي والطاقات الاجتماعية الديناميكية والقدرة على التوفيق بين الإسلام والديموقراطية في الداخل هي الميزات التي تتيح لتركيا إمكان تطوير سياسات ناشطة وفاعلة في منطقتها وتطبيقها.
اتّخذت السياسة الخارجية التركية منعطفاً جديداً بعد تعيين محمد داود أوغلو وزيراً للخارجية في أيار الماضي. لقد مارس أوغلو الذي وضع كتاباً بعنوان “العمق الاستراتيجي” تأثيراً مهماً على السياسة الخارجية التركية. عمل كبيراً للمستشارين لدى رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان منذ 2002، ويملك رؤية تقوم على توسيع الدور التركي، عبر تحقيق اختراقات في الشرق الأوسط وأوروبا. والآن السياسة الخارجية المتعددة البعد التي تنتهجها تركيا واضحة على الأرض. وفي ظل أوغلو، بدأت هذه الرؤية بتعميق الانخراط التركي في السياسة الإقليمية والمنظمات الدولية. لقد حصلت تركيا على مقعد غير دائم في مجلس الأمن الدولي، وهي عضو فاعل في مجموعة العشرين، وتؤدي دور المراقب في الاتحاد الأفريقي والجامعة العربية إلخ.
لا شك في أن الرؤية الجديدة لتركيا في السياسة الخارجية تخضع للكثير من النقاش والانتقاد. ويتساءل كثر إذا كانت قابلة للاستدامة.
منذ نهاية الحرب الباردة، انتقلت تركيا من الهامش لتحتل الواجهة في موضوع الأمن في أوراسيا. إنها مشارِكة أساسية في حلف شمال الأطلسي (الناتو) وتطمح إلى أن تصبح عضواً في الاتحاد الأوروبي. للدور الرئيس الذي تؤدّيه تركيا في جنوب شرق أوروبا والشرق الأوسط والقوقاز تداعيات عميقة على الساحة الدولية. وتملك تركيا روابط قوية مع أوروبا، الأمر الذي من شأنه أن يسمح للبلاد بأن تشكّل جسراً بين أوروبا والشرق الأوسط جغرافياً واقتصادياً وثقافياً. لكن كما يقول كبير المفاوضين الأتراك مع الاتحاد الأوروبي إيجمين باغيس “أي جسر ذي ركيزة قوية وأخرى ضعيفة لا يستطيع أن يصمد طويلاً”. العلاقات التركية القوية مع بلدان في الشرق الأوسط وكذلك الرؤى الثقافية المشتركة والتاريخ المشترك واضحة منذ الآن. قال أردوغان “جانب من وجه تركيا ينظر إلى الغرب، والجانب الآخر إلى الشرق”. الهويات الإقليمية المتعددة لتركيا هي واقع يجب أن يفهمه الجميع. وفي ظرف متغيّر، “لا تملك تركيا ترف إدارة ظهرها لبعض المناطق أو تجنّبها كما كانت تفعل في السابق”.
إذاً هناك إعادة تموضع تضع تركيا في مشهد جغرافي أوسع. لا يعني هذا أن السياسة الخارجية التركية المتعلقة بالمناطق المجاورة تحاول تأدية دور مهيمن. من المجحف التوصل إلى مثل هذا النوع من الافتراض. حالياً نرى في تركيا المروِّجة الوحيدة للسلام والبلد البنّاء الوحيد في المنطقة، فهي تؤدّي دور الوسيط والمسهِّل من الشرق الأوسط إلى القوقاز لحل مشكلات مزمنة؟
لمسنا مؤشّرات السياسة الخارجية الجديدة عام 2003 في المشكلة القبرصية. لقد حطّمت تركيا محرّماتها وشرعت في عملية تفاوضية جديدة. تتواصل العملية على الرغم من الصعوبات والعوائق التي تواجهها. ومنذ ذلك الوقت، رأينا تركيا تؤدّي دور الوسيط في المفاوضات غير المباشرة بين إسرائيل وسوريا والمفاوضات المباشرة بين أفغانستان وباكستان. العام الماضي خلال الأزمة بين روسيا وجورجيا، عرضت تركيا برنامجاً للاستقرار والتعاون في القوقاز لمعالجة مسائل مثل السلام والأمن الإقليميين وأمن الطاقة والتعاون الاقتصادي. ونجحت تركيا بحذر في إيجاد حل لأزمة محتملة بين الناتو وروسيا في البحر الأسود. وفي ما يتعلق بالعراق، آلية البلدان المجاورة هي مثال آخر عن البرامج الإقليمية التي استنبطها صانعو السياسات الأتراك لتسوية المشكلات الإقليمية. لقد هدفت هذه الديبلوماسية الاستباقية إلى تحقيق “انعدام المشكلات” مع الجيران، وحقّقت نجاحاً نسبياً. والآن يحاول صانعو السياسات في تركيا الانتقال إلى الخطوة التالية التي أطلق عليها داود أوغلو اسم “التعاون الأقصى”. وخير مثال عن هذه المقاربة الجديدة الاتفاقات التي جرى توقيعها في الآونة الأخيرة لفتح الحدود مع سوريا وإنشاء مجالس تعاون استراتيجية رفيعة المستوى مع كل من سوريا والعراق، والاتفاق التاريخي الواعد جداً الذي ينص على فتح الحدود وإرساء علاقات ديبلوماسية مع أرمينيا.
إنها سياسة خارجية طموحة جداً. لديها مخاطرها وتحدياتها، لكن يجب أن نفهمها كآلية. ويجب أن نفهم إعادة التموضع التركية انطلاقاً من وجهات النظر الخاصة بتركيا التي تتصرّف وفقاً لمصلحتها الوطنية.
لقد ولّدت سياسة الرئيس الأميركي باراك أوباما القائمة على سحب الجزء الأكبر من الجنود من العراق ووجوب العمل مع الشركاء الإقليميين، فراغاً في النفوذ في الشرق الأوسط، الأمر الذي أحدث تحولاً في ميزان القوى في الشرق الأوسط، ولا سيما في ما يتعلق بالنزاع الفلسطيني-الإسرائيلي وسياسة الانخراط الأميركية حيال إيران. لقد ساهمت “الشراكة النموذجية” التي يقترحها أوباما مع تركيا وزيارته للبلاد في جعل تركيا تكتسب صورة “القوة الناعمة” على الساحة الدولية. يقول داود أوغلو “تنبع قوة تركيا الناعمة من تأثيرها الميداني في الشرق الأوسط والقوقاز، إلى جانب إمكاناتها السياسية والثقافية والاقتصادية. تكمن المهمة في بناء تجارة ملائمة ومستدامة بالتعاون والتنسيق الوثيقَين مع مجتمع البيزنس ومؤسسات الدولة”. من أجل تحقيق هذه الأهداف، آخر ما تحتاج إليه تركيا هو عامل مزعزع للاستقرار في المنطقة.
المصدر الأساسي لهذا “التحول في المحور” في ما يختص بالسياسة الخارجية التركية هو إسرائيل وإيران. لذلك يجب أن نلقي نظرة عن كثب إلى الصورة من خلال المنظار التركي…
أولاً إسرائيل. كانت تركيا أول دولة مسلمة تعترف بدولة إسرائيل، على الرغم من أن العلاقات بين البلدَين ظلّت فاترة لوقت طويل. وبعد الحرب الباردة، وقّعت الدولتان بدءاً من التسعينات معاهدات اقتصادية وعسكرية. وحملت آراء متشابهة عن الشرق الأوسط والنظرة إلى عدو مشترك (سوريا والعراق وإيران) العلاقات التركية-الإسرائيلية إلى مستوى “الشراكة الاستراتيجية”. لكن يجب ألا نعتبر هذه النظرة دعماً تركياً تلقائياً لإسرائيل. فعلى سبيل المثال، اتّهم رئيس الوزراء التركي السابق بولنت أجاويد الحكومة الإسرائيلية بـ”ارتكاب إبادة” عام 2002. غير أن الدولتَين كانتا تعتبران آنذاك أنهما محاطتان بالدول “المارقة” العدائية نفسها، مما حفّز كلاً منهما على قبول الآخر كشريك قيّم. لكن الحرب والاحتلال في العراق غيّرا بانوراما الشرق الأوسط. فوفقاً للرؤية التركية الجديدة في السياسة الخارجية، لم تعد تركيا تشعر بأنها مهدّدة – ولا سيما من حزب العمال الكردستاني – وحسّنت علاقاتها أكثر فأكثر مع جيرانها. نتيجةً لذلك، فقدت “الشراكة الاستراتيجية” بين تركيا وإسرائيل معظم زخمها.
تعتمد آفاق تركيا في المستقبل على الاستقرار الإقليمي، ومن هنا تنشط أنقرة في السعي إلى تسوية النزاعات في جوارها. العنصر الأساسي لإرساء “سلام دائم” في الشرق الأوسط هو دولة فلسطينية تعيش جنباً إلى جنب مع إسرائيل. غير أن الموقف الإسرائيلي وعدوان غزة في كانون الثاني يتعارضان كلياً مع الرؤية التركية في السياسة الخارجية. كان رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان يؤدي دور الوسيط بين إسرائيل وسوريا قبل اندلاع النزاع في غزة. وهكذا شعر بأن العدوان الإسرائيلي هو خيانة شخصية له. لقد أدانت تركيا العدوان الإسرائيلي والجرائم المرتكبة بحق أبناء غزة، كما انسحب أردوغان من منتدى دافوس بعد تبادل للصراخ مع الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريس. لا شك في أن هذا الموقف العاطفي اعتُبِر في تركيا مناورة في السياسات المحلية. تملك حكومة أردوغان المتجذّرة في الإسلام أساساً محافظاً على الصعيد الاجتماعي. وقد تعرّض أردوغان للانتقاد على خلفية الاتفاقات العسكرية مع إسرائيل، ولأنه سمح للطيّارين الإسرائيليين باستعمال المجال الجوي التركي. لكن فُهِم لاحقاً أنها ليست مناورة داخلية وحسب، بل هي أيضاً رؤية عامة في السياسة الخارجية. فمنذ وقت قصير، ألغت تركيا مناورات عسكرية مشتركة كانت مقرّرة مع القوات الإسرائيلية بسبب العزل المستمر لغزة. وتعلن تركيا بوضوح أن العلاقات بين البلدين سوف تظل مأزومة إذا لم تضع إسرائيل حداً لـ”المأساة الإنسانية” في قطاع غزة وتحيي من جديد محادثات السلام مع الفلسطينيين. إذاً من وجهة النظر التركية، السلوك الإسرائيلي حيال الفلسطينيين والنيات الإسرائيلية في موضوع عملية السلام هي عوامل أساسية. لسخرية القدر، تستمر عزلة إسرائيل في المنطقة وحاجتها إلى الشراكة الاستراتيجية. لهذا السبب، لا يرد الإسرائيليون بقوة على تركيا.
تتعلق النقطة الأساسية الثانية بإيران. تتشاطر تركيا وإيران حدوداً تمتد على مسافة 499 كيلومتراً، وعلى الرغم من وجود خصومة تاريخية بين الجارَين المسلمين، إنهما في حالة سلام منذ قرون. في الأعوام الماضية، عزّزت تركيا وإيران العلاقات التجارية بينهما وكذلك التعاون في مجالَي الأمن والطاقة. على سبيل المثال، وصلت قيمة التجارة بين البلدين إلى عشرة مليارات دولار عام 2008، مقارنة بمليار دولار عام 2000. كما تؤمّن إيران نحو ثلث حاجات تركيا من الغاز.
لدى القوى الغربية وفي شكل خاص الولايات المتحدة ملف نووي عن إيران. فهم يزعمون أن إيران تسعى لإنتاج أسلحة نووية. من الواضح أن الغرب يطبّق معايير مزدوجة في ممارسة ضغوط على إيران بشأن برنامجها النووي. فمن المعروف جيداً أن إسرائيل هي الدولة الوحيدة المسلّحة نووياً في الشرق الأوسط. هذا ما قاله أردوغان في الكلمة التي ألقاها في الأمم المتحدة، وفي مقابلة أجراها حديثاً مع صحيفة “الغارديان” وخلال زيارته طهران. لكنه شدّد أيضاً على الحاجة إلى التخلص من الأسلحة النووية في الشرق الأوسط. لا شك في أن إيران المسلّحة نووياً لا تخدم المصالح التركية. غير أن مواصلة البرنامج النووي الإيراني لغايات سلمية هي حق طبيعي. فضلاً عن ذلك، إنها لسخرية قدر أن تُعتبَر إيران، في حال تسلّحت نووياً، غير جديرة بالثقة، في حين أن إسرائيل المسلّحة نووياً هي محط ثقة بغض النظر عن عدوانيتها حيال جيرانها.
تؤيّد تركيا اعتماد الديبلوماسية في التعاطي مع إيران، وتعتبر أن العقوبات ليست الحل المناسب. يجب ألا يتوقّع أحد من تركيا أن تطبّق بسهولة عقوبات على إيران. وليس السبب فقط أن الحكم في أنقرة هو في يد حزب العدالة والتنمية. فكل الأوساط الإسلامية في تركيا، سواء كانت في الحكومة أم لا، أبقت على مسافة بينها وبين الإسلام الشيعي. علاوةً على ذلك، خلال الحرب الإيرانية-العراقية بين 1980 و1988، قاومت تركيا فرض عقوبات على إيران واستطاعت أن تبقى على الحياد. وآخر ما تريده تركيا في القرن الحادي والعشرين هو صدام نووي عند حدودها. قد يسبّب الموقف التركي تعارضاً في وجهات النظر بين أنقرة وحلفائها الغربيين. غير أن قلة في إدارة أوباما تختلف في الرأي مع تأكيد أردوغان بأن استعمال القوة ضد البرنامج النووي الإيراني سوف يكون الطريق التي تؤدّي إلى الجنون.
إيران وإسرائيل هما بمثابة حدّ السكين في ما يتعلق بأهداف السياسة الخارجية التركية. لكن هذا لا يعني أن تركيا تتحوّل من الغرب إلى الشرق. لتركيا دور مهم تؤدّيه في الشرق الأوسط، هذه المنطقة ذات الأهمية الاستراتيجية الكبرى؛ كما أنها تضطلع بأهمية استراتيجية حيوية كبلد عبور لموارد الطاقة. وتمارس أيضاً تأثيراً عميقاً في أفغانستان والقوقاز. لم تتخلَّ تركيا عن طموحها بأن تكون جزءاً من الاتحاد الأوروبي. بل الأوروبيون هم من تراودهم مخاوف بشأن تركيا بسبب ضخامة مساحتها وعدد سكّانها.

(ندوة “المعد الدانماركي في دمشق”)

(صحافية تركية ترجمت النص عن الإنكليزية نسرين ناضر)
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى