المثنى الشيخ عطية

الحلقة رقم 10 من رواية: سيدة الملكوت

null
المثنى الشيخ عطية
سيدة الملكـوت
أنظر إلى ساعتي وأنا أتململ خلف المقود،  أرجو أن لا يتأخر نصير. يخرج سراج. يسلم علي، يخبرني أن والده يتحدث بالتليفون وأصاب باليأس. كل شيء إلا هذا، سوف تنهال علي سهام أسئلة سراج من جهة، وسنتأخر في الوصول إلى المطار من جهة أخرى. أفكر بقطع سلك التليفون. يفاجئني نصير بالخروج وأتنفس الصعداء. أمازحه..
ـ كنت سأقطع سلك التليفون من الخارج لو لم تأت.. أقول له وأنا أنطلق بالسيارة قبل أن يغلق الباب. يرد علي أنه عمل حساباً لهذا لكنه يرجوني أن لا نكون ضحية لهفتي اليوم. أطمئنه أننا سنكون بأمان لأنني قطعاً سأرى نورا قبل أن أموت لكنني لا أضمن له طريق العودة.
ـ المشكلة أنني أعرف جنونك. لن أعود معك حتى تضمن سلامتي.. يقول وأضحك. أطمئنه وأنا أتجاوز السيارة المبطئة أمامي أننا لن نموت، وألعن طريقة القيادة الإنكليزية التي لم أتعودها بعد. ينبسط الطريق البحري الجميل الأخضر أمامنا. يقول نصير وهو يتطلع إلى ساعته إننا سنصل مبكرين إلى مطار لارنكا وهو يكره الانتظار. أفكر بالانتظار. كم انتظرت هذه اللحظة. كم انتظرت نورا. كم مرّ علي من مشاهد للحياة هنا تمنيتها أن تكون فيها. سوف أخبرها بهذا قبل أن أضمها حقيقة في كل مشهد جميل رأيته. أبطئ قليلا من سرعتي، ولكن ماذا لو أتت الطائرة مبكرة عن وقتها. يجب أن أسرع. يقطع نصير شريط تأملاتي.
ـ لم تسألني مع من كنت أتحدث في التليفون!؟.. يقول.
ـ هل يتعلق الأمر بي.. أقول مازحاً ويفاجئني.
ـ نعم. عائشة على وشك الانهيار. البارحة كانت لديّ. الأزعر محمد تمادى هذه المرة. صديقة ابنتها أخبرتها أنها رأته ماراً بسيارته في
ساحة “الكانيكا” مع عائشة، وأنها أعجبت بعائشة، يقول ويتوقف.
ـ تريدني أن أضرب بالرمل، ما المشكلة !؟ أقول ضاحكاً.
ـ المشكلة أنه في الوقت الذي رأتهما فيه كانت عائشة في البيت.. يقول متضايقاً ويسود بيننا الصمت.
ـ حسناً. ما الذي تريده مني عائشة!؟.. أسأله.
ـ هي لا تريد منك مباشرة. أنت تعلم كبرياء المرأة. تريدني أن أستفسر منك دون أن تعلم أنت من هي فتاة السيارة.. يقول وأحس بالإهانة. أسأله لماذا أنا بالذات، ويحس بانزعاجي من تصرف عائشة ويصحح الوضع.
ـ قبل كل شيء هاني. عائشة تثق بك، وتثق بخروج محمد معك في مشاوير السكر، وأنا أخبرتها بمبدأ عدم تقديمك مشروباً لفتيات البار ونحن معك. يقول ويضحك.
ـ أي أنني أقدم لهن مشروباً عندما أكون وحدي. أقول متصنعاً الانزعاج. ويضحك.
ـ لا تقلق. عائشة تصدق أنك ما تزال بكراً، لكنها تخجل من سؤالك. تكاد تنهار، وتفكر بالطلاق.. يقول وأفكر ببكارتي وبالمرة الأخيرة التي سهرت فيها مع محمد. إن الفتاة هي مغنية “العربة” السمراء التي استجابت لزهرته عندما ألقاها عليها وهي تغني. أفكر بالمغنية السمراء.. “لم يعد هناك مهرب”.. قال محمد وهو يراها قادمة نحونا إلى البار. “علينا أن نقدم لها كأساً بعد ورطة الزهرة”. تصنعت الرضوخ له.  كنت سأدعوها إذا لم يفعل كي أبدد نفسي.. وجلست السمراء الطويلة الشعر بيننا على البار. أعطت وجهها لمحمد وانسكب شعرها شلال عطر في حضني. استدارت مقربة عنقها مني “هل يعجبك ذلك” !؟.. قالت ضاحكة وابتسمت لهذا الوضع. طلب مني أن أدخل في لعبة ترجمة بينه وبينها ووافقت. أخبرتها بذلك وضحكت. “هل أقترب أكثر لكي تكون الترجمة أمينة”.. قالت مشاركة إيانا مرحنا وأذهلتني. اقترب ظهرها مني أكثر مما يحتمل. تنفست عطر شعرها وكدت أغيب. حدّثها محمد كعادته بيديه واقتربت يده لملامسة صدرها وهي تضحك. أزاح شعرها عن عنقها. سألها بالعربية متقصداً من أين أتت بجمال هذا اللون، ونظرت بمواربة إلي أن أترجم وهي تضحك. أزحت شعرها قليلاً عن عنقها ولمست عنقها بظاهر يدي. وضحك محمد: “هذه هي الترجمة الأمينة لسؤاله عن لونك. أي شمس أهدتك إياه” قلت وضحكت سعيدة باللعبة. “هذا كلام شعراء” قالت، وضحك محمد. قلت لها “إن محمد شاعر فعلاً”، وضحك هو لها بعينيه الآسرتين. نظرت إليه وإلى كأس الفتاة الذي ملأته الساقية المتشاغلة عنا مرة ثانية. وقلت له بعيني أن لا يتمادى. لحظات مرح ويكفي..
ـ يمكنك أن تطمئن عائشة. إنها فتاة التقينا بها في ملهى العربة. كانت وصلة مرح بينها وبيننا ولم يحدث أي شيء، لكن حظ محمد التعيس جعله يراها بعد ذلك وهو مار بسيارته، وطلبت منه توصيلها إلى محل قرب تشرشل هوتيل. ولم يكن أكثر من ذلك. أنت تعرف أن محمد يموت في عائشة، وكل ما يفعله شقاوة طفل بعد يوم العمل.. أقول ويضحك.
ـ لقد ذكّرتني بحظ محمد السيء.. مرة مرّت عائشة في المساء أمام بار مكشوف بالصدفة. رأت من بعيد شاباً يرقص مع فتاة أجنبية، وخيل لها أنها تعرفه. اقتربتْ وكان محمد. لم يكن الأمر سوى أنه نزل لشرب كأس ودعته الفتاة للرقص، ولم تكن سوى لحظات بعدها ورأته عائشة…
ـ وماذا فعلت. قل لي؟.. أقول متشوقاً لردة فعل عائشة.
ـ لقد فقدت أعصابها. أبعدت الفتاة عنه، وضربته أمام الجميع..
ـ ضربته!؟ أقول ضاحكاً، ويضحك نصير.
ـ لقد كان الأمر محرجاً بالنسبة إليه. لقد تحمل الإهانة رغم أنه بريء. واعتذر منها. صالحته في النهاية، لكنها أصبحت تشك بدوافعه.
ـ الله يعينك يامحمد.. أقول متفكراً في وضعه المحرج.. أنت تعلم أنه بريء يانصير. ولم يكن الأمر سوى دعابة كنت أنا مشاركاً فيها. أخبر عائشة أن الأمر ليس أكثر من ذلك..
ـ أعتقد أنها بقرارة نفسها تعلم ذلك لكنه يحرجها عندما يصادفه سوء الحظ.. سوف أهدّئها وأشرح لها الأمر. يقول نصير مرتاحاً لموقف محمد.
أنظر في ساعتي، أفكر بنورا. كيف هي الآن. هل أعترف لها بشقاواتي. وهل ستغفر لي شقاواتي. أعرف أنها تريدني أن أعيش حياتي. لكنني أعرف أنها مثل عائشة تريد رجلها أيضا كما تريد. أفكر أننا سوف نصل مبكرين، وعلي أن أعاني مرارة انتظارها. يسألني نصير عن نورا، ما الذي ننوي فعله وأحتار في الإجابة.
ـ سأطلب منها الزواج. أقول ويصمت نصير. يفكر.
ـ وما مصير الولد. يسألني، ويدفعني للكآبة. أحاول أن أقول له أنني أمزح لكنني أستمر.
ـ هي لن تتخلى عنه لزوجها، وأنا معها في ذلك. أقول ويعود لإثارة كآبتي.
ـ هل أخذتم رأي الولد. يقول وأنظر إليه نظرة استغراب.
ـ  أنا لم أطلب منها بعد. أقول وأفكر بالعقلية الباردة التي يحملها رأسه الأصلع. أحس أنه فقد بقايا فطريته بعد الحرب. أدخل حدود المطار وأتشاغل في البحث عن مواقف السيارات. أفكر أن علي أن لا أفكر هكذا وأن علي الاستمرار في الاعتماد على حواسي. ربما كان نصير محقا بسؤاله.. لكنني لا أعالج الأمور هكذا.
ـ الآن أريد رؤيتها فقط. أقول له. رؤيتها وليكن بعد ذلك ما يكون.

تنفتح البوابة. يخرج المسافرون وتنفتح موسيقى صخب اللقاء. تمسح عينيّ المسافرين الخارجين أمامي بعدسة اللهفة الواسعة. أقف من بعيد هادئاً ومغموراً بحرارة لقاءات البشر بأحلامهم. تصمت موسيقى الزحام ويتحرك المشهد أمامي بطيئاً. يتبدد الجمع كما غيمات تفتتها الريح، وتومض خلل الغيمات سحابة عمري. يتبدد الجمع كلياً لتظهر شجرة المشمش إياها، شجرتي كاملة ومزهرة بتويجات الربيع… نقف أمام بعضنا. ها هو ذا حلم انتظاري أخيراً أمامي. هو ذا حضن انتظاري أخيراً. هي ذي جنتي التي بلحظة حمق غادرتها. هي ذي نورا. نتأمل بعضنا دون أن نتحرك. تستقر عيناها في عيني. أرى في عينيها اللهفة لاحتضان الولد الذي ترك جنته وهرب. نبتسم لبعض. هانحن ذا أخيراً ويلمع في عينيها برق الدمع. يمطر قلبي باللهفة لكني أوقفه بقبضة كفي المزمومة لسحقه إذا تقدم. نقف أمام بعضنا مقاومين الحبل الذي يشدنا حتى التعب. أفكر أن على أحد ما أن يرحمنا ويتقدم لقطع هذا الحبل. أتنفس دون أن أتحرك الصعداء. تتقدم أخت يوسف لعناق نورا، وتطلق نورا قبضة ابنها موجهة إياها للركض واحتضاني. أرفع بيدي طارق. أتأمل عينيه وأضمه، أحمله وأتقدم. تسلم نورا على نصير، يلومان زمان التفريق بفرحة اللقاء. أتقدم حاملاً طارق. أمد يدي لاحتضان يدها. “أخيرا رأيتكم”.. تقول وتقدمنا إلى أخت يوسف وزوجها.
ـ هانيبال العابد، ابن خالتي. نصير جبيلي، صديقنا. تقول وتعتذر للعودة كي تحضر الحقائب وتعطيهم العنوان الصحيح لإقامتها. أتحرك للمساعدة. أخرج بطاقتي الصحفية. أريها للشرطي كي يسمح لي بالدخول معها. أخبره أنها تحتاج لمساعدتي وأن علي أن أعطي دائرة الهجرة عنواني لنزولها. يتفهم الشرطي موقفنا ويسمح لي بالدخول معها. أتجه إلى موظف الجوازات، وتتجه هي لإحضار حقائبها. أنهي مهمتي بسرعة وأعود متقدماً نحوها. تبتسم لي. ها نحن ذا لوحدنا. أشعر بالرغبة في عناقها وتحس هي بدفء رغبتي. تفتح ذراعيها قليلاً وأدفن رأسي بين شلال شعرها وعنقها أحس بدفء ذراعيها تضماني وأستنشق رائحتها. أحتجزها بداخلي كلّية .. “يكفي هاني”.. تقول بصوت متكسر وتخفي انفعالها بالضحك. “أخيراً أنت هنا. يا إلهي. كم انتظرت هذا”.. تقول لها خلاياي المشتتة بدفء عطرها. ترخي ذراعيها عن كتفي ونبتعد قليلاً عن بعضنا. تتأملني عن قرب..
ـ لابأس بصحتك، دعنا لا نضيع الوقت، وصلت الحقائب.. تقول وتحاول إنزال الحقيبة من الشريط. أساعدها وأضع الحقائب على العربة. أشكر الشرطي الذي ابتسم لنا مرحباً.
ـ والآن يا جماعة تفضلوا معنا إلى نيقوسيا. تقول أخت يوسف الطويلة القوية بدعوة ودودة، ونشكرها. نمشي في اتجاه سيارتهم.
ـ حسناً هاني. سأكون لديكم في المجلة بعد أيام.. تقول نورا ويطلب طارق مني اصطحابه لصيد السمك من البحر كما وعدته.
نرفع أيدينا ملوحين لهم بالوداع، وألتقط نظرة عينيها العذبة الواعدة لي. أقول بعيني لعينيها إنني بانتظاركما فلا تتأخرا. أرجوهما بعيني أن لا يتأخرا. إن هذا كثير. تقول لها عيناي إن هذا كثير نورا…

*******

أرتب وضع الديك على ساعد المكتب. أرتب وضع المقلمة وأوراقي. أقوم. أعدل وضع الكرسي الذي ستجلس عليه والطاولة الصغيرة أمامه. أين ستضع قهوتها. ربما وضعتها على المكتب بدلاً من الطاولة. أخلي مكاناً لقهوتها عليه. أقف وكأنني قادم لزيارة المكتب. أتأمله. وضع المزهرية جيد وعنقود الزهر البنفسجي هو ما تحبه. ماذا سأفعل أيضاً. أحس بعيني روزا تراقباني. أمسك باب مكتبها:  “نورا ستأتي بعد قليل”.. أقول لها، وتهنئني بسلامة وصولها ضاحكة من ارتباكي في استقبالها. أسألها عن رأيها في المكتب الآن وتقول أنه سيكون أجمل لو هدأت وجلست. أنظر إليها معاتباً وأعود للجلوس. أتشاغل بتقليب مجلة دون أن أعي فعلاً ما أقرأ. يرنّ جرس التليفون. تستدعيني عائشة. أجلس أمامها مع محمد. تبدو المرأة القوية مرهقة لكنها متماسكة. أفكر بنصير. لم أسأله ماذا قال لها. أتوخى الحذر. تسألني عن موضوع غلاف العدد.. “هل كونت فكرة عما يمكن أن يكون”؟.. تسألني وأستفيض بالشرح دون أن أدري لكي أهرب من موقف ما أعرف، أقول إن لدينا موضوعان الأول هو التحقيق عن تفاحة حواء وقد بلورت أسئلته بـ: “من قدم التفاحة لمن/ الرجل أم المرأة”!؟.. وأعتقد أنه يصلح كموضوع للغلاف لأننا نثير فيه محرّماً لا تستطيع الصحافة الاقتراب منه، كما أننا سنكون محميين إلى حد ما لأن تحميل المرأة وحدها إثم تفاحة الخطيئة هو من الإسرائيليات وتحديداً في التوراة التي خاطب إلهها المرأة قائلا: “بالألم تلدين”، في حين حمّل الرسول محمد إثم الخطيئة للرجل والمرأة على حد سواء حين خاطبهما بصيغة المثنى وهي نقلة في تاريخ البشرية بالنسبة للمساواة بين الجنسين.
ـ نعم.. أعتقد أنه مناسب، والموضوع الثاني. تقول عائشة وأستجمع في ذاكرتي أبعاد الموضوع. أقول لها إن الموضوع هو استمرار لما بدأنا متابعته وأعني البرنامج الأميركي المتكامل لحرب الخليج.. نشرنا موضوعاً عن أول معرض للأسلحة من نوعه في اللحم العربي الحي، ونشرنا عبر مقابلاتنا مع المثقفين موضوعات حول وهم الديمقراطية الغربية وحول الإعلام الغربي المسيطَر عليه من قبل البنتاغون، وحول غش الأميركيين بقصة محو عقدة الفيتنام، وأعتقد أن هناك تفصيلات تجارية سياسية في البرنامج تدور بتروس الآلة الرأسمالية نفسها.. فبالقدر السياسي الذي تغذي فيه أميركا عقلية الحرب في العالم وخلق بؤر للتوتر تقوم الشركات المتعددة الجنسيات بدعم هذا التفصيل والربح التجاري من ورائه من خلال إقامة صناعة كاملة لأزياء الحرب.. الثياب المبرقعة، والأبواط العسكرية، والشعارات… إلخ، وقد بدأت مجلات التصوير كما في غلاف مجلة فوتو ومجلات الجنس ترويج هذه البضاعة عبر جسد المرأة.. وقد أوحت لي قصيدة لكيتس عن الجميلة التي لا تعرف الرحمة أن الغرب مهيأ لهذا من خلال إرثه الثقافي حول نساء فالكيري المحاربات، وحول الأمازونيات، وأعتقد أن موضوعاً مقارناً بين الرومانسية والاستعمار في زمن كيتس وبين وحشية الرأسمالية وخداعها للنساء في زمن بوش سوف يكون مهماً من خلال عرض ما أوصلوا إليه أساطير الفالكيريات والأمازونيات من خواء يقتصر على الجنس وإثارة الغرائز، لكن لندع ذلك الآن. أفكر أن موضوعاً عن أزياء ترويج الحرب يمكن أن يصلح للغلاف، خاصة وأننا عرضنا من قبل موضوعات رائعة كتبها سامح عن تاريخ الأزياء، ويمكن لهذا الموضوع أن يكون استمراراً لها.
ـ يعجبني الموضوع. لماذا لا تبدأ بكتابته الآن. تقول عائشة وأبلع ريقي.. لقد أوقعت نفسي. ليس من مهماتي الكتابة للمجلة دون مقابل وعائشة لا تدفع لي عما أكتب من تحقيقات لكن ماذا أفعل!؟.. ليس هناك مجال للرفض.. أنا مسؤول عن تطوير المجلة، والكتّاب لم يعودوا يلبونني بالشكل المطلوب بسبب الوضع المالي للمجلة. أهز رأسي علامة الموافقة. وأحس أن ببال عائشة موضوع يؤرقها ولا يريد أن يغيب.
ـ وموضوع المهنة الأقدم في التاريخ، منذ شهرين وأنتما تعملان على تحقيق حول البغاء، وقلت لي هاني إنك ستجري مقابلات مع فتيات
“الشو”.. هل هناك جديد حولهن.. تقول عائشة وأنظر إلى محمد الذي يضحك ببراءة طفل وهو ينظر إلى عائشة وأبتسم. أفكر بالمأزق الذي كنت قد وضعت نفسي فيه. ماذا تريد عائشة!؟ أحدّق في عينيها السوداوين اللتين تخفيان غموضهما بهذا السحر، وينكشف فجأة ودون مواربة للحظة ثم يغيب عالم أسرارها الدفينة لعيني. أعود للتحديق دون تفكير بفنجان قهوتي. تسحب عائشة نفساً عميقاً من سيجارتها منتظرة جوابي كي تبدد قلقها من انكشاف أعماق بحيرة عينيها السوداء لعيني.. الآن أعرف تماماً لماذا كلفتني عائشة بهذا الموضوع، أطيل التحديق بفنجان قهوتي. وأعود للتحديق في عينيها وأزيح نظراتي مرة ثانية إلى فنجان القهوة الفارغ. أقول إن موضوع التحقيق لم يكن بالسهولة التي تصورتها، إضافة إلى أنه مكلف بالنسبة لخبرتي بفتيات الاستعراض. أقول ذلك مشدداً على التكلفة وتصمت. أعرف الآن أنها لن تسألني عنه مرة ثانية في هذه الأوقات الحرجة للمجلة. أنظر في ساعتي. أقول لعائشة إنه موعد قدوم نورا، وتطلب مني رؤيتها إذا حضرت. أخرج من مكتب عائشة متجهاً إلى مكتبي. أشم رائحة دفئها قبل أن أراها. أقف أمامها وتنهض. أقبل خدها وأنا أحتضن دفء يدها بيدي. أبتعد قليلاً لآخذ صورتها كاملة بقميصها الذي بلون أفق برتقالي مشتعل بالنار فوق تنورتها الطويلة المزهرة بالأخضر والبنفجسي الراقصين بإيقاع الأبيض. أحاول ضمها لكنني أتراجع أمام سهام بحيرة عينيها “هناك من يراقبنا”.. تقول لي عيناها، وأكتفي بلمس ذراعيها والضغط عليهما قليلاً لأجلسها. أجلس أمامها. أسألها إن كنت تأخرت عليها وإن كانت شربت قهوتها وتقول لي وهي تنظر إلى روزا أن روزا قامت بالواجب. أغرق روحي في بحيرة عينيها المعشبتين.. “أخيراً أنت هنا”. أحاول استيعابها كلية في عيني.
ـ مكتبك جميل. تقول لي وهي تتأمله. “الآن أصبح جميلاً”.. أقول.
ـ يبدو الجو مريحاً. هل أنا مخطئة!؟.. تسألني.
ـ لا. أنت مصيبة لكن هناك ما ينقصه. أجيبها معبراً عن اشتياقي لها.
ـ أنت كما أنت.. تتطلب الدلال.
ـ ألا أستحقه!؟..
ـ آ .. تستحقه، ويستحق من يحبك هذه العقوبة.
ـ الممتعة .. لن تقولي أن العقوبة معي لا تترافق مع المتعة.. أقول.
ـ هي من ناحية كونها ممتعة ممتعة.. لكنها عقوبة.
ـ عدنا إلى الاستفزاز، وتعليقي بمتعة سخريتك.
ـ أمر جيد أن تبعث فيك سخريتي المتعة.. تقول وأنظر إليها. أفكر أنّ علي إنهاء أمور العمل في المجلة كي أتفرغ لها.. أصحبها إلى مكتب عائشة التي ترحب بها وتسألها عن باريس وعن وضع المثقفين في محنة الحرب، وتجيبها أن النظيفين منهم يعانون من عقوبات التحالف.
ـ بعضهم طردته الديمقراطية الفرنسية وبعضهم سوف يطرد نفسه بسبب صعوبات العمل وعدم مساعدة الآخرين لهم.. تقول لها، وأفهم أنها تريد تذكيرها بوضع سامح. تدخل روزا وتوقّع بعض الأوراق.. تسأل نورا عن باريس، تتبادلان المجاملات حول معرفتهما التلفونية. تقلب عائشة الرسومات التي أعطتها إياها نورا لصفحات الطفل في العدد الجديد وتبدي إعجابها وتتفقان على تنفيذ قصة أخرى وأتابع أنا أعمال العدد مع حسّان.
ـ عائشة لطيفة إلا فيما يتعلق بالنقود.. تقول نورا ونحن نجلس في المطعم البحري المفتوح على الشاطىء. أبتسم لها كي تفهم ما كنت أعانيه في التذكير برواتب سامح. أقول لها إن عائشة تعاني من مشاكل في التمويل وأطمئنها إلى أن الأمور آخذة في التحسن. نطلب البيرة واللحم المشوي الذي خبرت جودته في هذا المطعم. تتأمل نورا البحر الذي استكان أمامها.
ـ تعجبني بساطة الحياة هنا. يعجبني هذا الشاطىء المتروك على سجيته. هذا الطقس يدفعني إلى كره باريس ومشاكلها. القال والقيل فيها. تقول منبسطة الروح والجسد وأتأمل عينيها اللتين استقر في حضن هدوئهما البحر الهادىء الجميل. أفكر أنه لم يكن أليفاً وهادئاً هكذا من قبل.
ـ ما الذي فعلت له كي يستكين هكذا في عينيك. أقول لها وأنا أتأمل البحر الذي لا أعرف أين خبأ أمواجه.
ـ لم أكن أحب بحراً بدون أمواجه من قبل، لكن يبدو أنني بحاجة إلى الهدوء بعد صخب باريس.. تقول وأحس أنها مجروحة من المدينة التي غادرتها. أفكّر أن علي القيام بتفريغ حزنها عبر الكلام. أسألها عن محمود وعائلته. كيف هو مع كمال والآخرين، وتحاول هي الهرب من الحديث.
ـ لا أعرف إن كنت أريد الهرب من الحديث عنهما أم العكس.. لكن أعتقد أنك يجب أن تعلم.. تقول وتستثير فضولي. أنظر إليها أن تكمل. تخبرني بأسى أن كبرياء كمال وضيق نفسه أنهيا صداقة عمره مع محمود، والقصة مربكة ولا تحكى.. أنظر إليها أن تكمل.
ـ أنت تعرف إميل، المحرر الأدبي في مجلة (الصوت)، لقد رفض كمال أن يعطيه التعويض المطلوب لإقالته من العمل عندما توقفت المجلة، وحجته أنه ليس لديه عقد ينص على هذا إضافة إلى أن المجلة خسرت وعلى الجميع أن يتحمل الخسارة.
احتج إميل وأراد رفع دعوى على المجلة، ومرّت الدعوى بشهادة محمود. أراد محمود أن يتملص من الإحراج بين الاثنين لكن لم يكن من مفرّ، فشهادته هي التي ستحدد كسب إميل أو خسارته. قال كمال لمحمود إن صداقتهما ستكون هي الثمن إذا شهد ضده لصالح إميل. ولم يكن أمام محمود من خيار. صمت في البداية ونظر بعيني كمال نظرة وداع الصداقة الحزينة.. “سوف لن أعتز بصداقة تبنى على ظلم الآخرين”.. قال لي محمود وهو يخبرني بقراره الذي قاله لكمال دون أن يضيف حرفاً آخر.. قال هذا لصديق عمره، وانفصلا.. تقول وأشعر بالأسى لما آلت إليه حال صداقاتنا. أفكر بما حدث لي مع كمال، وأفكر بكمال وأحزن!!.. إن هذا مخيف يا إلهي. كم هذا مخيف.. أنظر إلى نورا. أحاول الالتجاء إلى عينيها بالقدر الذي تحاول عيناها الالتجاء لعيني. أمسك بكفّي راحتها، أضغط عليها أن لا تقلق. تدمع عيناها.
ـ كيف وصلنا إلى هذا!؟.. تقول، وأضغط على يدها. أحتضن يدها بين يدي. تكابر حزنها وخذلانها.
ـ يمكننا التفكير بموقف محمود الإيجابي أيضاً.. أقول محاولاً حمايتها من هواجسها، وأتذكر أن هذا كان قاسياً على محمود. لقد كان موقفه الإنساني يعني فقدانه صداقة عمره. تنتبه نورا  وكأنها التقطت ما أفكر فيه.
ـ لم تحدثني عن وضعك أنت. كنت يائساً في آخر تلفون بيننا.. تقول وأطمئنها أنني مازلت بخير، ومازلت ألتزم بالموعد حتى لو كنت أعرف أن الآخر سيتأخر أو يتخلف. أقول ضاحكاً.
ـ أنا أتأخر عن مواعيدي بطبعي، وليس رداً على عدم التزام الآخرين. تقول غاضبة من لمزي.
ـ لم أقترب من سيرة تأخرك.. أقول ضاحكاً.
ـ سيرة. جعلتها سيرة. انظر. مازلت مصرة على أن الرجل يجب أن ينتظر المرأة.. تقول مدافعة عن فلسفتها النسوية.
ـ وأنا فعلت ذلك طيلة عمري.. أقول وأنظر في عينيها.
ـ ونساؤك السابقات، اللواتي ربحت رهانات صيدك لهن، واللواتي أحببتهن، تقول متقصدة إغاظتي للوصول إلى ما تريد.
ـ بالنسبة للطرائد اكتشفت أنني كنت الفريسة لا الصياد، وبالنسبة لمن أحببت.. أعتقد أنني  أصبت مرة بوهم الحب، واكتشفت أنني كنت أنتظر امرأة أخرى.. أقول وأرتشف بيرتي. يضع النادل الطعام على المائدة. تلمح نورا أنها يجب أن لا تتأخر وأحس بالخذلان.
ـ كم البحر هادئ. أصبح هذا يغيظني.. أقول لها وتشرح لي أن طارق لا يستطيع النوم إطلاقاً إلا بجانبها.
ـ كنت أكره باريس.. أقول لها وتضحك متذكرة معاناتي من عدم قدرتها على السهر معي.
ـ هل أوصاه أبوه بهذا. أسألها متصنعاً الغيظ.
ـ لا أعتقد. كان هو نفسه يعاني. تقول بسعادة مشوبة بحزنها الدفين. أقترح عليها أن تتأخر قليلاً وأوصلها بنفسي إلى نيقوسيا. توافقني مشترطة أخذها في جولة للأماكن التي أتردد عليها بصدق، وأحاول التملص بسؤالها إن كان هذا الشرط كي لا أقترح عليها زيارة بيتي.
ـ هذا وذاك.. تقول لي، وأعرف أنها لن تتراجع.
أوقع على قسيمة استئجار السيارة. أعطي المؤجر شيكاً بقيمة خمس وأربعين باونداً عن ثلاثة أيام. يسلّمني المفتاح ويطلب مني التأكد من كمية البنزين لإعادتها إليه بالكمية نفسها.
ـ الآن لدينا سيارة.. أقول وأنا أدير محركها.
ـ الحياة بسيطة هنا. كل شيء يجري بسهولة.. تقول.
ـ نعم. وفجأة تجدين نفسك وسط الشلال.. أقول ضاحكاً، وأشرح لها طبيعة الارتهان الذي يعاني منه القبارصة للبنوك، وكيف أنها سترى سيارتان وثلاثة أمام “الهاوس”، لكنها ملك للبنك على الأغلب، وما يرحمهم هو بقاء الوضع المتردي لبيروت على ما هو عليه. لقد استفادت قبرص من تدمير بيروت دون أن يعلم القبارصة القرويون بذلك، وكأنها هبة من السماء.. أقول لها، هبة تحمل بداخلها ما تحمل.
ـ أين ستأخذني أولاً؟.. تسألني.
ـ حسناً. بطبيعة الحال بيتي هو أول مكان أتردد إليه.. أقول وتضحك.
ـ هذا أعرفه، لا تحاول. المكان الثاني.
ـ هل تخافين مني؟.. أقول متضايقاً.
ـ لا. أنت تعلم أننا ناضجان كفاية على اتخاذ قرار بهذا الشأن.
ـ نورا. أنا أشتاقك.
ـ وأنا هاني. لكن أنت تعلم أننا لا نستطيع. دع الأمور تجري لحالها.
ـ كي أجد نفسي فجأة وسط الشلال، أنا أعرف هذا، وإلا فلماذا تعلق بذهني الآن صورة هذا المركب الغافل الذي يجري ببلاهة السعادة.
ـ أنا سعيدة معك الآن هاني، فلا تعكر سعادتي.. تقول، وأتراجع عن سوداويتي. أصفّي سواد نفسي بسرعة. أنظر الهدوء في بحيرة عينيها.
ـ كم أحب نعاسك. مارأيك بـ “برينس أوف ويلز”.  أقول لها، وتقبّل خدّ الولد الذي رضخ بتهذيب كعادته لقبلتها الناعمة. وأحس بأن العالم صاف. صاف وجميل.
ـ ساحة الشرف الوطني في ليماسول.. أقول وأنا أصفّ السيارة أمام بار برينس أوف ويلز على الزاوية اليمنى من الساحة.
ـ هل تطوفين قليلاً قبل الدخول. أقول لها وتشبك ذراعها بذراعي.. لا أعرف أي تاريخ أعطاها هذا الاسم، لكنه يعود حتماًً لعهد الأسقف الثائر مكاريوس، وهي مثل كل ساحات الشرف في العالم، تتحول إلى ملجأ وملاذ للضائعين، ويجد التجار ضالتهم ببناء البارات والأندية الليلية والفنادق المتنوعة حول الساحة. هذا الفندق الرخيص يرتاده عمال التراحيل وتجار الشنطة من البلدان العربية المجاورة، وفيه كما أعتقد تنزل فتيات استعراض من الفليبين ومن بقايا دول المنظومة الاشتراكية المبددة، لقد زرته مرة مع حسّان انسجاماً مع الحالة الصحفية لعمل تحقيق كلفتني به عائشة حول البغاء.. سوف لا أخفي عليك فضولي في رؤية غرفة إحداهن، لكنني لم أجرؤ على ذلك.
ـ لماذا.. هل منعك التفكير بأحد ما.. تقول ضاحكة.
ـ جزئياً.. أقول وأعود للاعتراف.
ـ الحق أنني كنت خائفاً من الإيدز.
ـ تستحقون هذا.. تقول وأضحك.
ـ لم أقل لك. كتبت مقالاً حول شبه المرأة بالطبيعة، لكنني لم أذكر فيه أن النساء يستخدمن الطبيعة لمقاومة غش الرجال.. أقول وتضحك.
ـ أنظري إليهن. سرب من فتيات الاستعراض يتجهن إلى ملهى “الكيت كات”.
ـ هؤلاء هن. إنهن فتيات طبيعيات، ولسن جميلات كذلك. كيف تنزلقون للتعلق بهن!؟
ـ في الداخل هنّ على صورة أخرى أشبه ما تكون بالشعر أو الأسطورة.. أقول وتضحك، وأشرح لها منفعلاً روح المكان الذي يدعى الملهى. أقول لها أن الإكسسوارات المتمثلة بالإضاءة والثياب مع الخمر تمنح المكان طقسية التحول وتبعث ربما روح الممارسة الجنسية الطقسية الأولى حيث البغي هي البغي المقدسة التي تشيع جسدها للجميع.
ـ للجميع!؟ حسبت أن من يدفع هو الذي يحصل على ما يريد.
ـ نعم. وهذا ما يقتل الطقس ويعيد البشر إلى واقع المجتمع الرأسمالي الذي هم فيه.
ـ وصفك لهذا يخيفني. لو لم أعرف روح أسطرة الأشياء لديك لخشيت أن تكون حياتك قد انزلقت نحو التفاهة.. تقول وأبلع ريقي. أفكر بالتفاهة التي يمكن أن ينزلق إليها الإنسان. هل انزلقت قليلاً إلى هذا. كم تخيفني صدمات هذه المرأة التي تسير بجانبي. نصل إلى باب البار. أعتذر منها مسبقاً أن المكان ليس مكانها ولكني أريد أن أريها الأماكن التي أقضي فيها وقتي.. ندخل بار ليندا الذي أعطته اسم أمير ويلز. ترحب بنا المرأة وتفهم مباشرة أية فتاة رزينة دخلت البار معي. أعرفهما على بعض. وتفهم ليندا أن الفتاة تخصني. أقول لنورا إن هذا المكان هو مشربي المفضل، وهذه ليندا صاحبة البار. أشعر بارتياح لجو الاحترام الذي يسود المكان. ترين أن المكان هادئ وجميل. أقول لنورا.
ـ إلا إذا بدأت نقاشاتك السياسية وشتمت الإنكليز.. تقول ليندا ضاحكة، وتخبر نورا عن المذبحة التي كانت ستحدث لو لم ينسحب ريتشارد من النقاش ليلة حرب الخليج. تضحك نورا مجاملة إياها لكنني أحس بتوترها. أستغل فرصة استدارة ليندا لتعبئة البيرة وأخبر نورا أنها طيبة ومتعاطفة مع العرب كي أخفف من توتر الجو الذي مسّه ذكر الحرب.
ـ لا تخافي على هانيبال. إنه الأكثر رزانة وهدوءاً بين زبائني. تقول ليندا وهي تقدم البيرة لنورا غامزة إياها أن تطمئن وتستدير لخدمة الآخرين.
تشعر نورا حقيقة بطيبة ليندا وحرصها علي، ويخفف هذا من حساسيتها تجاه الإنكليز. تعتذر من ليندا ونترك البار إلى طاولة. تسألني نورا تفاصيل أكثر عن فتيات الاستعراض، وأشرح لها بتعاطف معهن أنهن فتيات يقعن في بلادهن إما ضحايا للفقر أو لمشاكل الأبوين أو وهم التحرر غير الواعي، وتستغل ضياعهن شبكات تتاجر بالفتيات، منظمات دولية للدعارة، وهن يتنقلن من عاصمة إلى عاصمة. وقد بدأ انهيار المنظومة الاشتراكية يضخ فتيات كن يتأهلن لبطولات الرياضة.. وبدأت المعاهد الرياضية بضخهن إلى الملاهي عبر العالم. الروس بدأوا الآن مع
انهيار الاتحاد السوفيتي بتصدير الفتيات إلى العالم المتعطش للّحم الاشتراكي الرخيص. أقول.
ـ وماذا يفعلن في الملاهي.. تسألني نورا، وأقول لها إنهن يقدمن استعراضاً جنسياً أميركيا بنكهة اشتراكية.
ـ وماذا تفعلون أنتم الرجال معهن!؟.. تسألني، وأشعر بالمنزلق الذي تضعني فيه. أجيبها وأنا أضحك كي أهرب من الإحراج إننا نتقرب.. تسألني إلى ماذا وأتذكر المشهد الذي أسرني مرة.. أسألها كتمهيد لفخ الطقس الذي لا أعرف أية قوة شيطانية تدفعني لسوقها إليه إن كانت قرأت قصة “الحية” التي كتبتها، وتنظر في عيني ضاحكة لتشعرني أنني مكشوف. أقول لها إنني رأيت مشهداً في “الكيت كات” لفتاة ترقص مع الأفعى. لم يكن رقصاً بمعنى الرقص المجرد العادي. كان رقصاً أشبه ما يكون بطقس. أنظر في عينيها اللتين تعطياني إشارة المتابعة، وأتابع.. كنت على بوابة الخروج من دائرة حرب الخليج إلى هاوية لا أعرف لها قراراً. وكنت وحيداً وضائعاً. لم يكن من أحد يسندني. أتذكر انشغال نصير بمشاريع طبع كتب الحرب وانشغال حسّان بتعلم اللغة اليونانية، وأعيش إحباطات تذكرني بما حدث لي في باريس. كنت أحس أنني عجل صغير ما يزال يقاوم الانصياع لسكين الجزار بقرونه غير أنه لا مفر. كل الطرق كانت مسدودة أمامي ولا أفق أو بصيص أفق لعالمنا سوى السكين. كان الجدار أمامي وبدأت أضرب رأسي كالعادة.. قادتني قدماي من قهر رؤيتي للجنود الإنكليز وهم يملؤون بارات ليماسول ويرقصون منتصرين إلى “الكيت كات”، ملجأ المقهورين والضائعين الذين لايرون ملاذاً لضياعهم سوى انتحارهم.. وجلست على طاولة قريبة من ساحة العرض.
بدأ الاستعراض بموسيقى أنيجما الكنسية التي حملت إلي راقصات بثياب الراهبات يتقدمن ويحركن أيديهن بتعبد مع الترتيل الذي بدأ بالتلاشي شيئاً فشيئاً ليتوقف ولتنحني أيدي الراقصات الراهبات على أجسادهن.
بفجاءة وعلى إيقاع طبل إفريقي وحشي: دُم دُدُم دُم دُم دُم دُم.  فتحت الراقصات أرواب الراهبات عن أجساد شبه عارية بالكامل وتنبض بطونها الضامرة البضة بإيقاع الجنس الذي لا يقف أمامه جدار.. هكذا، وإلى نهاية أغنية أنيجما، حيث خفتت الأضواء وغيبت الراقصات في باب حجرة تغيير الملابس المنفرج قليلاً عبر نطاق رؤيتي والفاتح بهذا الانفراج طقساً سرياً آخر لتجلّيات رغبات التلصص.
بعد فترة صمت بين نوعين للموسيقى، خرجت راقصة أولى بثياب العصر الحجري.. سيقان شقراء طويلة مشرعة، وجسد لا يستر عريه الساطع المتحرك بإيقاع الجنس سوى قطعة صغيرة مثيرة بحد ذاتها من الجلد المكسو بالشعر. ودخلت بعد وصلتها المنفردة الراقصات إياهن بثياب العصر الحجري، وبدأن الإحاطة بها ومداعبتها بإيقاع مدمّر انتهى باغتصابها حتى التلاشي.
انتهت الوصلة لتدخل الراقصات حجرة الملابس بإضاءة خافتة وسادت موسيقى هادئة لكنها تفتح عالم نسور تحوم في سهل مفتوح، وتمهد لظهور راقصة لا يستر عريها سوى قطعة صغيرة واحدة فقط، وأخذت ترقص حول صندوق وضعه أمامها رجل من خدام الملكات.. ومع رقص استدعاء الأرواح حول الصندوق وجو الترقب الذي يفوح برائحة الجنس النابض من جسدها.. فتحت الراقصة الصندوق ومدت يدها لتتناول حية
“البوا” العاصرة المخيفة.
مرّرت الراقصة الحية بالتفاف وانزلاق حول رقبتها وخصرها وصدرها. بين ثدييها وساقيها، وكانت تتلوى مع الأفعى سادرة في غيابها دون أن تنظر إلى أحد. كانت هائمة ومستغرقة بنفسها فقط، وكنت مأخوذاً بإثارة مشوبة بالخوف. نظرت في عيني الأفعى، ونظرتْ الأفعى في عيني. دارت حول الجسد، وانزلقت في تفاصيل الجسد غارقة فيه وعينيها في عيني. دخلتْ بعد ذلك قبرها وعينيها في عيني.
خرجتُ بعد هذا المشهد دون أن أكمل الاستعراض. احتسيت كأسي دفعة واحدة وخرجت. استقبلني البحر كعادته. تنفستُ عميقاً وأنا أواجهه. لم يكن يملأ ذاكرتي سوى العينين اللتين اختارتاني كي تشاركاني أسرارهما. لم يكن بذاكرتي سوى عيني الكائن المتماهي بذاته الذي ترك ذاته لحظة واحدة للنظر في عيني.
حملت إيقاع تكسّر أمواج البحر على صخر الشاطئ معي إلى سريري . نمت. نمت وحلمت. حلمت حلماً غريباً لم أستطع تفسيره، لكنني أذكر أنه كان أليفاً ومخيفاً بآن…
أتوقف لحظة لأحدق في البحيرتين الخضراوين اللتين أيقظتْ نعاسهما دهشة حديثي. أحدق في عيني نورا وأحس أنهما تدعواني للكلام.. حلمت أنني أسير في طريق ضيق.. ضيق وطويل. كان الطريق هو ذاته الذي كنت أذهب فيه وأنا طفل لأقطف ثمار التوت الأكثر استعصاء بتدليها نحو هاوية النهر. كان الطريق محدوداً من الجهة اليمنى بأشجار الدفلى والتوت، ومحدوداً من اليسرى بحائط البستان الطيني. كان الطريق هو ذاته غير أنه كان طويلاً ولا ينتهي… مشيت وحيداً في طريق طفولتي.. وحيداً، وشعرت أن ثمة كائناً يمشي معي على إيقاع خطواتي. شعرت بالخوف وتوقفت. كان ثمة من يقترب باتجاهي.. من يقترب ويتجسد.. لن تصدقي من كان أمامي. كانت هناك صبية تشبه إلى حد بعيد قدسية، وتقول لي ابتسامتها الحنون أنها هي لا غيرها. ما الذي أتى بها إلى هذا الحلم، بعد عشرين عاماً من غيابها.. ما الذي ذكّرها بعد عشرين عاماً بي!!.. نظرت في عينيها لأسألها أين كانت وماذا تفعل غير أنها لم تكن تجيب. فقط كانت تبتسم بحنان كعادتها وتلمس أصابُعها عقداً يطوق جيدها… اقتربت منها أكثر غير أنها كانت تبتعد بقدر اقترابي. حاولت جهدي أن أثبتها في مكانها ووقفتْ أمامي. اقتربت منها غير أن حاجزاً لم يكن بالحسبان وقف حائلاً دونها. نبضت الحياة فجأة في العقد الذي تداعبه أصابعها ورأيته على حقيقته. كان حيّة من ذهب خالص. مسمّرة بذهب خالص وما يَشي بحياتها كانت عيناها. فقط كانت عيناها تومضان. تومضان وتوقفاني عن التقدم. تومضان وتسحبان قدسية دون إرادتها في اتجاه المجهول.
أنظر في عيني نورا اللتين تلمعان ببريق الدمع. أحتضن يدها براحة يدي معتذرا عن قسوتي في تذكيرها بصديقة طفولتها. أضغط على يدها ويخرج ندى الدمع المتلألئ في عينيها ليسيل الدمع ساخناً وصامتاً ولا يتوقف. أقول لها إنني آسف. أقول لها إنه كان علي أن أكون أكثر قوة وأخفي شكوى داخلي. أقول لها دامعاً أنا الآخر إنني كنت أعاني وإنني كنت أنتظر قدومها لا لكي أشكو لها ولكن لأشاركها جمال هدوء الشاطئ. أعتذر لها وتمسح دموعها. تقول لي أن لا أهتم. تربت على يدي لتشعرني أنها بجانبي. تقول لي أن لا أخشى شيئاً. تقول لي إنها معي الآن، وأحدّق في بحيرة عينيها التي استعادت هدوءها. تبتسم لي. تمسح ابتسامتها كآبتي وأبتسم. تبتسم أكثر. تقول لي ضاحكة: مع هذا لن تهرب من سؤالي بماذا كنت تشعر وأنت تراقب أجساد الراقصات. تقول ذلك وتضحك بمودة. لا مفر.
أقترح عليها أن نخرج وتوافقني لكنها تطلب مني أن أكمل قصة الحلم. أين وصلت. نعم. وأتابع.. بعد فقداني لقدسية بدأت أبحث عنها. سرتُ في الممر الطويل وانفتح حائط البستان على يساري ليكشف آثار معبد مهدم. كانت أجزاء الأعمدة والتماثيل متناثرة في المكان الصامت وسط خضرة فردوسية. سرت بانجذاب نحو المركز. كان ثمة صخور وصوت تدفق نبع. اتجهت نحوه وفجأة برزت أمامي، سيدة طويلة تنتصب كما التمثال وسط الساحة. كان تمثالاً حقيقياً لكني شعرت أنه ينبض بالحياة. كانت السيدة تحمل جرة وتميلها باجتذاب لي كي أقترب وأشرب. كان الماء يتدفق عذباً من جرتها ويفتح في داخلي عطشاً جائعاً مسعوراً إلى الارتواء… تقدمت بطيئاً من جرتها بطيئاً، ووقفت. وقفت وكأن يداً قالت لي أن أقف. وقفت وانحنيت دون أن أزيح عيني عن عينيها. خلعتُ نعليَ الأيمن بهدوء،  ثم نعلي الأيسر بهدوء وخطوت حافياً. خطوت لأقف أمام الجسد الأسود الثابت أمامي.. كان جسداً أليفاً وشعرت أنني أعرفه. ابتسمت السيدة لي. ابتسمت بحنان أصابني بالخوف. نظرتُ وجهها الذي بدأ بالتجلي لداخلي امرأة رأيت فيها داخلي وخفت. كان وجهها يتلون بوجه امرأة هي أمي عندما كانت صبية وحنون، ويتلون بالقسوة غير أنها قسوة رقة وجلال. دعتني قسوتها الرقيقة للدوران، بطيئاً حولها. بطيئاً دون أن أزيح عيني عن عينيها اللتين كانتا تراقباني حتى عندما أصبحت خلفها. وقفتُ أمامها من جديد ومدت لي جرتها لأشرب. تدفق الماء عذباً في فمي غير أنني لم أستطع الارتواء. كان ماءً عذباً لكنه أشبه بالهواء، ولم يكن يرويني. تعذبت وأحسست بالشقاء. كان الماء عذباً لكنه لا يرويني… نظرت في عينيها، ولن تصدّقي ذلك.. تلون وجهها بوجه امرأة كنت أدعوه وجه شجرة المشمش الذي تجلّى لي مرة في غلاف يبسط العالم أمامي ببساطة ماء الجرة المتدفق بلون الزمرد، لون العذوبة التي هي من نارٍ وألم… كان هذا وجهك نورا، وكانت يدك هي التي تمسّد على رأسي الذي أسند شقاءه على ركبة السيدة التي مازالت تبتسم بحنان مخيف… نظرت مرة أخرى ولن تصدّقي ذلك. جديلة شعرها المضفور على شكل حيّة تجسّدت أمامي حيّة للحظة بعثت في الخوف قبل أن أحس بابتسامة شجرة المشمش إياها، ابتسامتك التي غمرتني بتويجات حنان وغيبتني عما يحدث.
أنظر في وجه نورا. أنظر في عينيها وأنا شبه غائب. أحس باندهاشها من هذا الجنون الذي انفلت فجأة من عقاله. أحس بيدها تمسك بيدي وتضغط عليها كي تعيدني إلى عالم جلستنا الهادئ.
ـ لم أكن أعلم أن الماضي يمكن أن يكون قيداً بهذه الصورة.. ماذا فعلتَ بما حدثتني عنه!؟.. تقول خائفة علي، وأطمئنها. أقول لها إنه نصف الرواية التي حدثتها عنها في التليفون، وأقول لها إنه بين أوراقي التي ستأخذها لتقرأها في السيارة، وأحس إذ أنظر في عينيها بقلقها.
ـ لم يكن علي أن أتحدث هكذا. أقول وتقول لي بالعكس، إن هذا جيد، وربما يشكل رواية مميزة، لكنه لن يجعلها تنسى سؤالها لي بماذا كنت أشعر وأنا أراقب أجساد الراقصات.
أنظر إليها ضاحكاً. أحتضن يدها بين يدي. أنظر في عينيها. أحدّق في البحيرتين الخضراوين الآسرتين والمأساويتين بآن. أحس بارتباك اخضرارهما من نار تحديقي. يدفعني اهتزاز العشب في قاعيهما للانفعال، فتزحف كفي صاعدة على يدها، تعرّي كمّ قميصها. أضغط قليلاً على ساعدها. تنظر إليّ بحنان أن أتوقف. كم أود تقبيل نعاسك. أقول لها بعيني، وتنظر هي محرجة إلى البار.. لا أحد هنا يراقب أحداً. تقول كفي لباطن ساعدها الناعم الدافئ. تطلب مني بصوت خافت ومتكسّر أن نقوم، وأوافقها ممسكاً بيدها ومحيطاً بساعدي كتفها دون أن ألمسها.
أوقف السيارة في مقدمة الطريق الطويل المعتم المسقوف بالأشجار، وأدعو نورا للنزول.
ـ هذا ما أسميه درب ضياعي.. أقول لها وأنا أطوّق كتفها بساعدي.. لا أحد هنا في هذه الساعة. أحس كما لو أنني في حلم. أصيخ السمع  إلى تردد أمواج البحر الهادئة على الشاطئ الهادئ.. “هذه الغابة على اليمين توحي لي بأنها غابة الطفل الذي هرب باحثاً عن انسجام روحه”.. أقول لنورا وأنا اضغط بكفي الأيمن على كتفها الأيمن وأقودها باتجاه الشاطئ عبر ثغرة الأشجار على يميني. تتوقف لتنظر في أرجاء الغابة الصغيرة الصامتة برهبة. تقول أن المكان يخيفها وأبتسم لها. أمسك بكتفيها وأنظر في عينيها. أضغط وأتراجع عنها قليلاً لأنظر في عينيها. أعود لأدفن رأسي في عنقها مبعداً شلال شعرها المسكوب بيدي. تقول لي يكفي هذا هاني، يكفي هذا هاني. أحس بأنها تتمتم باسمي وأتمتم باسمها.. نورا. نورا. يا إلهي. كم انتظرت هذا. أحس بانجذاب جسدها إلى جسدي وأحس بمقاومتها الشديدة اليائسة لهذا الانجذاب. تبعدني عنها برفق وأستجيب لها. دعنا نذهب الآن. علينا أن لا نتمادى.. تقول وتجرني من يدي للخروج من غابة موتي.
ـ أحسست وأنا أضمّك أنني أموت. تمنيت وقتها أن أموت… أقول لها وأنا أرسل عيني في عتم الطريق الذي يتبدد ظلامه بأنوار السيارة المتهادية برفق عليه.
ـ أعتقد أننا تمادينا. عدني بأن لا تعيد ذلك. تقول لي من قلب صمتها وشرودها، وأتضايق لرد فعلها رغم أنني أتوقعه. أحس أن الوقت قد حان لسؤالها، وأن عليها أن تجيبني وتفسر لي إحساسي بغرابتها.
ـ حسناً هاني. يوسف سيأتي إلى قبرص بعد أسابيع.. تقول وتصمت منتظرة رد فعلي الذي جمد في دمي، ولم يتحرك للخروج.
ـ اتصلَ بي. توسل إليّ أن أعود إليه إلى درجة أنه بكى. قال لي ماذا تريدين أن أكون لكي تعودي إلي. هل تريدين أن أكون كلباً. قال هذا وعوى مثل كلب بين يدي على السماعة.. تقول وأبقى على صمتي وجمودي.
ـ طارق يعرف أن بيني وبين أبيه مشكلة ويريدني أن أسامح أباه مهما فعل. يقول لي أن أباه يحبني، وهو متأكد من ذلك. تقول لي بصوت متكسر وأبقى على صمتي. أحس بعذابها، وأبقى على صمتي. أحس بتمزق روحها، وأبقى على صمتي. أحاول أن أقول شيئاً لأخفف عنها غير أنني لا أستطيع. أمدّ يدي إلى مسجل السيارة. أضغط الشريط وينسكب صوت فيروز. تنسكب الأغنية شلالاً من عذاب حنون مذاب:

” تذكر آخر مرة شفتك إنتَ..
تذكر آخر كلمه إنتَِ قلتا..
وماعدت شفتَكْ..
وهلأ شفتَكْ..
كيفَك إنتَ..  من لا إنتَ.

كيفَكْ .. قالو .. عم بيقولوا صار عندك ولادْ
أنا والله كنت مفكرتك برّات البلادْ
شوبدي بالبلاد .. الله يخلّي الولاد ..
كيفك إنت.. من لا إنت “…

أوقف السيارة أمام الباب. أنتظر صامتاً نهاية الأغنية.

” تذكر آخر مرة.. شو قلتلّي
إنتِ فيكي تظلّي.. إنتِ فيكي تفلّي
زْعلتْ بوقتا
وما حللتا
هيدا إنتَ .. من لا إنت “…

أوقف الشريط. أمدّ لنورا يدي، وتحتضنها بين يديها. أقول لها إنني وعدت طارق أن آخذه لصيد السمك في بافوس. تبتسم لي بحزن. تسألني إن كان هناك سمك لصيده فعلاً في بافوس، وأضحك. أقول لها إنني وعدته وتقول لي.. حسناً.. سنكون لديك بعد أيام. جهز الصنارة، المهم الآن أن تكون حذراً على الطريق.. تفتح الباب. تضغط على كفي.
ـ لن أخرج من السيارة حتى تعدني بوصولك سالماً إلى ليماسول. تقول لي وأبتلع مرارتي. أقول لها إن لدي وعد طارق بسمك بافوس. تضحك لإخفاء حزنها. أنظر إليها بعيني، تقول لها عيناي.. لا عليك نورا، أنا معك في كل شيء ترينه مناسباً حتى ولو كان على جثتي. أنا معك نورا. أنا معك نورا. معك.. بنظرتي المشجعة وابتسامتي اللتين لن يحس بمرارتهما غيري. أنا معك نورا.. فغادري الآن هذا الحطام

خاص – صفحات سورية –
باذن خاص من الكاتب المثنى الشيخ عطية
للكتابة الى الكاتب مباشرة
mothannas@hotmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى