صفحات ثقافيةنـذيـر جعفــر

المترجم الخائن: جردة حساب مع ثقافة السلطة وسلطة الثقافة

null
نـذيـر جعفــر
بقدر ما يبدو فواز حداد منشغلاً بتتبع جذور الفساد أو قل الخراب الروحي والعطب النفسي الذي يطول المجتمع بوصفه تجلياًَ لآليات الاستبداد الشرقي وأنظمته, فهو منشغل في الوقت ذاته بإبداع الحامل الفنّي الذي يتناغم مع رؤيته وإحالات عالمه الروائي.
ووفق هذا السياق تأتي روايته الجديدة: (المترجم الخائن) التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية لتعزّز ما بدأه في أعماله السابقة على مستوى المضامين والرؤى والتقنيات من ناحية, ولتخطّ لنفسها مساراً خاصاً بها من ناحية ثانية.
فهي على مستوى الأطروحة أو الموضوع تتناول ثقافة السلطة وسلطة الثقافة في وجهها السلب،ي وما ينجم عنها من إفساد للضمائر وترويج للغث وكسب للولاءات التي تتخذ شكل المافيا. ويتجلى ذلك عبر شبكة العلاقات الروائية التي تربط المترجم النزيه حامد سليم بنماذج متعدّدة من المثقفين الوصوليين, كاشفة عن وجوههم المتلوّنة بتلوّن مصالحهم, وتبدّل مواقعهم, في ظل قوى, وأنظمة, وأيديولوجيات تمارس سلطتها عليهم, وتلحقهم بخطابها, في الوقت الذي يستمدون فيه سلطتهم منها لقمع من يخالفهم الرأي وإقصائه وتهميشه وتخوينه أيضاً. وعلى مستوى الشكل تغامر في تهجين السرد وتطعيمه بالمحكي العامي أو الفصيح المهجور في حدود المفردة أو المثل السائر, وتتكئ على العتبات النّصية ولا سيّما العناوين الفرعية لإضفاء ظلال دلالية ومفتاحية على كل فصل من فصولها الأربعين, كما توظّف شتّى التقنيات الفنيّة من حذف وتلخيص واستباق واسترجاع وحوار ووصف وتداعيات, في فضاء زمني يمتد من أواخر القرن العشرين, مروراً بأحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر, وسقوط بغداد, حتى يومنا هذا. وفضاء مكاني يمتد ما بين دمشق وبيروت وتونس وبغداد.
ـ شخصية محورية:
ينهض السرد في (المترجم الخائن) عبر ضمير الغائب على لسان الراوي الكليّ المعرفة / المؤلف الضمني, الذي لا يكتفي بدور السارد الشاهد الذي ينقل أقوال الشخصيات بل يطل أحياناً من بين السطور معلّقاً على الأحداث، أو مستبقاً ما سيأتي منها بإشارات سريعة، بغرض كسر الرتابة والتشويق وتحفيز المتلقي على متابعة القراءة: ( في يوم قادم سيقوده موعد عجيب إلى لقاء معها (وهو موضوع فصول قادمة) ويتعرف مرة أخرى إلى ليلى شكران وسوف تفاجئه بما طرأ عليها من تحوّلات وآراء، وكأنها ليست هي. لكنها تبقى الفتاة الأولى التي أحبها في زمن مضى. ص217). كما يتخذ من شخصية المترجم (حامد سليم) المحورية نقطة تبئير مركزية تنطلق منها وتتلاقى عندها مجمل الأحداث وشبكة العلاقات التي تربطه بمحيطه. ويبدو حامد سليم في عيني المتلقي نموذجاً للمثقّف الضحيّة الذي يظل خارج لعبة الالتزام والاصطفاف الحزبي والأيديولوجي، فيكون عرضة للإقصاء والتخوين من مثقفي السلطة حيناً ومثقفي القوى والأحزاب التي تلعب لعبتها حيناً آخر. فهو يبدأ حياته الثقافية مترجماً حريصاً على روح النّص لا على معناه الحرفي, وهذا ما يتخذه خصمه السلطوي الصحافي شريف حسني ذريعة للهجوم عليه واتهامه بخيانة النّص التي تفضي في نهاية المطاف, وفي أتون الصراع بينهما، إلى وصمه بالخيانة الوطنية!
ويمكن تقسيم شبكة علاقات حامد سليم بمحيطه إلى ثلاث دوائر رئيسة: الأولى تعمل على إقصائه وتهميشه:( الصحفيان شريف حسني, ومحسن علي حسن, والناقد جميل حلّوم). والثانية تعمل على ابتزازه والاتجار به: (المفكّر المستشار حكيم نافع, والروائي سمير فاروط, وصديقه القديم سامي). والثالثة تتعاطف معه: ( رئيس التحرير عبد الرحيم, والقاتل المأجور ذو اللفحة محمود, وليلى شكران). فيما تحضر زوجته بسمة وولداه, وكذلك الكاتبة المطلّقة سوسن, وصديقه السجين السابق, حضوراً آنياً وعابراً في مسار الأحداث وتنامي الصراع, إلى جانب بعض الشخصيات الخيطية التي ترتبط بليلى شكران, مثل زوجها المناضل الفلسطيني عباس حماد, والنحات العراقي حسين صبري, أو شخصية باميلا التي ترد حكايتها الفرعية في سياق الحكاية الأصل.
ضمن هذه الدوائر الثلاث وحواشيها وتجاذباتها وتأثيراتها الخفيّة والمعلنة تمضي حياة المترجم حامد سليم الذي يضطر إلى الكتابة بثلاثة أسماء مستعارة: (عفيف حلفاوي, أحمد حلفاني, حسن حفلاوي), وسرعان ما تتحول هذه الأسماء إلى قرائن تحاوره وتخالفه الرأي وتخاصمه إمعاناً في اغترابه وانقسامه على ذاته في مشهد ثقافي متعفن يصول ويجول فيه الانتهازيون. فيما يقبع أمثاله في الظل. والقرين Doubleثيمة أصيلة في عالم فواز حداد القصصي والروائي, إذ يتداخل عبر صورته الواقع بالخيال ويلتبس على نحو غريب, إلى الحد الذي لا يميز فيه البطل نفسه أو المتلقي بين الأصل والصورة.
ـ الحكاية ضمن الحكاية:
ربما كانت حكاية حامد سليم مع سلطة الثقافة وثقافة السلطة عبر رموزها هي مبتدأ البرنامج السردي ومنتهاه, لكن ضمن هذا البرنامج حكايات صغيرة لا تنفصل عن الحكاية الأم, وهي حكاية كل من الفلسطيني عباس حمّاد, والعراقي حسين صبري مع ليلى شكران (لميس عباس). وحكاية سوسن المطلّقة مع زوجها المعارض, وحكاية باميلا مع كهول الخارجية الأمريكية المتصابين جنسياً. والحكايات الثلاث ترتبط بشخصية حامد سليم بشكل أو بآخر, وتعزّز صورة الخسران الذي يعيشه مع كل هؤلاء، سواء في ظل الأنظمة والحركات والمنظمات السياسية الشمولية أو في ظل الديمقراطية الأمريكية. فليلى شكران التي بدأت مناضلة متحمّسة تنتهي إلى شاعرة تبحث عن منبر لنشر خيباتها المتتالية. وزوجها الأول عباس حماد تنطفئ حياته برصاصة غادرة في تونس قبل أن يحقق حلمه بالعودة إلى فلسطين. أما زوجها الثاني النحات العراقي حسين صبري فينهي حياته في طريق عودته إلى دمشق بعدما رأى في بغداد ما رآه من مآس لم يشهدها زمن صدام حسين! وليس مصير كل من الكاتبة المطلّقة سوسن والسكرتيرة في الخارجية الأمريكية باميلا أفضل حالاً ممن سبقهما في غابة الأقوياء.
إن هذه الحكايات التي جاءت عبر تقنية ( الحكاية ضمن الحكاية) لم تأت استطراداً للحكاية الرئيسة, أو على هامشها, أو منفصلة عنها, إنما جاءت تعميقاً لنسقها ودلالتها وغايتها, وتنويعاً فنيّاً وموضوعاتياً نأى بها عن الترهّل, وأضفى عليها بعداً عاطفياً ووجدانياً حميماً كادت تفتقر إليه. كما أن الحضور الفلسطيني متلازماً مع الحضور العراقي في الشتات عبر النماذج السابقة ومصائرها التراجيدية ليس سوى إشارة إلى وحدة المسارات وتجدّد النكبات, واستمرار الماضي في الحاضر, وانتكاس المشروع القومي التحرّري.
ـ العلاقات الزمانية /المكانية:
يمكن الاستدلال على زمن المتن الحكائي في (المترجم الخائن) من خلال الإشارات الزمنية التي ترد في سياق البنية السردية, تلك الإشارات تحدّد زمن المتن بسنوات قبل الحرب على العراق وأثناءها وبعدها, لكن زمن الخطاب لا يتواتر بهذا الشكل الخطيّ بل يبدأ من الراهن ثم ينتقل عبر تقنيتَيْ الاسترجاع والاستباق ممتداً إلى الماضي البعيد والقريب فالمستقبل في حياة البلد والشخصيات والمشهد السياسي والثقافي. ويسهم هذا اللعب بالزمن في ترهين الماضي على مستوى الأحداث والشخصيات ليبدو مستمراً وساخناً حتى اللحظة الحاضرة, كما يحرّر السرد من رتابته الناجمة عن أحادية الراوي الكليّ المعرفة الذي لا يصوّر الشخصية وهي تفعل قدر تصويره إياها وهي تقول.
إنه زمن درامي بامتياز, فهو زمن الأحلام والمقاومة والالتزام والشعارات الثورية, كما هو زمن الإحباط, وزمن هزيمة المشروع القومي والأممي أيضاً في وجه العولمة المتوحّشة. ولأن الزمن ليس معزولاً عن المكان والإنسان الذي يفعل فيه وينفعل, فقد قدّمت (المترجم الخائن) صورة له ومحاولة لفهمه وفهم جذور الإخفاقات فيه عبر صور متعدّدة للفساد تمظهرت في هيمنة أصحاب الشعارات, والمافيات, وعديمي الموهبة والمعرفة, على مفاصل العمل السياسي والثقافي والتحكم في مصائر البلاد والعباد, دون رادع أو وازع من ضمير.
ويتحدّد الفضاء المكاني الأبرز بمدينة دمشق, وهو فضاء متعدّد يجمع ما بين الأمكنة الأليفة مثل الحدائق والشوارع والساحات:حديقة السبكي, مقصف الرواق, شارع العابد, والأمكنة المغلقة والمعادية مثل مبنى الفرع 312, والأمكنة المنفتحة مثل مقهى الروضة والهافانا والكمال الذي خصّص له صفحات عدة. وتتلون تلك الأمكنة حيناً بمشاعر الشخصية المحورية حامد سليم فتعلّق القراءة وتحفّز الذاكرة على استدعائها. فيما تبدو غير مرة محايدة ومنفصلة, بل مجرد معلم سياحي, أو نقطة علاّم تحدّد اتجاه الشخصيات ومسار الأحداث لا غير.
أما بيروت وتونس وبغداد فتأتي بوصفها فضاءات مؤقتة في حياة الشخصيات, وامتداداً فجائعياًَ لهزيمتها وبحثها عن ذاتها المأزومة.
جماليات فنيّة:
يولي فواز حداد بوصفه المؤلف الحقيقي لا المؤلف الضمني أو الراوي اهتماماً خاصاً بالعتبات النّصية، ومنها العنونة بشكل خاص في مجمل أعماله. بل إن لديه استراتيجية خاصة بها. والعنوان الرئيس في هذه الرواية (المترجم الخائن) عنوان ماكر ومضلّّل, فهو عبر صيغته التركيبية القائمة على ملازمة الصفة للموصوف ينعت المترجم بالخيانة, وهو مترجم محدّد ومخصّص بأل التعريف وليس أي مترجم كان, ما يثير فضول المتلقي لمعرفته وتثبيت الحكم أو نفيه عنه. ومع أن كل ترجمة خيانة للنص الأصلي, فإن العنوان لا يشير إلى الترجمة ذاتها إنما إلى المترجم, وصفة الخيانة ترد هنا بوصفها حكمَ قيمةٍ لا حكماً معيارياً. لكن السياق النصّي ينفي حكم الخيانة عن المترجم ليثبته على المافيا الثقافية التي تنكّرت لمبادئها وقيمها المعلنة وتسببت في إقصاء المترجم حامد سليم عن المشهد الثقافي وفي عزلته واغترابه وضياع حقوقه الاعتبارية التي سطا عليها قرناؤه تحت عباءة الأسماء المستعارة! ومن هنا تأتي جمالية العنوان بوصفه تورية تتعدى وظيفته التسويقية والإغوائية إلى وظيفته الدلالية والبلاغية التي تنفتح على المعنى المباشر وغير المباشر, أو على المعنى وضده في الوقت نفسه, إمعاناً في السخرية مما يحدث من تبدّل في القيم والمفاهيم.
أما العناوين الفرعية فتأتي على منوال ما جاءت عليه في (مرسال الغرام), فهي غالباً ما تكون جملة طويلة أو مجموعة من الجمل على لسان أحد الشخصيات مقتطعة من سياق النص: (الصحافي: إذا كان للأدب نصيب فللأحقاد أنصبة ص 25). ومثل هذا الأسلوب في العنونة يستعيد إرث الرواية الكلاسيكية في أنصع نماذجها المتمثّلة في (الدونكيشوت) لسرفانتس, و(غراغانتو وبانتاغروئيل) لرابليه.
وإلى جانب العنونة يبرز الولع الخاص بالتهجين اللغوي والكلامي في: (المترجم الخائن), والذي يمكن لمسه في الألفاظ المعجمية الجزلة, والمصكوكات المأثورة, والألفاظ الدارجة, والتعبيرات الكنائية المشحونة بدلالات اجتماعية مثل: (الناس المريّشين..). ومثل هذا التهجين الذي يتعامل مع اللغة الروائية بوصفها تنوعاً كلامياً واجتماعياً وطرق تعبير و(أرغات) مهنية منظّمة ومتناغمة فنيّاً هو أحد المقدّمات الأساسية للجنس الروائي على حدّ تعبير باختين.
وحتى أسماء الشخصيات لم تأت اعتباطاً فهي تدخل ضمن سياق التهجين ببعده الكنائي الدال الذي لا يخلو من نزعة ساخرة تثير المرارة لا الضحك. ومن هنا كان شريف حسني ليس فيه من الشرف والحسن سوى اسمه, وحكيم نافع لا حكمة فيه ولا نفع له, أما سامي فليس سوى رمز للوضاعة والخسة!
إن جماليات العنونة والتهجين لم تأت منفصلة عن جماليات الوصف الفيزيقي الذي ينصب على المظهر الخارجي للشخصية, والوصف النفسي الذي يستبطن أعماقها, وغالباً ما يؤدي الوصف وظائف متعدّدة في (المترجم الخائن) منها التفسيرية, والتزيينية, والترميزية, والإيهامية, وذلك بحسب مقتضى الموقف أو الشخصية أو المكان أو المشهد الذي ُيصوّر.
وهذا التنوّع في الوصف يسهم في نمذجة الشخصية الروائية وبلورة الانطباع العام عنها, كما يمنح المتلقي المفاتيح الأولى لفهمها والدخول إلى عالمها.
لقد قدّم فواز حداد رواية تخلص للتقاليد الواقعية على مستوى السرد, والوصف, وبناء الشخصية, بالقدر الذي تتحرّر فيه من هذه التقاليد وتجدّد فيها بفرادة على مستوى الموضوع والرؤية والتقنيات أيضاً, وفي ذلك تكمن مأثرته.
ـ الكتاب: المترجم الخائن رواية.
ـ المؤلّف : فوّاز حدّاد.
ـ الناشر: رياض الريس للكتب والنشرـ 2008.
ـ الصفحات: 496 من القطع الوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى