صفحات مختارة

العقل أولاً .. كي لا تنقرض الحضارة العربية

سركيس ابو زيد
المسألة التي أثارها أدونيس والردود عليها، دفعتني الى طرح سؤال قديم/جديد: «لماذا تقدم الغرب وتخلّف العرب»؟
يجمع عدد كبير من المفكرين العرب بأن الفجوة الحضارية بين العالم المتقدم ومجتمعاتنا المتخلفة تزداد هوة. حتى إنجاز الاستقلالات السياسية تحول مع الزمن الى استبداد سلطوي وتبعية للخارج، ما دفع مفكرين كثرا، ومنهم أدونيس، الى التخوف من انقراض الحضارة العربية في معركة تنازع البقاء لمصلحة استمرار الأقوى أو الأعلم أو الأصلح، بغض النظر عن عدالة وحق زائل. وهو ما دفع بجورج قرم الى الحديث عن الفراغ العربي في كتابه «انفجار المشرق العربي»، في محاولة لتفسير الواقع العربي المنحط.
ومن مظاهر تدهور الأوضاع العربية على سبيل المثال لا الحصر:
انتشار الحروب لا سيما الحروب الأهلية، عمليات التهجير والهجرة، زرع القواعد العسكرية الأجنبية وتوسع الاحتلالات، السيطرة المباشرة وغير المباشرة على الثروات والموارد، الغزو الثقافي والاعلامي، تعمق الانقسامات والتجزئة، سيادة أنظمة حكم مستبدة وفاسدة، الركود الاقتصادي وتعثر التنمية.
ويشير الدكتور نادر فرجاني الى التفوق الغربي الواضح على العرب وتصاعد مؤشرات تفوق اسرائيل على العرب فيقول إنها تتفوق «بحوالى 10 مرات في الأفراد العلميين وأكثر من ثلاثين مرة في الإنفاق على البحث والتطوير وأكثر من خمسين مرة في وصلات الانترنت وأكثر من سبعين مرة في النشر العلمي، وقرابة الألف مرة في براءات الاختراع». (العرب ومواجهة اسرائيل ص. 736). وبالطبع، يفوق الناتج المحلي الاجمالي للفرد في إسرائيل نظيره في البلدان العربية مجتمعة بفارق كبير يتجه الى الازدياد.
وتناول إحصاء حديث صدر مؤخراً قائمة أفضل 500 جامعة في العالم، تبين أنها تخلو من جامعات عربية واحدة، بعد أن كانت جامعة القاهرة قد جاءت في المركز 403 قبل ثلاث سنوات. بالمقابل، دخلت الترتيب 6 جامعات ومراكز بحثية إسرائيلية، و3 جامعات من جنوب أفريقيا. واحتلت الجامعات الآسيوية 83 مركزاً (32 للصين، 7 في تايوان، 5 في هونغ كونغ و31 في كوريا الجنوبية).
ولعل أهم مؤشرات التخلف العربي، عدم وعي العرب بمدى تخلفهم وعدم اعترافهم الصريح بواقعهم المزري، ما أدى الى فشل حركة النهضة العربية وتزايد الدعوات من أجل إطلاق حركة نهضة جديدة، أو ثانية على حد تعبير البعض.
يعدد صموئيل نوح كريمر في مؤلفه «التاريخ يبدأ من سومر» أول إنجاز حضاري ثم ما استتبعه من استكمال المسيرة الحضارية من حضارة الفراعنة في مصر وحضارات الأكاديين والآشوريين والبابليين في العراق، والفينيقيين في بلاد الشام ثم انتقالها الى أرض اليونان. وبعد تدهور الحضارتين الفارسية والرومانية، ظهرت الحضارة العربية الاسلامية في الجزيرة العربية وانتشرت في العالم، حتى جاء دور الحضارة الأوروبية . ثم كان اكتشاف القارة الجديدة اميركا، حيث بدأت تطرح تساؤلات حول مصير الحضارة الأوروبية، امام هجمة «الحلم الأميركي»، كما ذكر ازولد شبنغلر في كتابه الشهير «انحطاط الغرب» في عام 1918.
وبدأت علامات انحطاط الحضارة الغربية المعاصرة بالظهور مع انتشار التلوث وازدياد الجريمة وانتشار المخدرات والأمراض، وتدهور المثل الأخلاقية والروحية كما يقول البرت شفايتسر، وكسوف العقل كما ذكر ماكس هوركهيمر وغيرهما. وكثير من المفكرين والأبحاث والدراسات والنظريات لمفكرين غربيين معاصرين، تبشر بموت الحضارة الغربية، منهم بول كيندي في مجلده الهام «نشوء وسقوط القوى العظمى»، وزبيغنيو بريجنسكي الذي حذر من أفول الأمبراطورية الأميركية بسبب غرقها في الملذات وتراجع قدرتها الإبداعية.
وسوف نتوقف سريعاً عند مفكريْن بارزيْن كتبا في مسألة الحضارات:
يرى ابن خلدون (1406 ـ 1332) أن الحضارة تنشأ أولاً نتيجة شعور الانسان بوجوب التعاون في كسب العيش والدفاع عن النفس ثم تقسيم العمل. ثم يحصل الترف ورفاهية العيش التي تؤدي الى الكسل، ما يقضي على كيان الحضارة وينقلها الى قوم آخرين.
أما أرنولد توينبي (1889 ـ 1975) الذي يعتبر أحدث وأهم المؤرخين في مسألة الحضارات، فيعدد 21 حضارة اندثر معظمها، ولم يبق غير سبع حضارات تمرّ ستٌّ منها بدور الانحلال، وهي: الحضارة الأرثوذوكسية المسيحية البيزنطية، والأرثوذوكسية الروسية، والعربية الاسلامية، والهندوكية، والصينية، والكورية ـ اليابانية؛ أما السابعة، أي الحضارة الغربية، فلا يعرف مصيرها حتى الآن.
أما سقوط الحضارات، فيرى توينبي أنّه يعود الى ثلاثة أسباب:
1ـ ضعف القوة الخلاقة في الأقلية الموجهة وانقلابها الى سلطة تعسفية.
2ـ تخلّي الأكثرية عن موالاة الأقلية الجديدة المسيطرة وكفّها عن محاكاتها.
3ـ الانشقاق وضياع الوحدة في كيان المجتمع.
وطرح توينبي في بحثه حول مصير الحضارة الاسلامية والعربية نظرية مؤداها أن العالم الاسلامي، بما فيه العالم العربي، يواجه اليوم التحدي الغربي بطريقتين: الأولى سلفية منغلقة (استاتيكية) تمثلها الحركات الوهّابية والسنوسيّة والمهدية وما جرى مجراها من حركات سلفية حديثة، والثانية تقدّمية منفتحة ظهرت في نهضة محمد علي في مصر، واعتبرها توينبي حركة ديناميكية جديرة بالتقدير.
وهكذا، يعتقد توينبي أن الحضارة الاسلامية بما فيها العربية حضارة تمر في دور الانحلال، وأنّ محاولات إنقاذها كانت غير كافية للتقدم واللحاق بالحضارة الغربية. ولكنّه مع ذلك يرى أنّ النكبات تعتبر تحديات جديرة بالاعتبار، لأنها قد تدفع الشعب المنكوب المصاب بالهزيمة والدمار الى استعادة عافيته بعد فترة.
إلا أن السؤال المطروح هنا: لماذا لم يستجب العرب لتحدي النكبات التي أصابتهم على أيدي اليهود الصهاينة الذين احتلّوا أرضهم وشرّدوا شعبهم في فلسطين؟
إن صراعنا مع اسرائيل والغرب يمثّل صراعاً حضارياً في المقام الأول. وقد آن الأوان لكي نعترف، بشجاعة، بأن اسرائيل تمثّل جزءاً من الحضارة الغربية الصاعدة، في حين أننا نمثل حضارة عربية إسلامية هابطة كما يقول توينبي، وهذا الانحطاط لا يمكن رده الى أسباب دينية.
هل تخلّت إسرائيل عن دينها إكراماً للحضارة التكنولوجية الحديثة؟ هل ترك الشعب الياباني تقاليده وعاداته وشخصيته المتميزة إكراماً للحضارة التقنية الصاعدة؟ لا.
قد يكون سبب تخلفنا، أننا ما زلنا نخضع لقدر كبير من القيم والعقلية البدوية الموروثة التي تظل تتمسك بقاعدة الثبات بدل قاعدة التغير والصيرورة.
العرب بشكل عام لم ينجحوا بعد في تحويل القدرات والإمكانيات المادية الموجودة لديهم من نفط وموارد وثروات، الى إبداع معرفي ثقافي علمي جديد.
بهذا المعنى، نلاحظ بأن الحضارة العربية في حال انحطاط كما وصفها أدونيس مع وجود ومضات ثقافية وفكرية. المقاومة هي حالة ممانعة وصمود لمنع الانحطاط، لكنها ما زالت دون بناء صرح حضارة عربية جديدة بسبب عدم تحولها بعد الى حالة عامة في الدولة والمجتمع.
من المسؤول عن ذلك؟
هل هو أدونيس لأنه قالها بشكل فج وقح صريح (الصفة لم تعد مهمة) ؟ أم هو الآخر، الغرب واسرائيل وأنظمة الاستبداد العربية؟
لا يوجد مستبد خارجي أو داخلي لولا وجود عبد خاضع تابع قانع مستسلم. البداية في الانسان أولا كفرد، لأنه إمكانية اجتماعية، ولأنه مجتمع فاعل في ثورة مجتمعية إنمائية شاملة كما يقول ناصيف نصار «ثورة ذات أبعاد اقتصادية/انتاجية سياسية/تنظيمية ثقافية/تكنولوجية، ثورة تولد انساناً جديداً».
من هنا نبدأ: من الانسان أولاً. من تحرير العقل نبدأ برسم خارطة طريق تجديد الحضارة أو بناء حضارة عربية جديدة، لأن الانسان هو الذي يبدع الثقافة، وهو الذي يبدع الحضارة، وهو الذي يبني الدولة.
([) كاتب من لبنان
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى