صفحات مختارة

الكتابة بين المسؤولية والترف الفكري

د. أحمد عبد الملك
نصحني صديق بأن أبتعدَ عن الكتابة في الشأن المحلي. وأن أجولَ في فضاءات الكتابة الرحبة، وأن “أُريِّح” دماغي من النقد ولو كان إيجابياً، ومن التوجيه نحو الأفضل ولو كان حقاً، وألا أخلق حولي قوافلَ من الأعداء.
وجدتُ في تلك النصيحة الكثير من الواقعية والعقلانية، وقراءة جيدة لواقع الحال بكثير من التمعن وسبر أغوار الاتجاهات المختلفة. فنحن العرب تؤلمنا الحقيقة! ولقد تشكّلت ثقافتنا المجتمعية والسلوكية على كثير من أفعال المجاملة والمدح؛ والحذر من الجهر بالحقيقة، مهما كانت واضحة أو يستشعرها الناس. وحتى الآن، وبعد حوالي أربعين عاماً من البث الإذاعي وحوالي 38 عاماً من البث التلفزيوني وصدور الصحف والمجلات، لم نصل إلى المرحلة التي يجب أن تتشكل فيها أحكامُنا استناداً إلى فهم واقعي لواقع الحال. وعوَّدتنا تلك الثقافة، أن أيَ ناقد لو مَسّ أية مؤسسة بنقد يهدفُ إلى الإصلاح؛ اعتُبرَ حاسداً أو جاحداً. مع العلم بأن المجالس تتحدث عن تلك المؤسسة أو تلك الواقعة. والرأي العام يدرك مواقع الخطأ أو الهنّات في هذه المؤسسة أو تلك. وهكذا تشكلت هذه “الثقافة” التي أدت إلى ضيق الصدور، وإبراز براويز الكمال فقط أمام الرأي العام ولو كانت الصورة غير أصلية أو باهتة.
وهنا يقفز سؤال جوهري: إذا ما تركَ الكُتابُ المحليون قضاياهم، فمن يا ترى سيقوم بالكتابة عن هذه القضايا؟! وإذا لم تُظهر الصحافة هنّات المرحلة جنباً إلى جنب مع حسناتها -في أي مجتمع- فكيف يُمكن لصاحب القرار أن يتعرَف على سير المرحلة وحقيقة عمل المؤسسات، ويكشف صدقَ التقارير التي تصل إليه. وكم في تاريخنا العربي من تقاريرَ أودت بشرفاء وحافظي أمانة خلفَ الشمس دون حق، بفعل الأجهزة المُضللة أو مراكز القوى التي انقلبت على “خلانِها”.
عندما كنتُ رئيساً لتحريرGulf Times في أوائل التسعينيات، كان يأتيني كل مساء زميل عربي مُكلف بالتشاور معي حول كتابة رأي الجريدة اليومي. وكان يبادرني كل يوم: “ما فيه موضوع يا دكتور”!. أنظر إليه بابتسامة يعرفُ مغزاها! ويقول: طيب.. بنكتب عن إسرائيل. وهذا هو واقع الحال. فالكتابة عن إسرائيل لا ينزعج منها أحدٌ ولا تؤثر في أحد، كما أنها لا تجذب انتباهَ أحد. وهكذا كنا “نسْلَم” من غضب الرقيب عندما نكتب عن إسرائيل.
أعود لنصيحة الصديق! فنحن الذين نكتب عن الشأن المحلي عَددُنا يُعدّ على الأصابع، وإذا ما انسحب اثنان أو ثلاثة من أصحاب الأقلام العاقلة -وما أسهل انسحابهم- فمن سيبقى في الساحة؟ وكيف يتكون الرأي العام؟ وكيف نتحقق من الوصول إلى الحقيقة؟ وكيف تمارس الصحافةُ الأمانةَ الصحفية والمهنية وتفوز بشرف اسم “السلطة الرابعة”؟ هل نلجأ إلى عملية “التجنيس” في عالم الصحافة؟! وهل الفكر والهُوية يمكن أن يتحددا بالجنسية؟! بل هل يضمن تجنيسُ كتاب من الخارج وصولَ الحقيقة إلى القارئ؟ ونحن نسمع يومياً عن التوطين الوظيفي!
القضية أراها أولا في الضمير! فإما أن تقتل ضميرَك، وتتبع موجة كُتّاب المديح، فتَسلَم، وقد تنال “مَكرمات” موقفك من هنا أو هناك. على رغم أن ما تقوم به خطأ، بل خيانة للقلم ولمهنية الصحافة. أو تواصلَ الكتابة وتتحمل “وزرَ” تلك الكتابة ومشاكلها، وتكون قد أرضيتَ ضميرَك وحافظتَ على المهنية وأخلاقياتها، وإن حُرمتَ مَكرماتِها. أو أن تكسر قلمكَ وتجلس على “دكة الاحتياط” وتشاهد مباراة ليس لك فيها فريق تشجعه أو فريق تنتقده!
ولكن مع ذلك، تبرز لنا بعضُ الأسئلة التي من الأهمية أن نلتفت إليها قبل أن نكسِر الأقلام:
هل الذين ينتقدون عملَ المؤسسات الخدمية غيرُ وطنيين، وفعلا يسعون إلى تعكير المزاج العام؟ وهل يجوز تصنيفُ دُعاة الخير والحق والجمال بأنهم “يَعُقّون” أوطانَهم؟ وهل السكوت عن مواقع القصور يعني انتفاء القصور، أو التمام؟ أي، هل عدم حديث الصحافة عن الهنّات أو السلبيات التي تحصل في أي من المؤسسات أو الوزارات يعني أن تلك المؤسسات أو الوزارات تعمل بإنتاجية 100 في المئة؟! وأنها تؤسسُ للمجتمع الفاضل؟ وهل الكتّاب يمارسون ترفاً فكرياً لا علاقة له بالمسؤولية أو محاولة التغيّر؟ وإذا ما تقاعس المتنورون من أبناء المجتمع عن الحديث في قضاياهم المحلية، أو تحاشوا “وجعَ الدماغ”، فهل التاريخ سيسكتُ عن تقاعُسهم، إذا ما انتقلت تلك الملاحظات أو أوجهُ القصور إلى الجيل القادم؟
إذا ما خلت الصحافة من صفحات الرأي وأعمدته، فلن نحتاج إلى صحافة! لأننا نشاهد ونسمع كلَ الأخبار والأحداث في التلفزيون قبل صدور الصحيفة! وعليه، يجب إغلاق الصحف، لأنها ستكون نسخة من نشرة أخبار التلفزيون. وقد تكفينا صحيفة واحدة لربما لقراءة الجداول الحمراء في البورصة -التي تزيد نسبة السُّكر والضغط لدينا- أو ملحق الرياضة. كما أن التكنولوجيا تعوضنا عن القراءة، وذلك بقراءة الجريدة الإلكترونية.
إن دور الصحافة هو البحث عن الحقيقة! وإن حَرَمنا الجمهورَ من الاطلاع، فإننا بذلك نجترئ على مواثيق الصحافة وأخلاقياتها، وتتحول صحافتنا إلى إعلانات “غالية” وأخبار نامت منذ الليلة الماضية.
إن ضميرَ الكاتب المهني هو الحَكمُ الوحيد في قضايا الرأي! وعلى الكاتب أن يُلمَّ بقانون الصحافة، وبأخلاقيات الكتابة وقيم المجتمع، والتشريعات التي تُنظّم عملية النشر. وإذا ما تمأسسَ هذا الضميرُ على ذلك الفهم والعقلانية والتحرر من الأنا، فإنه جدير بالاحترام، مهما خالف آراء الآخرين. فنحن لدينا كُتّاب، بعضهم يمتلك هذا الحسّ، ويُحسن التصرّف به، وبعضهم يكتب لأن تكون صورتهُ في أعلى المقال، ولا يهمهُ ماذا يحمل المقال “المدائحي”، من عبارات قد تجافي الحقيقة، وتخدع الرأي العام وتقلب الحقائق. ومن أمثال هذا البعض من يعيش في سلام وأمان، وقد أعطى ضميرَه إجازة “براتب”. ونجدهُ محلّ احتفاء من قِبل المؤسسات والهيئات والندوات. وتتقرب منه بعض المؤسسات والهيئات ليكتب عن إنجازاتها! ولربما يُمكن أن نطلقَ عليه “الجوكر” الذي يمكن وضعه في أي مكان في “اللعبة”. لكننا نتذكر مقولة عجيبة للرئيس إبراهام لنكولن تقول: “تستطيع أن تخدعَ كل الناس بعضَ الوقت، أو تخدع بعضَ الناس طولَ الوقت، لكنك لا تستطيع أن تخدعَ كل الناس طولَ الوقت”.
وأخيراً، فإن للكلمة تضحياتها. والذي لا يستطيع أن يقدّم تلك التضحيات عليه أن يكسرَ قلمهُ ولا يخدع الناس. أما نصيحة صديقي (المذكورة) فجَديرةٌ بالتأمل في زمان لا ييقى على حدثانه! وتسيرُ رياحهُ ضد ما تشتهي الأقلام! وهنا أتذكر قولَ (أرسطو): “هناك دائماً ركنٌ غبي في عقل أكثر الناس حِكمة وذكاءً”. فما بالكم لو كانت مساحة ذاك الركن كبيرة بحجم الجمجمة؟!. وأنا حتماً أشكرُ ذاك الصديق على نصيحته، ولربما كان حكيماً أكثر مني. وهنا تصحُّ المقولة: رأيي صوابٌ يحتملُ الخطأ، ورأيك خطأ يحتمل الصواب!. وهكذا يكون التناصح.
الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى