المثنى الشيخ عطية

الحلقة الأخيرة من رواية: سيدة الملكوت

null
المثنى الشيخ عطية
تابع ـ سيدة الملكـوت

أنظر لحظة وأنا بداخل نفسي إلى حطام سفينة نفسي. أنظر إلى جثة نفسي. أصاب بالذعر وأعود، أمسح شاطئ بافوس بنظري. أمسح السابحات المستلقيات على الشاطئ بشمس عريهن الإلهي بروحي. ما الذي سيحدث أكثر من ذلك. هو موت واحد وليس موتين.
ـ لا أعرف إن كان هذا جيداً أم سيئاً.. يضعونك في جنة مثل هذه. شاطئ مثل هذا. مقهى على الشاطئ مثل هذا. نادل لطيف مثل هذا. شمس مثل هذه. بيرة مثلجة على الشاطئ مثل هذه. أجساد مسفوحة بلون العسل ومذابة مثل هذه. المرأة التي فكرت أنها تختزل كل هذه الجنة بجانبك ثم يخبرونك أن عليك الرحيل قبل غروب شمس هذا اليوم.. أقول لنورا المسترخية الناعسة العينين من فعل البيرة بجانبي.
ـ لكنك ستشهد غروب هذا اليوم بجانب المرأة التي تختزل جنتك.. تقول نورا بمرح غامزة من نكديتي، وأقول لها مطمئناً إياها إنني فعلاً أحس أنني مثل محكوم بالإعدام.. لكنني أنوي التمتع بسيجارتي الأخيرة دون التفكير بما سيأتي بعدها. وسأثبت لك ذلك. أقول وأنا أتابع بنظري الفتاتين القادمتين من شمس الشاطئ إلى ظل المقهى، واللتين تجلسان وكأنني أحدد لهما مكانهما أمامي على الطاولة المقابلة لي.
تضحك نورا، وأحس بغيظها الدفين.. تقول لي إنها لم تشك بهذا من قبل، وأضحك. أنظر باتجاه طارق على الشاطئ.
ـ كم أحسد طارق. لقد وجد فتيات يلعب معهن رغم اختلاف اللغة. هل تصدقين أنني طيلة إقامتي في هذه الجنة لم أجد فتيات ألعب معهن. أقول بمرح وتجيبني نورا ضاحكة..
ـ لكنك أردت غير اللعب معهن. وأقول لها: بالعكس.. هن اللواتي يردن غير اللعب.
تضحك نورا. وأتأمل وجهها السعيد القلق بحسرة. أبدي إعجابي ببلوزتها الفرنسية التي بلون الشفق فوق تنورتها المطعمة بأشكال الفاكهة. أقول لها إنها تشبه شجرة أعرفها وتضحك سعيدة، لكنها تبدي قلقها من تأخر نصير وعائلته. تقول إنها لا تريد لأحد أن يقول أننا كنا لوحدنا مدة يومين في بافوس، وأطمئنها ساخراً أن لا تخشى.. فسرعان ما تنهال عليها أسئلة سراج التي لن تعرف على أي منها تجيب أولاً، ثم تضطر إلى أن لا تجيب على شيء. أروي لها لقائي الأول بسراج وتضحك وأطمئنها في الوقت نفسه أنها ستكون مسرورة برفقة عائلةٍ طيبة… تحس بحسرتي التي يخفيها هدوئي، وأنظر في عينيها بحزن. تقول لها عيناي إنهما لن تخفيا رغبتهما المستحيلة بأن تنفردا بها في هذا الجمال، وأحس أنها تشاركني هذه الرغبة لكنها تقاوم. تسألني هاربة أن أحدثها عما حدث فعلاً في المجلة، وتسودّ هالة البرتقال الشفافة المحيطة بي. أنظر باتجاه الشاطئ. أحاول الاستعانة بصورة هذا الطقس أن تقف حائلاً أمام صورة ما سيجتاحني لكنني أفشل. أستعين بدرع السخرية كعادتي في حماية نفسي. أقول لها.. لن تصدقي. جاءني عماد بالأمس، وعرض علي أن يعلّمني الإخراج على الكمبيوتر. قال لي إنها مهنة نادرة وراتبها كبير وامتدحني صادقاً.. قال إنني يمكن أن أكون معلماً فيها. أقول وأحس بقلقها. تسألني عن عملي، وأقول لها.. حسناً اجتمعت بنا عائشة بالأمس، وأخبرتنا أنها ستغلق المجلة. أقول وأعتذر عن الخبر إذ أحس بشحوب وجه نورا.
ـ تخلت عنك عائشة، كما كنت تخشى. تقول لي بصوت متكسّر حزين، وتعود صورة عائشة وهي تعتذر لي عن فصلي من العمل.
ـ قالت إنها تدرك وضعي السياسي لكنها لا تستطيع الاستمرار بمجلة دون تمويل، ودون أن تسدّد لها الشركة الليبية للتوزيع ديونها. نظرت في وجه عائشة مرتاباً في مشاعرها، فالتخلي عن مشروع تحرري مثل هذا من امرأة ولدته وربته ورأته يخطو ويركض ويلعب كان أشبه بلحظة امرأة  يذبح طفلها أمامها بالنسبة إلي!؟.. لقد ذابت مشاعر مأساتي في مأساة عائشة.. سألتها عن شعورها في التخلي عن حلم كل امرأة في هذا العالم. مجلة دفعتني أنا الرجل إلى أن أترك باريس لأعمل بها وأجعلها حلمي. سألت عائشة ورأيت عذابها أمامي. رأيت صمتها أمامي وأجابني محمد عنها، قال إنهما لن يتخليا عن المشروع، لكنهما أوقفاه مؤقتاً ريثما يستردان أموالهما، وريثما تحل ليبيا مشكلة التحويلات الناجمة عن حصارها. قال إنهما يفهمان حقيقة شعوري، ويعرفان أنني أكثر من تضرر بسبب وضعي السياسي، وأنهما مستعدان أن يبقيا إقامتي على المجلة إلى أن أحلّ وضعي. قال محمد ذلك وأصابني بالخرس. شلّني عن التفكير. أحسست أنهما قررا أن يتخليا عن حلمهما، ولم يعد هناك مجال للنقاش في كيفية الإبقاء على المجلة. شلني موقف محمد عن التفكير في المجلة، وفكرت بك أنت نورا. لماذا لا يأتيني السحق إلا بكماله. ضربة واحدة وأقسى ما يكون. طعنة واحدة وأقسى ما يكون. أقول لنورا التي تراقبني بصمت. أدير وجهي نحو البحر. أرى موجته ترتفع ثم تنحسر وأرى في انحسارها صليبي. أرى خشبة صليبي ترتفع في حضن شمس تبزغ بقوة وتمنع عيني عن رؤية الكائن الذي يرتفع ليستقر عليها. أحدق في وجه الشمس حتى الاحتراق، وأرى نفسي.. ولداً يهذي بالشعر في شوارع حلب التي سكنها الليل ويقف. يحدق بعمود النيون المضاء ويتحداه.. “عيني أو عينيك حتى الانطفاء”. أحدّق في وجه الشمس حتى الاحتراق وأراه أمامي. أرى رفيقي أمامي يغادر صليبه بكامل ثيابه ويقف. يبدل نظارته بنظارة أخرى ويقف أمامي ويبتسم. أرى وجه رفيقي رياض الترك بكامل ابتسامته التي من صخر، ويستكين بداخلي البركان. أنظر في عينيه. أقول له.. حسناً أيها الرفيق. أوافقك.. سوف لن نسمح لهم أن يكسرونا. أنظر في عيني محمد وأضحك. أنظر في وجه عائشة الصامت نظرة لا تعبّر عن أي معنى، وأغادر.

تضع نورا يدها على يدي.. “المهم الآن بماذا تفكر”.. تقول لي، وأضع يدي على يدها. أنظر في بحيرة عينيها الخضراوين. أحدث نفسي. كم أحب نعاسك. تقول لها عيناي.
ـ أفكر باستمالة قلبك في اتجاهي. أقول لها وتضحك. تسحب يدها من ضغط دفء يدي وكأنها تقول لي أن لا أحاول. تسألني عن محاولات أهلي في تجديد جواز سفري من البلد. وأخبرها أن ابن عمي ذهب بتوصية أحد الضباط إلى فرع الأمن الذي أصدر بلاغ ملاحقتي. أخرجوا له ملفاً ضخماً وقالوا له إن علي أن أحضر شخصيا لإغلاقه. قال لهم مازحاً إن الشائعات باختفاء المعتقلين لديهم لا تشجع أحداً بالقدوم. وتقبلوا مزاحه. قال لي إنهم يعملون على بعض الانفراج، وإنهم عرضوا عليه برنامجاً للمطلوبين يمكن على أساسه أن يحضر المطلوب إليهم للمراجعة دون اعتقال بشرط أن يتخلى عن أي عمل سياسي، وإنهم مستعدون لإلغاء بلاغ ملاحقتي كي أحضر للمراجعة إذا رغبت.
أخبرني بهذا ابن عمي دون أن يبدي رأيه. قال لي أن للبرنامج ذيولاً يختلف الموقف منها رغم صحته، وعلي أنا أن أقرر خطوتي. أقول لنورا، وأردد لها.. فقط. أن يتخلى المطلوب عن العمل السياسي. وأن يرضى بانكسار روحه.
ـ لكنك لا تعمل بالسياسة الآن، وكلا الطرفين المختلفين في الحزب لا يطيقك أن تعمل معه.. تقول نورا وأنظر إليها. أشيح بوجهي عنها نحو البحر. ترد إلى ذاكرتي سجون شرق المتوسط في رواية عبد الرحمن منيف. أرى رجالاً يمشون بدون عيون مثل الزومبي في شوارع دمشق. أرى شوارع دمشق وقد تحولت إلى جيوش زاحفة من الزومبي. ترد إلى ذاكرتي صورة صديقي معاذ، ويتحجر في عينيّ الدمع. ترد إلى ذاكرتي صور شهداء حزبنا، رفاقي.. أؤكد لنفسي ما أعرفه من أن هذه البرامج وهمٌ يخفي خلفه رماحاً مسننة  تستهدف روح الرجال. أتلمس خائفاً روحي. كيف أستطيع التصالح مع نظامٍ ديكتاتوري طائفي فاشي جزر رفاقي وجزر شعبي. أؤكد لنفسي أن هذا النظام سفّاح، ويبتكر أشد الأساليب شيطانية كي يقتل روح الرجل في رجال بلدي.. تزحف موجة عالية باتجاهي، وتنحسر مخلفة تلاشيها في الرمل. أنظر باتجاه الشمس المواجهة لي. ترتفع خشبة صليبي، وأرى الكائن الذي يرتفع عليها محاطاً بقوة سطوع الشمس التي تجبر عيني على التراجع. تهبط أعمدة النيون المضاءة أمامي: “عينيّ أو عينيك أيتها الأعمدة حتى الانطفاء”. أحدّق ملياً وأرى رفيقي يهبط من على صليبه. يبدل نظارة بنظارة ويبتسم لي. أقول له.. حسناً أيها الرفيق.

ـ هل تطلبين مني أن أفعل ذلك !؟ أسأل نورا بصوت عتاب متكسر ينسفح بدمائه على الرمل دون أن أنظر في عينها.
ـ أنت تعلم أنني لا أطلب منك ذلك. ولكن عليك أن تدرس خياراتك.. تقول نورا وأفكر بخياراتي. أية خيارات! ليت نصير يأتي لينتشلني من التفكير. أتمنى أن يأتي نصير. أركّز ذهني على أن يأتي نصير، أركز ذهني وأنا مغمض العينين أن أراه أمامي، وتهبط ظلال نصير أمامي.
ترحب نورا بأحلام والأولاد. تقبلهم ويأتي دور سراج: “أنت أطول مني”. تقبّله وهي تضحك.
ـ لم نعد نستطيع السيطرة على نموه. يقول نصير وهو يضحك مع زوجته. يسأل الأطفال عن طارق وتشير لهم نورا عليه: إنه الذكر الوحيد بين الفتيات الثلاث. هيا شاركوه هذه النعمة.. تقول لهم وتضحك. ينظر سراج حوله وإلى أمه محتاراً، وتفهم وضعه تقول له: يمكنك أن تجلس معنا إذا أردت أو أن تذهب وتجد لك رفقة بحجمك. يجرّ سراج كرسياً وتطلب منه نورا أن يجلس بجانبها، ونضحك أنا ونصير. يقول لها نصير ممازحاً ولده أن ذنبها على جنبها، ويضحك سراج. يقول إنه لن يسألها سوى خمسة عشر سؤالاً، ونضحك. أحس بالسعادة لإدراك سراج مشكلته، وتحويلها إلى ميزة محببة لشخصيته. نجدّد بيرتنا مع نصير، أسأله إن كان الفندق أعجبه، ويدخل سراج على الخط. يسأل نورا عن غرفنا، وتجيبه أن غرفتها وطارق بجانب غرفته هو وإخوته، وغرفة عمو هاني تأتي بعدها. يسألها كمن اكتشف شيئاً. يقول لها: يعني عمو هاني الوحيد الذي سينام لوحده.. يضحك نصير، وتفاجأ نورا بالسؤال. تقول له أمه نعم وتسأله إن كان آكلاً هم عمه، ويجيبه أبوه ضاحكاً أنه يمكنه مشاركتي غرفتي، وأضحك. أقول له أن أباه يمزح، وأنني لن أنام في بافوس وأرجوه أن لا يهتم بي ونضحك. تطلب منه أمه المغادرة. تشير له إلى مكان على الشاطئ يجتمع فيه صبيان من سنه، ويذهب. يتنفس أبوه وأمه الصعداء، ويسترخيان. تعزّيني أحلام على فقداني لعملي. تقول أنها لا تفهم عائشة، كيف تتخلى عن مجلة بهذه الأهمية ثم تقول إنها ومحمد لا يعرفان كيف يدبران أنفسهما، وأنظر أنا إلى نصير. أحس أنه الوحيد الذي يملك الجواب. تحرجه نظراتي، ويضطر للكلام.. يقول إنه ليس متأكداً لكن يبدو أن مشكلة المجلة ليست مشكلة تمويل فقط. يبدو أن النظام الليبي يغيّر مواقفه باتجاه مغازلة الأمريكيين، وشهرزاد البائسة هي الضحية كالعادة، وقد أوقفت عائشة المجلة انتظاراً لتجلّي الموقف.. يبدو أن محمد وعائشة سيجدان نفسيهما ضمن صفوف المعارضة الليبية.. يقول نصير وينظر إلي. تسأله نورا إن كان هذا التوقف يعني انتهاء المجلة، ويجيبها إنه يعتقد ذلك، لأن المرحلة القادمة تتطلب ترتيبات جديدة.
تنظر نورا إلي بقلق. “يبدو أن الأمر لم يعد لعبة”. تقول لي عيناها.
“عليك أن تبحث خياراتك”. تصلني رسالتها. أنظر إلى ساعتي. أقول إن وقت الغداء حان وأعتقد أن الأولاد جاعوا. نطلب الطعام، ونجدد البيرة. أملأ كأس نصير. تسأله نورا عن مطبوعاته الجديدة ويقول لها إنه طبع عديداً من الكتب ستخرج في الأيام القليلة القادمة. لكنه قلق من تبدل مواقف النظام الليبي. إنه ليس قلقاً على الكتب الممنوعة التي ستبيع نفسها حول أسرار الحرب، لكن مواقف النظام الليبي يمكن أن تطيل دورة مال هذه الكتب.
تسأله نورا عن الكتب التي صممت له أغلفتها، وأنظر إلى نورا. تقول لها عيناي “لا تحاولي.. لن تقبضي أجرك عنها الآن”. أتدخل في الحديث. أقول كمن تذكر شيئاً ويخشى أن ينساه لنصير بأن محمود يطلب أن يرسل له أجر جميع الترجمات التي طلبها عن الكتب التي طبعت وهو محرج أمام الكتاب الذين استكتبهم للترجمة.
ـ قال لي محمود أن أخبرك بأن باريس الآن لا ترحم الكتاب. تقول نورا لنصير الذي يطلب الصبر قليلاً ريثما يقبض من عائشة ومحمد. يتأفف من أن الموازين انقلبت في التعامل مع ليبيا. وتنتقل نورا إلى موضوع آخر. تسأله كيف يمكن تدبير وضعي بعد الذي حصل.
ـ أنت تعلم الآن أن الأمر لا يتعلق بالإقامة فقط. الإقامة مرهونة بجواز سفر لم يستطع رفاقكم في باريس تدبيره حتى الآن. والقبارصة كما فهمت لا يتساهلون في هذه النقطة.. أي يمكن لهاني أن يجد نفسه على أبواب أول طائرة مغادرة إلى السجن في البلد.. تقول نورا منفعلة ويهدئها نصير، يقول لها أن تطمئن.
ـ ليس الأمر بالخطورة التي يصورها هاني. بالنسبة لعمله.. أستطيع مده بألف دولار شهرياً بالعمل معي كما قلت له ريثما يجد عملاً هنا. وبالنسبة لجواز سفره.. قلت له إنني سأذهب بنفسي إلى عاصمة عربية لإحضاره.. يقول لها بثقة تقارب إضحاكي غير أنني أتابع المسرحية هادئاً وأنا أمتص كأسي وكأن الأمر يتعلق بشخص آخر لا أعرفه.
ـ لكن الوقت ليس لصالحه، وأنت تعلم أن رفاقاً لنا اعتقلوا بسوء تقدير بسيط واستهتار بسيط بالوقت. تقول نورا لنصير الذي لا يتزحزح اطمئنانه ويطمئنها بأنه سيتصرف. أقوم ضاحكاً أمام استغراب نورا لجمع الأولاد وإحضارهم للغذاء. ألقي نظرات خاطفة على أجساد سابحات الجنة، وأنا أمسك طارق بيدي، وأمر بجانب جسد الأرض المسفوح على بطنه مستسلماً في أحضان شمس الله. أحدّق في خط استوائه الذي يفلق تفاحة الأرض ويزلزل استواء الأرض تحت أقدامي. يضيق صدري عن استيعاب كل هذه الإثارة. أحاول التنفس بعمق لاسترداد قلبي. ما الذي سيحدث “هي موتة واحدة، وسأخوض غمارها كيفما تكون”.. ينتهي الغداء المتأخر. يعود الأولاد إلى الشاطئ. تشعل نورا سيجارتها، وتنظر إلي باطمئنان. أبتسم لها حاسداً إياها على الطمأنينة التي منحها إياها نصير. تلفت بعيونها انتباهي. أنظر إليه. وأنظر متوقعاً ما أرى.. هاهو ذا الرجل المطمئن أمامي، نائماً بهناءة طفل بعد أن أدى مهمته. تحاول أحلام إيقاظه، وأشير لها أن تدعه في طمأنينته. أعرض عليهما المشي، وتقول أحلام أنها ستذهب للاطمئنان على الأولاد.
تخلع نورا نعلها. وتمشي بخطى عارية على رمل الشاطئ. هاهي ذي جنتي أمامي. هاهي ذي جنتي أمامي عارية القدمين. هاهي ذي جنتي أمامي عارية القدمين وأعرف ذلك.
أنظر إلى نورا. أنظر إلى الموج الذي يزحف سريعاً ليضوي ويتمسح بأقدامها ثم يذوب ويذيب لي قلبي. هاهي ذي جنتي التي سأغادر. جنتي التي سأطرد منها بعد قليل.
ـ بدأت أحس مثلك بالخذلان. يسفح الله جنة أمام أقدامك ثم يطلب منك أن لا تلمسها. هذا منتهى القهر.. تقول نورا وهي تنظر إلى الشمس التي بدأت بإخفاء حدة سطوعها.. أنت أكثر من يفهمني هاني. أريد أن أسبح مع ابني غير أنني لا أستطيع أمام نصير وعائلته. تقول متحسرة. جاء يطلب مني أكثر من مرة وخذلته. ماذا أفعل.. تقول وتعتصر قلبي. تنبض في روحي بصورة ضبابية شفافة صورة سيدة تتوغل في دفء ماء العين، ويرفع ماء العين ثوبها شيئاً فشيئاً مع توغلها فيه. تتلاشى. تتلاشى أمامي صورتها وتستحيل ماء.
أنظر باتجاه أحلام التي بدأت بجمع الأولاد. أقول لنورا أن الفرصة سانحة أمامها. سوف أجرّ نصير وعائلته إلى الفندق، ويمكنها أن تتأخر عنا مع طارق.
تنظر إلي محاولة التعبير عن امتنانها، وأقطع عليها ذلك. أتجه إلى الأولاد. ألملم معهم أغراضهم.
ـ هيا. لديكم الآن حمام في الفندق استعداداً لجولة أخرى في بافوس. سوف آخذكم إلى القلعة بعد الحمام.. أقول وتتجه نورا لعزل طارق. تأخذ حذاءه إلى الشاطئ لغسله وأقول لها بأننا سنسبقها. أنظر إليها من بعيد، وأنا أقود بيدي ابن نصير. أراها تراقب ابتعادنا. وأحس بها ترفع ثوبها. ترميه ليستقبله رمل الشاطئ بلهفة. تأخذ يد ابنها ويجران بعضهما نحو حضن البحر.

أدخل غرفتي وأتجه صوب الحمام. أخلع قميصي القطني وسروالي. أنظر إلى نفسي عارياً أمام المرآة. أتأمل عريي. أتأمله. إن هذا جميل. أفتح الستارة وأدخل البانيو. أحس كما لو أنني ألج عالماً آخر. أقف تحت الدوش وأفتح الصنبور. أتلاشى في شلال الماء الذي يغمرني، وأتلاشى. أفتح عيني. أفتح علبة الشامبو. أمرره على رأسي مغمض العينين. أضع رأسي تحت ا لماء وأدوّر يدي على رأسي. أدوّر يدي على جسدي. تبرق في ذاكرتي غرفة أمي. أدوّر الماء بيدي في حوض الاستحمام المستدير وأصنع دوامة حولي… غرفة أمي دافئة مثل العين. أحسّ بيديْ أمي تمرران الصابون على جسدي وأنا ألعب بالدوامة التي أصنعها حولي. تمرر يدها بالليفة على بطني وتنزل للأسفل وأخاف، الليفة تشوكني هنا. أسمع صوت ضحكة أمي الصافية الرنانة. تصب يدها الماء على جسدي. الماء دافئ وأليف. تبرق في رأسي صورة حية العين. خضراء مرقطة خلل رذاذ الماء المتطاير في الضوء. ثابتة ومغلفة بجلال الرهبة. أسمع صوت ماما يأمرني بالتماسك. “سوف أمد يدي وتراها”. أنظر حولي بتوجس. أمسك بيدي حافة الحوض. تتحرك يد ماما والحية ببطء في اتجاهي. أشعر بالخوف وأسمع صوت ماما يطمئنني أنها معي. تنزل الحية من يد ماما في الحوض منسلة تحت رغوة الصابون وصانعة دوامة محيطة بي. يقشعر جسدي وأنا أراها تصعد ظهري غير أن يد ماما تسارع بالمرور على كتفي وأشعر بالأمان. أنظر ضاحكاً بخوف ومواربة وأنا أحس بالحية تظهر من خلف كتفي. أضع يدي على رأسها وتستكين. أحس بفم ماما الدافئ يطبع قبلة على كتفي خلل البخار.

نتجول في سوق بافوس. تداعب أنفي رائحة أجساد السائحات الشقراوات المضمخة بكريمات البحر عبر الزحمة. تلاحظ نورا هيماني. تقول أن السوق هنا يشبه سوق ليماسول. تبدي إعجابها بطاقم السيراميك الذي ضم مزهرية ومنفضة سجائر وقباباً لشمعدانات العشاء وأوعية ناعمة لموالح المشروب. تنقر عليه لتسمع صوت نقائه. يقطع عليها طارق اختباراتها. يشير لها أن تشتري له عدة أسلحة الهنود الحمر، القوس والسكين والبلطة والسهام. تضحك وهي تشتريها له. تقول إن الفلسطينيين مسكونون منذ صغرهم بهاجس فناء الهنود الحمر، وإن طارق لن يكف عن كونه فلسطينياً. تقول إن أباه مازال يعزز فيه روح الفلسطينية عبر الهاتف، ويخاطبه بقوله: كيفك أيها الولد الفلسطيني. أبتسم وأنا أدير قبعة طارق بالعكس على رأسه مداعباً، وأقول له: مبروك عليك أسلحتك، لكنك مع هذا لن تنتصر علي. يضحك ويتحداني كعادته. أقول لنورا ونحن نغادر المحل ساخراً من ادعاءاتي أنني أصبحت أشك في انتصاري عليه، وتضحك. تقول لي.. المهم هو أن وضعك هنا سيترتب.. ألف دولار لقاء العمل مع نصير مبدئياً جيدة. تقول ويصدمها انفجاري بالضحك. أضحك، ولا أتوقف. تستغرب ضحكي وتنتظر هدوئي. أنظر إليها وأنا لا أزال أضحك. أقول لها: حسناً، أنت رأيت الفيللا التي يسكنها نصير ورأيت أن لسراج معلمتي إنكليزي بدلاً من  واحدة، ورأيت مصروفه غير العادي على عائلته. لكنك لا تعلمين أن هذا بالدين. نصير يلعب لعبة تنقيل الطواقي من رأس إلى رأس، وأحياناً يخطئ بالرأس فيثير حنق البعض، وما يقيه من اتهامه بالنصب هو صدقه وكرمه. كل ما في نصير جيد إلا استهتاره بالمال وعدم تفريقه بين ماله ومال غيره. لديه اعتقاد وطمأنينة قاهرة بأن الأمور تمشي، وحب الناس له يجعلها تمشي لحسن حظه، لكن أحوال العالم الآن قد تقلب موازين طمانينة نصير. لقد ضحك محمود كما أضحك أنا الآن في باريس عندما زاره نصير. كان ينتظره بفارغ الصبر كي يسدد له ما عليه ويحلّ بعضاً من ضائقة باريس لكنه فوجئ به يطلب منه أيضاً. أقول لنورا وأنا لا أزال أضحك، وتنتظر مني أن أوضح لها أكثر. أقول لها.. حسناً أنا أطالب من يريد تشغيلي بألف دولار تسديد مبلغ ستة آلاف دولار هي كل وفري. أي أنني  لا أعرف كيف أستطيع أن أحصل منه على ثمن تذكرتي إذا غادرت قبرص، ومن نقودي، وأشعر أنني سأفشل لأن الطاقية على رأس غيري. أقول وتنظر نورا إلي محبطة من تكرار إخفاقاتي.
ـ نعم، أنا مفلس الآن، وكل نقودي دين على من يريد أن يفتح أمامي بطيبته مرة أخرى سراب قبرص. من يريد أن يطعمني مرة أخرى عنب جنتها الحامض. أقول لها، وتحوم فوق روحها الغربان. أحس أنني آلمتها. أحاول أن أخفف عنها. أقول لها أن لا تبتئس لأنني سأدبر نفسي. أقول لها ذلك وألوم نفسي. أحس بأنني كالعادة أفسدت يوماً جميلاً في حياتها وأطعمتها برعونتي لغربان القلق. أقول لها ضاحكاً ومنفجراً مرة أخرى بالضحك أن الترحيل لا يحتاج إلى نقود. رحلة بحرية أو جوية باتجاه السجن. والسجن لا يحتاج أيضاً إلى نقود. أقول لها وتضحك دامعة. تحاول أن تضربني بيديها وأتلقى لكماتها بيدي وسط ضحكات الدمع.

أدير قبعة طارق عاكساً اتجاه واقيتها إلى الأمام. سوف تزداد قوة الشمس.. أقول له مداعباً، ويعيد هو معانداً قبعته إلى وضعها المعكوس. سوف نرى من يصطاد سمكاً أكثر..  أقول له متحدياً ويخبرني أن أباه طلب منه أن يخبئ له أكبر سمكة يصطادها وأمازحه بالقول إننا سنحتاج إلى شاحنة تبريد ضخمة لأجل ذلك. يخبرني أن أمه اتصلت بأبيه هذا الصباح. قالت له إنهما بانتظاره وطلب منه أبوه أن يسلّم علي.. أشكره على إيصاله تحية أبيه، وأقول له أن أمه تحدتنا أن نصطاد ولو سمكة صغيرة، وأن علينا قبول التحدي. أنظر إلى البحر، الموج شديد في هذا المكان، وسوف نخذل نورا هنا. أنظر إلى يميني وأرى الشاطئ الرملي المفروش بأجساد الله المستسلمة لأصابع شمسه. أقترح على طارق الانتقال إلى الطرف الآخر من الشاطئ حيث الهدوء أكثر، وأساعده في ضب صنارته وعلبة طُعم السمك، ونبدأ رحلتنا لاجتياز الصحراء. أختلس النظر إلى العسل المذاب المسفوح فوق الرمل. نبتسم أنا وطارق ونحن نرى رجلاً يصب البيرة على صفحة جسد أنثاه المفروش على بطنه باستسلام وتأوّه مع دلك البيرة بأصابعه فيه. تقطع طريقنا إلهة فارعة الطول بنهدين طليقين يرفرفان بأجنحتهما كما حمامات محمومات باتجاهي. تتسمر عيناي في الرأسين النوويين المتجهين كرمحين إلى صدري، ويضحك طارق. أدير قبعته وأنزل واقيتها على عينيه مداعباً. أقول له أن الصغار لا يجب أن يروا هذا ويضحك. نصل إلى شاطئ الأمان: كدت أموت.. أقول له ونحن نضحك. نحتل مواقعنا. أساعده في وضع الطعم في الصنارة: هكذا علّمني أبي يوماً، واصطدت الكثير من السمك.. أقول له.. وأقف بجانبه وهو يرمي صنارته التي تستقر هادئة على بطن البحر. أحتل موقعي بعيداً قليلاً عنه. ألقي بصنارتي، وأجلس لأراقب. أنظر إلى المدى المفتوح أمامي. أنظر إلى المدى المفتوح وأغرق فيه.. “ليس سوى هذا المدى وأكون بقربك. كم أشتاق إليك. كم أشتاق إلى أن أنسفح كما هذا الموج على صخر شواطئك، وكم أشتاق إلى أن أنرشق وأتناثر في صخر جبالك مثل الصقر إذا ما سد أمام جناحيه الأفق”.
يملّ طارق من الانتظار ويأتي قربي لرؤية صنارتي. أقول له إن الحكمة الأولى في صيد السمك هي تعلم الانتظار والتأمل فيه. والحكمة الثانية هي الوفاء بوعده لأبيه بصيد أكبر سمكة، والحكمة الثالثة هي قبولي لتحدي أمه وصيد سمكة صغيرة.. أقول له وأجلس لأراقبه ضاحكاً، وهو يجرّ قدميه باتجاه صنارته ويجلس. أقول له إن الحكمة الرابعة هي وضع قبعته بالشكل الصحيح لأن الشمس الآن قوية، وأضحك. ينظر إلي متحدياً. يمسك عود صنارته ويعود لمواجهة بحره منتظراً أسماكه. أنظر إليه. أشفق على قبوله هذا التحدي. أنظر إليه وحيداً مستغرقا بصنارته وبحره وسمكته: يا الله الأطفال.. أنظر إليه مستغرقاً بعناده. أنظر إلى البحر. أركّز عيني في عينيه. أحاول وصل موجاته بموجات روحي. أقول له:
يا بحر. هذه المرة فقط. سمكة واحدة كبيرة قليلاً لصديقي العنيد. أركز روحي في الموجة القادمة الزاحفة متسارعة باتجاهي. أغمض عيني لها كي تجتاحني وأغيب.

ـ هل أنت متأكد أن الغزال أعجب أمك… قال لي والدي ونظرت إليه. نظرت إلى الرجل المثقل بهموم قلبه، ومرّت صورة أمي أمامي مشدودة بطولها الفارع رافلة ومحاطة بقبيلة حيواناتها التي تراقبها حتى لو شغلتها عنها. راقبت مشهد أمي وهي تروح وتغدو منظفة ومرتبة ممرات حديقتها. مقلمة أغصان شجيراتها. مبعدة الخراف ومنظفة معالفها. حاجزة الدجاجات ومنظفة أقنانها، رائحةً وغاديةً محاطةً بحماماتها البيضاء المتطايرة المرفرفة بأجنحتها حولها، مبعدة قليلاً وبرفقٍ الغزال الذي يتبعها أينما ذهبت مشمشماً إياها ومتمسحاً بثوبها، ناظرةً إلى الكلب الذي أمرته أن يجلس على عتبة الباب حارساً، وضاحكةً من نظراته المتلهفة الراجية أن تسمح له بالاقتراب. راقبت المشهد الذي يجري ببطء أمامي سارياً  بأنفاس الربيع. أحسست أن أنفاس الربيع المحيطة بالمكان هي أنفاس حضور ماما.. حتى الحية سيدة الرهبة والهدوء التي خرجت بجلالها وأشارت لي ماما أن لا أقترب منها وهي تأخذ حصتها من البيض وتعود إلى جحرها إنما كانت تتحرك بإيقاع حضور ماما. راقبت المشهد الغائب المتجلّي برذاذ شمس وأنفاس الربيع، واندفعت للإعلان عن حضوري فيه. جررت الكبش من إليته واستدار غاضباً لمهاجمتي، استفزيت غضبه أكثر بعدم خوفي منه، وضعت راحتي واقية صدمات لرأسه الذي ظل ينطح عبثاً وسط ضحكاتي، مررت بين الديك المتخايل المنتصب بعرفه الأحمر ودجاجاته النقاقات البرتقالية اللون المتباهية بمس جنون الريش المتراكم أحمر وأخضر وأصفر براقاً يذهب بمخيلة الديك إلى العدم. حجزت الذكر المتخايل عن إناثه، وبعثت برفساتي لمنقاره الذي  يحاول نقر رجلي عبثاً فيه الجنون وسط تحدي ضحكاتي. طاردت الحمامات المتطايرة حول ماما وتطاير ريشها الأبيض وأنا أحاول إمساكها، وقفزت على ظهر الغزال الذي جفل وركض مستجيراً ومحتميا بماما التي أمرتني بالكف عن بعث الفوضى بالمكان والخروج. خرجت متخطياً الكلب الضاوي ورفسته كآخر عبث أخلّفه ورائي. غبت قليلاً وعدت. تسللت داخلاً دون أن تنتبه ماما لدخولي وكنت أراقبها من خلف معلف الخراف ولم أكن وحدي من يراقب. دخل بابا الحظيرة ووقف متأملاً ماما التي لم تتوقف عن العمل وتظاهرتْ كأنها لم تره. رفعتْ ثوبها قليلاً لتغطية كتفها العاري، وما لبث الثوب أن أنحسر مرة أخرى عن كتفها أمام الرجل الذي يكاد يهلك بأنفاس الربيع السارية أمام عينيه. تقدم بخطى بطيئة وسرت مسحة خوف وتوجس في أرجاء المكان. جفل الغزال مرتجفاً من إشارة كف صياده التي يعرفها جيداً ويعرف معنى إشارتها له بالابتعاد. تضاءلت الخرفان منزوية ورفرفت الحمامات خائفة ومبتعدة مع تقدم خطى الرجل الذي أدركت رهبته وشدت انتباهي لمراقبة ما يحدث.
تقدم بابا غير أن ماما بقيت على هدوئها. بقيت مولية إياه ظهرها ناظرة إليه دون أن تنظر إليه نظرة متحدية ومشوبة برغبة متمنعة أدركت سر قوتها عندما انكسرت مقاومة الرجل الذي وقف قليلاً خلفها مكابراً انهيار جدرانه، وطوّق خصرها دون أن يستطيع غير ذلك بذراعيه من الخلف دافناً رأسه في عنقها، زافراً الهم الثقيل الذي راكمه بقلبه شتاءٌ كامل من الحرمان. قاومتْ ماما متمنعة وحفزتني مقاومتها على أن أظهر وأواجهه لكنني رأيتها معلقة بين التمنع والاستسلام.. أدارت رأسها قليلاً إلى الخلف وانثنى جسدها تحت ثقل جسده وحطّت ركبتاها على الأرض لكنها انتفضت مرة أخرى مقاومة كسرها. استدار جسدها منتفضاً بعنف وأوقع بابا الذي اصطدم رأسه بجذع الشجرة. وضع بابا يده على رأسه باستنكار وغضب. ونظرت هي إليه مستغربة عنفها ومحاولة الاعتذار، وانتشلهما من وضعهما الطرق على باب البيت. لملما نفسيهما وخرج بابا لفتح الباب. كان أخاه عبد الستار وسمعتْ ماما صوته فغاب أمام عينيها النهار. خرجت وسألته إن كان بقي في وجهه بعض الماء كي يدوس عتبة بيتها، وأجابها أنه أتى إلى بيت أخيه، وقالت له: حسناً ويمكنك أن تخرج من بيت أخيك الآن. وقف بابا مذهولاً ومحرجاً أمام أخيه الذي نظر إليه منتظراً منه أن يتحرك لردع زوجته. أراد بابا أن يهدئ الموقف بين الاثنين طالباً منهما تطويل بالهما غير أن أخاه خرج وهو ينظر إليه نظرة عتب قاهرة. قال بابا لماما وهو ينظر إليها بهدوء بركان يضغط على نفسه كي لا ينفجر: إنك تتجاوزين الحدود.. ونظرت هي إليه نظرة تحدّ وأدارت له ظهرها غير مبالية وكأنها تقول له “أرني ماذا ستفعل”، لكنها اختلست النظر إليه من شباك غرفتها مراقبة هدوءه الذي أحسست أنه بث فيها الخوف…

أفيق من غيابي على انتفاضة طارق وهو يناديني. لقد علقت سمكة بصنارته. أقوم بسرعة. أمسك عصا صنارته مساعداً إياه وأطلب منه أن يحرك بيده ملف الخيط. يبدأ صيدنا بالخروج وسط الترقب المندهش لطارق. يصرخ عالياً.. إنها سمكة. ونسحب السمكة الفقيرة باتجاهنا. أعلمه كيف يخرجها من الشص دون أن يقطع فمها. يسألني هل هي كبيرة كفاية لوعد أبيه وأنظر إلى السمكة الصغيرة. أخبره أن علينا الاختيار بين أن نكتفي بها أو أن نغامر بها نفسها لصيد سمكة أكبر. أقول له ضاحكاً أن الحكمة الخامسة هي أنك لن تأخذ إذا لم تعط.. أي أن علينا التضحية بالسمكة الصغيرة لصيد سمكة أكبر إذا أراد، ويوافقني. أعلمه كيف نشكها بالشص وألقي بها إلى منطقة أعمق وأطلب منه أن ينتظر. أجلس في مكاني وأراقبه وهو مستغرق في انتظاره. أنظر إلى البحر. أركز عيني في عينيه، أقول له: يا بحر نحن لم نخلّ باتفاقنا. سمكة بسمكة.. من أجل صديقنا العنيد. أنظر إلى الموجة القادمة زاحفة باتجاهي وأغيب…

قالت عمتي إن نوارة تجاوزت حدودها، وتساءلتْ أمام جدتي عن أمي ماذا تظن نفسها لكي تطرد عبد الستار من بيت أخيه. دخل والدي بيت أهله وسمع نهاية الكلام. نظر إلى أخته دون أن يسلّم وجلس. قالت جدتي الحكيمة التي ما تزال تحب أمي وتعذرها لائمة ابنتها أن على الجميع تقدير مصيبة نوارة، وصمت والدي. جلس قليلاً وخرج. دخل إلى البيت. سألني إن كنت أحتاج شيئاً في دراستي وجلس قليلاً يراقب مفتوناً ومقهوراً سريان الربيع في الجلسة الهادئة التي ترتبها ماما في حوش البيت دون أن تكلّف نفسها بنظرة إليه. كابر تجاهلها له قليلاً ونظر إلي. لم يستطع احتمال قهرها له بهذا التجاهل، وخرج.

وضع الساقي كؤوس الشاي الداكنة على طاولاتها النحاسية الطويلة غير المتوازنة وتلاشى في ضجيج المقهى. رمى بابا الأوراق التي بيده خاسراً ولملمها الرجل على يمينه، وأبدى شريك بابا في اللعب استياءه من عدم انتباهه وبقي بابا على صمته. قال الخصم على يسار بابا مازحاً معه ومعزياً إياه أن عليه أن لا يبالي.. “الخاسر في اللعب رابح في الحب”، وضحك بابا.
دار الورق مرة أخرى، ودار حديث الزوجات. سأل شريك بابا الرجل الذي يطلب الاستعجال في اللعب إن كانت أم فراس كالعادة هيأت مكنسة التأخير، وضحك الرجل محمراً. قال إنه يرأف بالمسكينة فقط لأنها لا تنام قبل أن يأتي وضحك الجميع. قال شريك والدي إنهم كلهم مكابرون، الوحيد الذي حسم أمره وسلم بهزيمته هو حمّاد الذي وضع عصمته بيد امرأته.. قال ذلك وجمدت في وجه بابا الدماء. نظر بهدوئه المخيف إلى الرجل الذي أحس أنه انزلق في الكلام غير أن الوقت فات. عادت لوجه بابا شراسة هدوئه. وضع الورق أمامه على الطاولة. نفض بيده اليسرى طاولة الشاي الصغيرة التي على طريق قيامه. أمسك بالرجل من رقبته بيديه ورفعه. صفعه وهو ممسك به صفعة لفتت انتباه الجميع ثم حمله بيديه وألقى به كما كيس على الأرض.
تسمّر الجميع صامتين ومراقبين. لم يفعل ذلك حماد العابد منذ سنوات، ولابد أن الأمر أخطر من أن يتدخل به أحد. نظر الرجل مرعوباً إلى بابا الذي بدأ يستعيد هدوءه. نظر بابا إلى المقهى الصامت الذي يراقبه. اقترب من الرجل. رفعه برفق وأغمض عينيه معتذراً له. سأله إن كان تأذى. قال له أنه آسف لأنه لم يتمالك نفسه. أعاده إلى كرسيه وسط دهشة الجميع مما يحدث، وخرج.

سحبت ماما اللحاف لتغطيني. تنفستْ برودة ليل ربيع الفرات. قالت: ما أجمل هذا الليل، وأصخت السمع. كان ثمة وقع خطى تقترب. أطلّت من شق ستارة النافذة كي لا يراها أحد، وعادت. تمددت قربي وقالت متحسرة وقلقة: لم يأت أبوك بعد.
سألتها لماذا تنتظر بابا قلقة وتتجاهله عندما يأتي، وضحكت. أصخت السمع لصوت الضفادع وصراصير البستان التي بدأ صوتها بالتلاشي ونظرت إلي مبتسمة ومترددة خجلة من الكلام. أجبرها إلحاح انتظاري جوابها وابتسمت محمرة الوجه.. قالت لي: حسناً.. هناك مشكلة بسيطة بيني وبين أبوك ونحن نحاول تجاوزها، لكنني مازلت وسأبقى أحب أبيك. قالت ذلك وفرحتُ. طلبتُ منها أن تحدثني عن أبي، وسرحت شاردة في ذكرياتها. قالت لي: أذكر المرة الأولى التي طلبني فيها. كان جارنا وكان يعمل بالنجارة وكنت معجبة بشخصيته. كنت صغيرة عندما سمعت أن شاباً من حارتنا تطوّع للجهاد من أجل فلسطين عام  1948، وكان بطلي منذ ذلك الوقت. عندما عاد فرح أهله بعودته لكنه أمر الجميع أن لا يفرح بعودته. غاب فترة طويلة لا يراه فيها أحد.. ورأيته بعد ذلك وقد امتلك سيارة يعمل عليها. كانت أمك يومها أجمل بنات الحي. وكنت أحتقر الرجولة الخاوية وأضربت عن الزواج. وضعت شرطاً على الرجل الذي أختاره وهو أن يكون قرار الطلاق بيدي لا بيده، وهو شرط لا يقبل به رجل خشية من اتهام المجتمع له بفقد رجولته. أذكر يومها أن أباك استوقفني في الطريق. سلّم علي بأدب وقال لي مركزاً عينيه في عينيّ إنه يريد الزواج مني. كان يكبرني بثماني سنوات لكنه كان بطلي. تناسيت شرطي. قلت له أن بإمكانه رؤية والدي دلالة موافقتي، وفاجأني. قال إن لديه شرطاً واحداً فقط وهو أن أقبل أن تكون عصمتي بيدي. دمعت عيناي من التأثر وقلت له أن يذهب لطلبي من والدي.
رفض جدك في البداية شرط أبيك قائلاً له إنه لا يرضى أن يهدر شاب رجولته حتى ولو كان من أجل ابنته. وأصرّ أبوك عليه. قال له إنها رجولتي لا رجولتك. وكان جدّك يفهم معنى هذا الكلام من رجل مثل أبيك فوافق… تزوجنا ومرت العاصفة بسلام. كان الجميع يخشى عنف أبيك إذا انفجر ولم يجرؤ أحد على لومه، وساعده في هذا أنه أخذ المرأة التي يتمناها الجميع. قالت أمي هذا وضحكت ضحكة حزينة: ليس هناك رجل أرجل من أبيك. قالت وتابعت مكسورة: أذكر حين انهزمنا في حرب العام الماضي أنه بكى أمامي، رغم ما في ذلك من عيب على الرجل، لكن أبوك كان يحبني ويعرف أنه بكى أمام امرأة تعرف معنى الرجولة الحقة.
غفوت وبقيت ماما تتحدث.. قالت كلاماً كثيراً كي تبقي جمرة انتظارها متوهجة، لكنها استلقت متظاهرة بالنوم عندما عاد. فتح باب الغرفة بهدوء. نظر إلينا كي يطمئن. نظر إلى ماما التي أوقفت أنفاسها ورأى أنها نائمة وأغلق الباب.
سالت دموع ماما بهدوء دون أن تسمح لأي حركة أن تحتضن دموعها. كنت أعرف أنها تحمل صخرة كبريائها الثقيلة وحيدة وتحولها آخر الليل إلى دموع محمولة على نقالة عتابا الحزن…

تسارعت انهيارات الربيع، وتسارعت اتهامات عمي لأمي بأنها لا تحب العائلة وتحتقرها، ووقف بابا على الحياد طويلاً لكنه رضخ أخيراً لضغط أخيه وأخواته. دخل الحظيرة التي تصهل فيها أنفاس الربيع وتبعث فيه الجنون. كابر وقوعه. قال لها أنه آن الأوان لكي تراضي عائلته وتعتذر من عبد الستار. رفضت ماما وخرج هائماً. غاب ساعة وعاد برفقة الجزار. أشار له إلى أحد الخراف، ونظر إلى ماما. تجاهلت ماما نظرته ولم يستطع الاحتمال. نظر إلى ماما الرافلة بأنفاس الربيع بين حيواناتها. نظر إلى الغزال الذي يتابعها مشمشماً خطواتها وأوقف الجزار عن إحضار الخروف. أشار إلى الغزال وقال له: هذا.
وقفت ماما تنظر إليه أن يتراجع لكنه لم يفعل. شحذ الجزار سكينه أمام رقبة الغزال المقيّد اليدين والقدمين المبطوح على جنبه الناظر بتوسل إلى ماما، ووقف بابا وماما ينظران إلى بعضهما بتحد أغشى بصريهما عما يحدث. نظرت ماما إليه طالبة منه أن يوقف جزاره. ونظر هو إليها طالباً منها أن تفعل هي ذلك، ولم تنتظر السكين…
شخب دم الغزال وجرى نهراً بينهما…
أشاحت ماما بوجهها كي لا ترى، ومضت مغالبة دموعها إلى غرفتها.
أفاق بابا من ذهوله على غرغرة الغزال الأخيرة بدمه، وهجم على الجزار. صاح فيه: أيها الحيوان، وأمسكه من رقبته، جرّه وألقى به أرضاً، رفسه وبصق عليه، أمسكه من رقبته وألقى به وهو يزأر خارج البيت. عاد متهالكاً، نظر إلى غرفة ماما الموصدة الباب بوجهه، مضى إلى الغزال الذبيح، حمله ووضعه تحت الشجرة، أحضر وعاء ولملم التراب الممتزج بدمه ووضعه بجانبه، حفر قبراً له تحت الشجرة، دفنه، قرأ عليه الفاتحة، ومضى إلى سيارته، أدار محركها وغاب…

أنظر إلى طارق. أنظر إلى الولد المستغرق وحيداً في انتظار ما يفي بوعده لأبيه. أنظر إلى الولد الوحيد في انتظاره لأبيه، وأعود للتلاشي في الأزرق الداكن لروح البحر…

غاب بابا أياماً لم يعد فيها للبيت. ذهب إلى البادية وأغرق نفسه بالعمل. أصبح يأتي إلى البيت كل بضعة أيام. يؤمن احتياجاتنا ويسألني عن دراستي. يطمئن علينا ويمضي. قالت لي ماما إنه موسم عمله مع البدو وعادت مرة أخرى إلى صمتها وحزنها ومرّ الربيع.
عاد بابا بعد غياب يومين في البادية. أنزل الخضار والفاكهة وأكياس احتياجات البيت من السيارة ووضعها في المطبخ. سأل ماما وهو يهم بالخروج إن كانت تحتاج إلى شيء. قالت له إن الفندق لا يحتاج إلى شيء، ووقف ينظر إليها دون أن يتكلم. قالت له: اسمع. إن كانت العصمة التي بيدي تمنعك عن اتخاذ قرار فإنني أتخلى عنها…
طار صواب بابا واحمر وجهه مختنقا بالغضب. كان هذا أكثر مما يطيق، وأحسست أنا بالبركان الذي يحاول إخماده في داخله. حاولت التدخل. فكرت أن أقول له أن ماما لا تقصد، وأنها تحبه، وأنها لم تكن تنام كما يظن إلا بعد عودته.. لكنني ترددت. لم أعرف كيف أعبر له. منعني غضبه المكبوت الذي يوشك على الانفجار من التصرف، ونظر هو إلى ماما نظرة طويلة تحول فيها وجهه إلى البرود وخرج.
ذهبت ماما إلى باحة البيت الخلفية دامعة العينين، وبدأت تذرّي حبيبات القمح تحت شمس الصيف كي تذيب صخرة الحزن واللوم التي تطحن صدرها. عاد بابا بعد ساعة. دخل الحظيرة. كان هادئاً. داعب شعري، ومسح حبيبات العرق التي انبعثت تحت سياط شمس الصيف من على جبيني المنهمك في اللعب. اقترب من الخراف فجفلت، والدجاجات هي الأخرى هربت من الحَب الذي نثره أمامها، وحمامات ماما البيضاء طارت.
أخذ أحد الصيصان وقتله، ثم ربطه بخيط وصعد به السلم نحو عش الحية المحاذي للسطح. علّقه أمام باب العش وجلس ينتظر. كانت ماما تذري القمح في باحة البيت، وأنا جلست بعيداً أراقب المشهد.
مدّت الحية رأسها لالتقاط الصوص، وتسمرتُ أنا في مكاني. رفع بابا هراوة ضخمة كان يخفيها بجانبه، ولم تصدق عيناي ما يحدث. نزلت الهراوة على رأس الحية ساحقة إياه بضربة واحدة فقط. شعرت بوخز الألم بين فخذي، وركضت صارخاً لماما أن تأتي. قلت لها وأنا ألهث لقد قتل بابا الحية، ضربها على رأسها بالعصا.
ركضت ماما تاركة وعاء القمح يهوي وناثرة بقدميها الراكضتين المتصلبتين حبيبات القمح التي لم تنزل أبداً إلى الأرض، وظلت أمامي معلقة ومحيطة بماما التي مازالت تركض أمامي مخترقة حجب النور.
انحنت ماما إلى الأرض، وحملت الحية التي همدت فيها الحركة، ونظرت بحزنها الذي لم يفارقه الكبرياء إلى بابا، وبابا وقف بهراوته أمامها.. صياداً قادماً من ظلام الأساطير، متحفزاً لحماية كبريائه ومستعداً للنزال.
انكفأت ماما بدموعها، وحفرت للحية قبراً تحت شجرة التوت بجانب غزالها ووارتها التراب…
انكفأ بابا بهراوته مبتعداً خارج البيت إلى الصخور. وأنا رأيت ماما تستند إلى جذع الشجرة وتجهش بالبكاء. وأنا رأيت بابا يرفع هراوته ويحطمها بضربة واحدة على الصخور ويخفي عينيه بيديه…

أنظر إلى طارق دامع العينين. أنظر إلى الولد الوحيد المستغرق في تحدي وعده لأبيه. أنظر إلى الولد المستغرق في انتظاره لأبيه، وأتلاشى في الداكن الأزرق لروح البحر.
أسمع وقع خطوات تقترب. أسمع وقع خطوات تتوقف فوقي. أشم ظل نورا بجانبي. أطلب منها أن تجلس دون أن أنظر إليها. تضحك من تنبؤاتي وتجلس. أشم عطر جسدها الفواح بياسمين شانيل، وألاحظ سعادتها الرافلة ببلوزتها الحمراء المهفهفة بروح البرتقال. أقول لها إنها تبدو سعيدة هذا اليوم وتوافقني. تسألني عن حال طارق وينتبه لها. يترك صنارته ويأتي راكضاً. يقول لها فرحاً إنه اصطاد سمكة صغيرة وأعادها عمو هاني إلى البحر ليعطيه سمكة أكبر. تنظر إليّ ضاحكة. أحس أن صنارة طارق تهتز، وأؤكد لها اتفاقنا مع البحر. أقول لها إننا يمكن أن نسحب الآن سمكتنا، وتضحك. يركض طارق معي وأنا أجرّه. أرى الفلينة تختفي وتظهر. أطلب منه لف الخيط ويبدأ سحبنا لسمكتنا وسط ضحكات نورا ودهشتها. يصرخ طارق من الفرح وهو يرى السمكة الكبيرة التي تخرج وأسحبها لتستقر بين يدينا. أضرب كفي بكف طارق: لقد وفينا بتحديات وعودنا. وتنظر نورا إلينا ضاحكة خلل دموعها التي تحاول إخفاءها.
ـ هل رأيت ماما.. البحر صديق عمو هاني.. يقول طارق مدهوشاً وأنا أضع له سمكته في سطله الذي ملأه بالماء. تضحك نورا وهي تردّد مقلدة طارق في تشديد القاف. صديق. ويحقق نبوءاته أيضاً. وتضحك مؤكدة لابنها:
ـ نعم. لقد تنبأ مرة أنه سيتزوج فتاة رآها في لوحتها. تقول وأنظر إليها. ينساب الأخضر والأزرق والبني أمامي جدول ماء يرمي طفولة العالم بين يدي وتبزغ خلل رذاذ الضوء أمامي شجرتي. أنظر في بحيرة عيني نورا وأصمت. أسألها حزيناً أين غابت كل هذا الصباح وتقول لي سعيدة أنها أعدت لي مفاجأة سوف أسمعها في المطعم حيث ينتظرنا نصير وعائلته.
أحتسي كأس بيرتي ولا أتركه حتى يفرغ. يا إلهي ما أطيب البيرة بعد هذا العطش. أقول وأنا أسترخي ويضحك نصير. يقول إن هؤلاء الفلاحين القبارصة لم يفلحوا سوى بصناعة بيرة جيدة، ونضحك. تنتظر نورا هدوءنا وتقول: حسناً.. لدي مفاجأة حدثت اليوم. اتصلت بمحمود صباحاً، وشرحت له وضع هاني. اتفقنا أن يستعين بأحد أصدقائنا السويديين في تدبير فيزا لدخول هاني إلى السويد، وتبين للصدفة أن له صديقاً مهماً في السفارة السويدية بقبرص، ووعده بالفيزا لكنه طلب أوراقاً صحية لحالة طوارئ قلبية لأن جواز سفر هاني شارف على الانتهاء. كل شيء معدّ الآن لذهابك إلى السويد، وسيتكفل بك رفاقك هناك. ليس عليك سوى تدبير الأوراق وتذكرة الطائرة. تقول نورا جملتها الأخيرة وهي تسترخي هادئة. أنظر إليها. أنظر صوب البحر. أحدّق فيه ملياً. أرى رفيقي ينزل من على صليبه. يستبدل نظارة بنظارة ويبتسم. أقول له.. حسناً أيها الرفيق. أنظر إلى نصير المتشاغل بموالح البيرة. أنظر إليه مركزاً عيني في عينيه، ويقول لي: نعم.. يمكن تدبير الأوراق وتذكرة الطائرة.
أعود للنظر إلى نورا وهي ترتشف بيرتها هادئة. تشعل سيجارة وتسحب نفسا عميقاً. أنظر إليها محاولاً إشعارها أنني متضايق.. ها هي ذي مرة أخرى تتصرف كما لو كانت أمي لكن ما العمل. اليأس محتوم في أن تكف عن رعايتي بهذه الطريقة. أنظر إليها بحنان وهي تحتسي بيرتها وتبدأ عيناها بالذبول. كم أحب نعاسك نورا. أقول.
تنظر نورا صوب البحر الذي يغلفه المساء: ليت الغروب انتظرنا قليلاً كي نشهده سوياً من هاهنا.. تقول وأبتسم بمرارة: هذه القلعة تسحرني.. تقول وأجيبها أن أمنيتي كانت قبل أن تأتي من باريس هي إحضارها لرؤية الغروب من هذا المكان.. لكن كما هي عادتنا.. نصل إلى بعضنا متأخرين. حتى الغروب.. غروب بسيط كنت في وسطه ولم يتحقق. تقول: أحس كما لو كنت الأميرة التي تقف على الأسوار بانتظار أن ينشق البحر عن سفينة انتظارها. تقول وأنظر معها خلل الليل إلى المجهول المضاء بقمر يكتمل.
ـ إنه تأثير القمر… أقول وتنظر هي مسحورة باتجاه قمرها. أقول وأنظر وجهها الشجري. أتأمل بروفيل وجهها المنسكب شلال فضة وكأنني أحاول حفره في ذاكرتي. أبتسم مفعماً بالغرور لتسريحة شعرها على شكل ذيل الفرس كما أحب. تنتبه لتأملي تسريحتها.
ـ هل أعجبك شعري على هذه الصورة.. تسألني دون أن تنظر إلي وهي تبتسم. أقول لها.. نعم. تعجبني مكاملتك تفاصيل قتلي. وتنظر في عيني بحنان. تطلب مني أن لا أضفي على الأمر طابع المأساة، وتطلب مني أن أحفظ لها بذاكرتي هذا المساء الجميل. أنظر إليها. أغرق بهدوء في بحيرة عينيها، وأدير وجهي صوب البحر. تقول إنها لم تسألني عن علاقتي بروزا، ويفاجئني سؤالها.. أنظر إليها مستفسراً وتقول إنها لاحظت اهتمامها بي. تقول لي إنها تريد أن تطمئن علي وتمتدح طيبة روزا.. أقول لها إن الفتاة مخطوبة لموظف بنك أمامه مستقبل ولا تقتنع بمبرري. أقول لها إن الفتاة مسيحية وإنني اكتفيت بخذلان مسيحية قبلها ولا تقتنع بمبرري. أقول لها إن روزا أطيب من أن أخرّب لها دعة حياتها مع خطيبها، وتصمت.. أنظر صامتاً باتجاه القمر: ماذا فعلت لأستحق هذا.. أقول له. أنظر إلى نورا. أحاول طمأنتها بأنني سأكون بخير وأرجوها أن تكف عن التصرف كما لو أنها أمي. أحاول أن أغير الموضوع. أقول لها بهدوء وتكسّر إنني لم أسألها مرة كيف أحبت يوسف وتستدير لمواجهة عيني. تسألني عيناها إن كان عليها حقاً أن تجيب، ولا ترى عيناها غير شظاياي. تقول لي إنها القصة المعروفة.. فتاة متحمسة للكفاح القومي وتحرر المرأة، في مدينة صغيرة، تلتقي بأحد الذين تقرأ عنهم وتراهم في أحلامها: مثّل لي يوسف شخصية المناضل، المثقف، الفلسطيني الذي لا يساوم. إضافة إلى أن جمال رجولته سحرني. تقول وأفكر بيوسف. لم أستطع سوى الإعجاب به حتى اللحظة الأخيرة. لم أشك لحظة في أنه يعرف بأنني أحب زوجته، ومع هذا تصرف برجولة… أسمع صوته يوصي ابنه في التلفون أن يدع عمه هاني يعلّمه صيد السمك ريثما يأتي. أفكر أنه سينجح في استعادة نورا. تسألني نورا أين سرحت وأقول لها بيوسف. تقول لي إنها لم تسألني إذا كان من الصواب عودتها إليه بعد الذي فعله معها. أفكر بوالدي. قال لي: إنك لا تشك لحظة بأنني أحب أمك. أفكر فيه وأراه، يقف مواجهاً ماما بهراوته، كما صيادٍ قادمٍ من ظلام الأساطير… أفكر فيه وهو يتجه محني الظهر يجرّ هراوته باتجاه الصخور. أفكر فيه وهو يرفع هراوته ويحطمها بضربة واحدة على الصخور، ويخفي عينيه بيديه. أنظر في بحيرة عيني نورا. أحس بعذابها. أحس بالصخرة القاسية التي احتلت غصباً عنها قلبها. أحس أن الوقت قد حان لمواجهة كبريائها الجريح الذي لم يسمح لأحد حتى بمجرد مناقشة الأمر رغم حاجتها الشديدة لمن يضع يده لهدهدة الجرح. أحس بحاجتي إلى أن أسندها. أنظر في عينيها.. أقول لها: أنت تعلمين أننا نحن الرجال أطفال المرأة التي نعشق، وأنت تعلمين حتى لو كابرت وأردت أن لا تعلمي أن الطفل يزوغ أحياناً وربما لا لشيء سوى تجربة حريته فيخطئ. أقول لها إنني لا أريد أن أبرر ليوسف انزلاقه مرة لتجربة حضن امرأة أخرى، لكنني أعرف تماماً أن المرأة العظيمة تغفر لطفلها نزوته وهي تعلم تماماً أنه طفلها لا طفل غيرها. أقول لها إنني أعرف أن يوسف يحبّها، وإنه لم يكف لحظة عن محاولة استعادتها، وإنه يكفيه ألماً أنه يعرف أنك بجانب رجل أعلن مرة أنه سيتزوجك، ومع هذا تحمّل ألمه برجولة ولم يكف لحظة عن محاولة استعادتك. أقول لها إنني أعلم أنك تحبينه وهو يعلم ذلك، وأن الجرح الذي فتحه بروحك لا يعادله عقاب حتى لو كان بحجم القتل الذي تمارسينه فيه. لكنني أعلم حق العلم أنك تتألمين لما تفعلين، وأنك تكابرين حبّك حتى الموت. أقول لها إنني أعتقد وأريد لها أن تعيد طفلها الذي شاء له سوء حظه أن يضلّ لحظة عنها، وأنني أعتقد وأريد لها أن تعود هي إلى طفلها. أقول لها إنني أعتقد وأريد لها أن تعيد رجلها وطفلها إلى حضنها.
أنظر في عيني نورا وتنظر هي في عيني. أنظر في الصخرتين اللتين لم يعد باستطاعتهما احتمال ضغط الدمع الذي سيفجّرهما. أفتح يدي وصدري للعينين اللتين يبرق في عذابهما ندى الدمع. أفتح يدي وصدري للعينين اللتين ينجرح في عذابهما ندى الدمع ويسيل مدرارا على خدها. أفتح يدي وصدري للرأس الذي حطّ وهو يشهق من تفجر ما حمّل نفسه فيه على صدري. أفتح يدي وصدري لجنتي التي أردتها صافية هكذا كما هذا ا لبحر الذي يدخل عيني وأنا أضم جنتي ليسكنهما ولا يغادر.
تنفلت نورا هادئة من دفء صدري، وتخطو هادئة لتجلس مواجهة البحر وقمرها. هادئة. أنظر إليها. أنظر إلى جنتي هادئة ومستسلمة لحضن بحرها وقمرها. أنظر إلى جنتي التي بلون البرتقال. أنظر إلى جنتي مكتملة بحضن بحرها وقمرها. أنظر إلى جنتي التي تبتعد عني شيئاً فشيئاً وهي مكتملة بحضن بحرها وقمرها. أنظر إلى جنتي التي سأغادر.

لا مكان
ها أنا مرة أخرى بين السماء والأرض. مرة أخرى أحلّق في هاوية أفق مفتوح على عذاب تساؤلاتي. الشمس بدأت تميل للغروب. يا إلهي. هكذا أراها من نافذة الطائرة. غروب ساحر كالعادة لكنه مخيف. يا إلهي. لقد أصبح الأمر حقيقة. لم يعد لعبة وقوف أمام المتوسط لافتراض أنه الفرات، ولأخاطبه متكسراً  “أيها المتوسط في الروح”. ها أنا مرة أخرى بين السماء والأرض أمام أفق مفتوح على هاوية اللامكان…
أتفقد جواز سفري بجيبي قرب صدري لأشعر بالاطمئنان غير أن هذا بعيد. يا إلهي. أنظر إلى الأزرق الوحيد الداكن تحتي لأرى نقطة تسندني ولكن لا مكان. هاوية زرقاء فقط. فم مفتوح أزرق فقط لابتلاعي. فم مفتوح أزرق فقط وأحاول كسر غرقي فيه بالنظر إلى البرتقال المفتوح على يميني. أحدق بهذا الأفق الساحر. أسلم قياد نفسي لهذا الأفق الساحر والجذاب المفتوح. تتحرك الغيمات البرتقالية أمامي ببطء. أفقد وزن جسدي وأنسلخ عنه شيئاً فشيئاً عبر النافذة. أحلّق في المدى البرتقالي الطليق، وحيداً أحلّق في هاوية اللامكان…
تمر صورة حسان وهو يودعني: لقد سعدت بصداقتك. أقول له. تمر صورة عماد وهو يودعني: لم تدعني أعلمك تقنيات الإخراج على الكمبيوتر. يقول لي. تمر صورة روزا وهي تودّعني. تقول لي أنت الوحيد الذي أبكيتني، وأبتسم لها فتبتسم.
تمرّ صورة نورا. أغرق في بحيرة عينيها وهي تضمني فيهما بحنان. أسمع صوتها يطمئنني عنها عبر الهاتف. تقول إنها سعيدة الآن بعودتها إلى العائلة، وإنها ربما ستستقر مع يوسف في قبرص أو يعودان إلى سورية أو الأردن. توصيني أن أنتبه إلى نفسي وأقول لها ضاحكاً: حسناً يا أمي. أعتدل في مقعدي دامع العينين غارقاً في شلال صورها عارية القدمين على رمل الشاطئ، يترامى عند أصابع قدميها الموج، يقبّل قدميها الموج ولا يحتملُ، يذوب ويتلاشى. تضرب صدري بيديها دامعة العينين وضاحكةً. أمسك بيديها. تجلس مسترخيةً ناعسةً في حضن نبيذي. كم أحتاج إلى تقبيل نعاسك. تضحك بين يدي البحر على الطفل المقلوب بزورقه بين يديها. تخفي متمنعةً لمعةَ فضةِ قمرٍٍ ينسلّ ليسكن شفتيها، وأقول لها كدت أموت. تضحك دامعةً. تضرب صدري. ينجرح ندى الدمع وينساب على خديها. تتفلت من دفء يدي وأموت. تجلس هادئة، مستسلمة، كاملة بالقمر وبالبحر.
أعتدل في مقعدي دامع العينين. أحس أن ثمة من يراقبني. أنظر إلى الصف الذي على يساري وأصاب بالدهشة. أرى السائحة الفنلندية نفسها تنظر إلي. تبتسم محيية. أبتسم لها. أتذكر ضماني لوصولها سالمة. أضحك وتضحك. تطلب عيناها أن أضمن رحلتها مرة أخرى. أقول لها: حتى ستوكهولم، وتطلب أكثر. أنظر إليها وأفكّر. حسناً.. ما الذي سأخسر. أقول لها بهزة رأسي: نعم.. ستصلين سالمة حيث تريدين، وتضحك.

انتهت

خاص – صفحات سورية –
باذن خاص من الكاتب المثنى الشيخ عطية
للكتابة الى الكاتب مباشرة
mothannas@hotmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى