صفحات ثقافية

أرثر رامبو: الثائر الطفولي والأبدي

null
تحت عنوان «ثائر طفولي ومطلق»، نشر، أخيرا، ملحق الكتب لجريدة «لوموند» الفرنسية مقالة تناولت الطبعة الجديدة من سلسلة «لا بلياد» الشهيرة للأعمال الكاملة للشاعر الفرنسي أرثر رامبو، التي صدرت حديثاً في العاصمة الفرنسية، وقد أشرف عليها أندريه غويو وبالتعاون مع أوريليا سيرفوني. هنا إعداد وترجمة لهذه المقالة التي تضيء بعضاً من جوانب هذا الشاعر الذي لا يزال يثير الكثير من الأسئلة.
ويذكر أن الشاعر العراقي كاظم جهاد كان قد أصدر في وقت سابق من العام الماضي، ترجمة عربية رائعة لأعمال أرثر رامبو (عن «منشورات الجمل»)، كنّا تناولناها في حينها.
لم يستطع فرلين الالتقاء برامبو، في المرّة الأولى التي جاء بها إلى المحطة لاستقباله. لم يتعرف بعضهما على الآخر. كان صاحب قصيدة »الأغنية اللطيفة« قد أجاب ذاك الطالب اللامع المقيم في »شارلفيل«، الذي عبّر عن رغبته في المجيء إلى باريس ليلتقي به، بالقول: »تعالي، أيتها الروح الكبيرة العزيزة، إننا نناديك، إننا ننتظرك«. من هنا، استقبلت ماتيلد فيرلين (زوجة الشاعر بول فيرلين) مع والدتها، في منزلها الزوجي، ذاك الشخص الذي كان، مع »الأبسينت« (نوع من الشراب الكحولي)، وبحسب تعبيرها، السبب في شقاء زوجها وبالتالي السبب في شقائها هي نفسها. كانت حاملا. وقد وضعت مولودها بعد ذلك بعدة أسابيع. منذ اللحظة الأولى لاحظت ماتيلد جمال عينيّ (رامبو) الزرقاوين، شعره الأشعث، وسرواله القصير وشكله المعافى الأشبه بشكل الفلاحين. أما الخواء الذي جلبه هذا الظهور »المسموم« والملائكي فقد أصبح اليوم جزءا من تاريخ الأدب وقصته.
أفسح فرلين مكانا ومأوى لهذا الشاعر «المعجزة»، ومن ثم لصديق الشاعر الرسام لوي فوران. أطلق عليهما اسم »قطتي الصغيرة البيضاء« و»قطتي الصغيرة السمراء«. غادر (فرلين) زوجته وطفله. أصبحت حياته نوعا من التسلل والعودة والافتراق والابتزاز وحفلات السكر والحماسة بهذه المعرفة الجديدة والدعاوى العائلية، إذ تدخل الجميع في هذه القضية، وبخاصة أم رامبو ووالدة ماتيلد. ذهبت الأولى إلى لندن والثانية إلى بروكسل. أمام هذه المشكلات الناشئة أطلق فرلين النار على رامبو لتتطور القضية إلى طلب استرحام ودعاوى قضائية وسجن (فرلين) ومحاكمات. أصبحت القضية بمثابة فضيحة انتشرت ليتلقفها الجميع. من هنا ثمة سؤال طرح نفسه دوما: هل لكل ذلك علاقة بالأدب أم بالميلودراما والأساطير والحكايات الخرافية؟ سؤال لم يتوقف يوماً عن طرح نفسه حول رامبو. على الرغم من أن أدبه (شعره تحديدا) قد مارس تأثيره وسحره على الحساسية الشعرية لا في فرنسا فقط بل في العالم بأسره، وهو تأثير لا يستطيع أحد الاعتراض عليه، على الرغم من أن هذا الأدب بأسره يقع كله في كتاب يمكن لنا أن نضعه في جيبنا بسهولة مطلقة. بيد أنه يجب علينا التمييز في ذلك كله، بأن ثمة كلمات في هذه القضية مثلما هناك هذه الخلفية.
لقد شُيّد ضريح رامبو وهو لما يزل بعد على قيد الحياة، على الرغم من أنه »هرب« تحت سماوات أخرى، ليسكت عن الكتابة كما نعرف كلنا. لم ينشر بنفسه إلا »فصل في الجحيم« العام 1873. كان في التاسعة عشرة من عمره. أما شعره الباقي فقد تكفل فرلين بنشره منذ العام 1884، قبل أن يأتي آخرون للقيام بهذه المهمة. أما كتاب »إشراقات« فقد نُشر في المجلات بدءا من العام 1886. إلا أن أرتور رامبو كان خارج هذه »اللعبة« منذ زمن طويل.
الأسطورة
أي نظرة نستطيع أن نصوّبها اليوم على هذا العمل الذي يبدو عملاً شبه اختياري وغير اختياري (في الوقت عينه)، عملا شبه أصلي وشبه منقول، عملا جاء نصفه وهو حي ونصفه الباقي بعد مماته؟ تحاول الطبعة الجديدة من سلسلة »لابلياد«، وهي بإشراف أندريه غويو، أن تجيب عن هذا السؤال، بشكل قاطع: علينا أن نميز في هذا الأدب بين العمل المرغوب فيه والعمل الوثائقي بشكل من الأشكال. أي علينا أن نميز بين العمل الذي رغب فيه أرتور رامبو والذي نشره هو بنفسه (على شكل كتيب وحيد) وبين العمل الذي سلّمه لأصدقائه وإلى الشعراء الذين كان يكنّ لهم الإعجاب أو الذين شكلوا هذا المشروع. كما هناك العمل الأدبي الذي جعله يتعلق بهذه الأسطورة. وهو ليس عملا شعريا فقط، إذ هناك الرسائل العائلية والمهنية التي كتبها، والعائدة إلى القسم الثاني من حياته، ما بين انقطاع علاقته بفرلين وتاريخ موته في مارسيليا العام 1891. ومع ذلك فإنه يشكل جزءا أساسيا لأنه سمح له بتمتين هذه الأسطورة.
إن تقديم هذه الطبعة الجديدة من »لابلياد« اليوم، يسمح لنا إذاً، بوضوح وبعزم، من أن نميّز ـ إذا جاز القول ـ بين حقيقتين. الأولى هي حقيقة نسق شعري مقصود عبّر عن نفسه في الكتب المعروفة: »فصل في الجحيم« و»الإشراقات«، كما في عدد من قصائده ومن نثره التي لخص فيها أسس شعريته. أما الحقيقة الثانية فهي العائدة لهذه الحياة الصامتة. فالانحياز لها هي بالضبط حقيقة أدبية إذ تتيح لنا أن نُتابع تطور عملية إبداعه: قصائد مكتوبة تحت تأثير المدرسة، وهي قصائد مكتوبة بنجاح، إذ إنها أعادت تأويل أكاديمية هذا التلميذ العبقري. قصائد تلمع بصورها بإيقاعاتها، باشتعالاتها النحوية، حيث تتصادم فيها جماليات الترانيم والخطب الميتافيزيقية وحيث تتمازج فيها الهلوسات والشذرات الحكمية التي ستحفر لها مكانة في الذاكرة الشعرية الخاصة بكل القراء المعاصرين الذين سيطلعون على هذا الشعر في المستقبل.
حتى أن قصائده المبثوثة في رسائله أو التي يقترحها علينا في تنويعاتها المختلفة تتراءى لنا أيضا وهي تتموج بالحياة، إما من حيث هشاشتها وإما من حيث صلابتها كما من حيث ترددها وصياغتها الآنية أو النهائية. تقدم إلينا هذه القصائد، في هذه الطبعة الجديدة، في تتابعها الكرونولوجي، لتقع أمامنا وفق شكلين: الأول هو الجسد الطبيعي أي إن كانت تستعيد المخطوط الأصلي، والثاني، الجسد المختزل إن كان المخطوط غير موجود، أي إن كان لا يمكننا التحقق من أصالتها الشرعية، إذ كما نعرف فإن فرلين قد نسخها في غالب الأحيان.
الثائر المطلق
يتألف الجزء الثاني من سلسلة »لابلياد« من وثائق (ومنها قرارات دعوى محكمة بروكسل، إثر محاولة فرلين قتل رامبو العام 1873)، حيث يدخلنا ذلك إلى فضاء آخر، هو فضاء الصمت الشعري عند رامبو. لكن ثمة من حطم هذا الصمت إذ كانت هناك الكثير من الضجة ومن الأسئلة. لقد كتبت شقيقات رامبو وأمه. وبعد موت الشاعر كتب الكثيرون أيضا: زوجة فرلين، زوج إيزابيل رامبو وأخيرا كل الذين ـ بعد فرلين نفسه ـ حاولوا أن ينهوا رفع هذا التمثال.
«بدءا من رامبو، كل شاعر سيصبح فضيحة مقبولة من قبل النخبة المثقفة»، كما أكد بازوليني. كان على رامبو أن يحتل ويشير ـ عبر تمام صورته نفسها كما عبر تناغم حياته وأدبه وعملية التدمير الذاتي ـ إلى المكان العائد للشاعر، المكان المحدد، البعيد، وكما قال بازوليني أيضا »هذا الثائر الطفولي والمطلق«.
إن الذي كان يمدح نفسه بكون »أبدع كلمة شعرية سهلة البلوغ… وبكل ما تحمل الكلمة من معنى« نجح، بخاصة، في أن يموضع نسقاً من الصور والصيغ لا بد أن يخضع لها كل شاعر سيأتي في المستقبل. ليس فقط بسبب ألوان حروف العلة أو بسبب »الاستسهال في جميع الاتجاهات« و»الأنهر الهادئة الأعصاب« و»صحارى الحب«، ولكن أيضا بسبب آلاف الصيغ التي كانت رؤى للعالم والتي حددت لغة لا يستطيع بدونها أي شاعر بعده أن يكتب. من هنا يظهر أدبه وحياته بمثابة محيط لا بد لكل معلق جديد أن يبدو بمثابة خرائطي لا يستطيع الاستغناء عنه.
ترجمة/إسكندر حبش
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى