صفحات ثقافية

مراجعة فرنسية لروايتي علاء الاسواني وجبور الدويهي: من شوارع القاهرة إلى الجبل اللبناني

null
صونيا ديان – هرزبرون
ليس هناك تقليد قديم للرواية العربية. فغالباً ما كان الكتّاب الكبار الأوائل باللغة العربية الذين قرئوا وتُرجِموا في الغرب، يُقارَنون بالكتّاب الأوروبيين. قورن المصري نجيب محفوظ ببالزاك، واللبناني فارس الشدياق برابليه في المغامرة الكبرى “الساق على الساق” التي كتبها في أواخر القرن التاسع عشر. غير أن الإنتاج الأدبي الذي يصلنا الآن من هذه المنطقة في العالم ويتمكّن القراء الفرنكوفونيون من الاطلاع عليه بفضل العمل اللافت الذي تقوم به منشورات “Actes Sud”، هو ذو نوعية استثنائية ومثير جداً للاهتمام.
في بلدان ترزح غالباً تحت وطأة الأنظمة السلطوية أو تهديد العنف السياسي، تحوّلت الرواية وسيلة مفضّلة للتعبير عن المعيوش والقلق والمحظور. في هذه اللعبة المحفوفة دائماً بالمخاطر، بين الرقابة والحريات نصف المكتسبة، تجد الروايات مكانها. يُكتَب معظمها أو يُنشَر في لبنان، إنما أيضاً في مصر، والسبب ببساطة هو أن ظروف النشر أكثر مؤاتاة في هذين البلدين، والرقابة أخف وطأة بقليل.
يستهل علاء الأسواني(•) مجموعته القصصية بقصة حقيقية أو خيالية عن الرقابة. فيروي كل العوائق التي وضعتها الهيئة المصرية العامة للكتاب أمام نشر الرواية الأولى التي يفتتح بها كتابه. وعندما تسلّح لاحقاً بنجاح روايته “عمارة يعقوبيان” وقصد ناشراً كبيراً حاملاً إليه المخطوطة نفسها بعدما أضاف إليها تسع روايات جديدة، جوبه بالرفض مرة أخرى انطلاقاً من اتهامه بأنه يكره بلاده وبأنه مندهش بالغرب. يبعث هذا لدينا شعوراً بالاطمئنان في المبدأ. ليست “أنا” الراوي هي نفسها “أنا” الكاتب. غير أن الأوضاع المتنوّعة التي يتم التطرق إليها في هذه الروايات تصل إلى حد الانحدار نحو الجنون أو المأساة اليومية نظراً إلى جرعة الغرابة التي تنطوي عليها. “نيران صديقة”، وهو عنوان الكتاب باللغة العربية، هي النيران التي يطلقها الجيش على جنوده.
نحن هنا أمام وصف مجزّأ لمجتمع يمارس التدمير الذاتي. البيروقراطية هي بلا شك غبية ومضرة. وملعب المدرسة أو قاعة الرياضة هي فرصة للتعرّف على السادية العادية والصغيرة التي يقع ضحيتها الأكثر ضعفاً والذين يعانون من إعاقة ما أو من البدانة. ولا تُستغَل مواهب الشبان الذين لا يملكون ثروات أو معارف. ولا سلام في العائلات التي تحكمها أمهات مخيفات. ولا ملاذ في الدين أو الحب أو السياسة. كما أن وجوب التقيّد، في الظاهر على الأقل، بمعايير صارمة، يزيد المسافة أكثر فأكثر مع واقع لا نعود نعرف ما هو في نهاية المطاف. ويعزّز اختيار الأقصوصة أسلوب كتابة، الشعور بالانفجار الباطني. في هذا الانهيار للمعنى، يبدو أن لا شيء يصمد سوى القدرة التي يملكها هذا المجتمع على الظهور في صورة كاريكاتورية، والتي تتجلّى بقوة شديدة في هذا الكتاب.
تتشاطر الروايتان السابقتان لعلاء أسواني قاسماً مشتركاً هو وحدة المكان، فالأولى تتمحور حول مبنى هو عمارة يعقوبيان، والثانية حول مدينة هي شيكاغو، وأطباء مصريين يزاولون مهنتهم في مستشفى جامعي في تلك المدينة. وحدة المكان نفسه تميّز رواية اللبناني جبور الدويهي “عين وردة” أو Rose Fountain Motel في الترجمة الفرنسية، والتي نُشِرت بالعربية في السنة نفسها التي صدرت فيها “عمارة يعقوبيان”. لا ننخدعن، فالمنزل الفسيح الرابض في أعالي بيروت الذي يتحوّل أنقاضاً شيئاً فشيئاً والذي يظنّه المسافرون الذين يرونه من نافذة سيارتهم فندقاً عندما يصعدون في الجبل، هو في الواقع منزل عائلة مسيحية كبيرة في المنطقة هي آل باز. التداعي التدريجي للمنزل ثم هجره النهائي هما أيضاً قصة هذه العائلة. المنزل هو رمز للبنان المزدهر في حقبة الانتداب الفرنسي ثم في سنوات الاستقلال الأولى، لكنه يضمحل شيئاً فشيئاً فيصبح غريباً عن عالم لا يفهمه ولم يعد مصنوعاً له. والمنزل المنعزل عن بيروت منعزل أيضاً عن الأحداث السياسية. فهو يعيش الحرب الأهلية في شكل خاص وكأنها مشهد، مقلق بعض الشيء بالتأكيد، ومسبّب للكرَب أحياناً، حيث تتعاطف الشخصيات، بفتور كبير، مع القوات اللبنانية من دون أن يشارك أي منها في الحرب. نحن إذاً بعيدون جداً عن هاجس الحرب الذي تنطبع به مثلاً روايات الياس خوري الجميلة جداً أو أيضاً “حكاية زهرة” لحنان الشيخ.
لكن “عين وردة” ليست حكاية عائلية عادية. والسبب الأول هو أن أحداث الرواية لا تدور أبداً بالتسلسل الزمني. تُبرِز لوحات مجزّأة الشخصيات المختلفة أي أفراد العائلة التي تشغل المنزل وعائلة أخرى، آل مانع، المعروفين بـ”العرب” أي البدو، التي يعيش جزء صغير منها في القبو بينما يخيّم أفراد العائلة الواسعة من حين لآخر في الحديقة. يتحوّل هذا التعايش المضحك في البداية، قصة درامية. غير أن المحطات الأولى لهذه الرواية التي تمتد لعقود ويرويها الكاتب من دون أي تسلسل زمني، تذكّر ربما بـ”joyeuse apocalypse”، بحسب الاستعارة التي كانت تُستعمَل لوصف فيينا قبل الحرب العالمية الأولى. وفضلاً عن ذلك، إحدى شخصيات الرواية، مارغريت، زوجة يوسف المعروف بجوجو الباز، نمسوية. وهي تجابه من دون أن تنجح النساء القويات في أسرة زوجها، ويبدو جلياً أنها لا تفهم شيئاً مما يدور حولها. كما أن كلاً من أبطال الرواية يبدو غريباً عما يجري، وكأنه عاجز عن التحكّم بمصيره. الوسيلة الوحيدة هي الهروب. نرى شيئاً فشيئاً أفراد العائلة يهجرون المنزل، كي يمضي المتقدمون في السن بينهم ما تبقى من حياتهم في منزل التقاعد، بينما يذهب الآخرون لعيش “حياة طبيعية” في شقة في بيروت. ويتواصل الجنون، إنما هذه المرة مع الفرد الأخير في العائلة، رضا، الذي يحبس نفسه في غرفة خلف بوابة مصفّحة بعد خسارة الفتاة التي كان يحبها وإصابته بمرض في الجلد، ولا يعود يهتم سوى بالشطرنج التي يلعبها على شاشة الكمبيوتر. وعندما تتحدّاه الحياة والرغبة مرة أخيرة، لا يجيد التعاطي معهما إلا من طريق العنف والعته.
يختلف كتابا علاء الأسواني وجبور الدويهي في أسلوب الكتابة وفي الأماكن والشخصيات، لكنهما يتشاطران على الأرجح قاسماً مشتركاً وهو أنهما يجعلاننا نتحسّس شيئاً من هذا الجنون الذي نعتقد أحياناً أنه يخيّم فوق هذه البلدان التي ينهكها الاستعمار والحروب والتعسّف السياسي. يتجسّد هذا الجنون في شخصيات نراها تعيش من دون أن نتماهى معها على الإطلاق. وهكذا تكتسب هذه الروايات المختلفة بعداً مطهِّراً للنفس يذهب أبعد بكثير من مجرد الوصف البسيط للمصائر الفردية أو وصف المجتمع.
“لو موند”

(•) علاء الأسواني –
J’aurais Voulu Être Égyptien –
ترجمه غيل غوثييه عن العربية وعنوانه الأصلي “نيران صديقة”
منشورات “Actes Sud”، 200 ص.
(••) جبور الدويهي –
Rose Fountain Motel –
ترجمه إيمانويل فالي عن العربية وعنوانه الأصلي “عين وردة”
منشورات “Actes Sud “، 330 ص.
( كاتبة وأستاذة في جامعة باريس 7)
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى