حسين العوداتصفحات العالم

الديمقراطية التوافقية

حسين العودات
ظهر على السطح قبل أيام خلاف كبير في العراق بين جلال الطالباني رئيس جمهورية العراق ومعه نائبه طارق الهاشمي من جهة، ونوري المالكي رئيس الوزراء من جهة ثانية، حول ما سمي (بالديمقراطية التوافقية) التي ينادي بها الأولان ويرفضها الثاني، مطالباً بأن تحل محلها الديموقراطية (السياسية) أو الديمقراطية (العددية) ويخوض كل من المسؤولين العراقيين معركة يهدف من ورائها كسب الأنصار لوجهة نظره، ورسم الديمقراطية العراقية بما فيها شكل الحكم ومضمونه وآليات عمله وتحالفاته في ضوئها.
وفي لبنان، بدأ الخلاف منذ أكثر من عام حول حكومة ما بعد الانتخابات التي ستجرى في السابع من يونيو المقبل. هل ستكون حكومة توافقية (أي تعمل بالديمقراطية التوافقية) تتشارك فيها جميع أو معظم الكتل السياسية اللبنانية، وبالتالي لن تكون هناك موالاة أو معارضة.
وبدلاً عن ذلك تعطي للأقلية البرلمانية المشارِكة في الحكومة ضمانة أن لا تصدر بعض القرارات عنها إلا بأكثرية الثلثين، وباعتبار أن المعارضة تحتل ثلث مقاعد الحكومة على الأقل، فإنه يتعذر صدور أي قرار إلا بموافقتها، وهذا ما سمته الأكثرية اللبنانية (الثلث المعطل) وسمته المعارضة (الثلث الضامن) وبدا من تجربة المرحلة السابقة فشل هذه التجربة وخطورتها، باعتبارها حسب رأي الأكثرية، تعطل مسيرة الحكومة وتفقدها فعاليتها.
تعني الديمقراطية التوافقية سياسياً أن تشارك الكتل النيابية جميعها في الحكومة والمناصب السياسة العليا والوظائف الكبرى، وتؤخذ القرارات داخل الحكومة أو في المجالس التشريعية أو ما يشبهها بالتوافق لا بالتصويت، وبالتالي ـ وحسب رأي أنصار هذه الديمقراطية ـ تكون الحكومة والمؤسسات العليا التشريعية والتنفيذية مشاركة بين الجميع وكأنها نتاج وحدة وطنية.
في حال العراق حيث تطبق الآن (الديمقراطية التوافقية) تشارك الكتل النيابية جميعها تقريباً في الحكومة (إلا التي رفضت لأسبابها الخاصة ولا تشكل معارضة في هذه الحالة) وقد تم تقاسم المناصب السياسية والسيادية العليا (رئاسة الجمهورية ونواب الرئيس، رئاسة الوزارة ونواب الرئيس، رئاسة المجلس التشريعي ونواب الرئيس) بين هذه الكتل، وتتخذ القرارات بالتشاور، وقد ألغي التصويت تقريباً فيما يتعلق بالقرارات السياسية ذات العلاقة ببنية الدولة أو مستقبل البلاد أو نظامها السياسي واستعيض عنه بهذا التشاور ثم التوافق سواء في الحكومة أم في مجلس النواب.
وفي حال لبنان لا يختلف الأمر عما هو في العراق باستثناء بعض الخصوصيات اللبنانية، فهناك ثوابت لبنانية قائمة منذ الاستقلال تم بموجبها توزيع المناصب السياسية والوظائف العليا في الدولة توزيعاً طائفياً، والذي زاد الآن عما كان معمولاً به، هو إضافة توزيع سياسي جديد لوزارات الحكومة إضافة للتوزيع الطائفي، فأعطي الثلث (للمعارضة) حيث أعطيت من خلاله الحق بتعطيل بعض القرارات، وبقي التوزيع الطائفي قائماً. وسمي هذا (بالديمقراطية التوافقية).
تعني الديمقراطية التوافقية في حال العراق تكريس الأخذ بمبدأ المحاصصة والتوزيع الطائفي لخيرات الدولة ومناصبها ووظائفها، وعدم الأخذ بمبدأ الأكثرية والأقلية، وإحلال التشاور محل التصويت، واستطراداً إبقاء انتخاب ممثلي الشعب حسب طوائفهم لا حسب مواقفهم السياسية أو برامجهم، مما يؤدي إلى إهمال المواقف السياسية، وتحول الأحزاب السياسية إلى أحزاب طائفية، وإحلال التنافس الطائفي أو الإقليمي أو الإثني بدلاً عن التنافس السياسي، أي تقسيم المجتمع تقسيماً عمودياً لا سمة سياسية أو طبقية أو اجتماعية له، بل تغشاه وتهيمن عليه العلاقات الطائفية، (انصر ابن طائفتك حتى لو كان فاسداً أو غير كفء) وبالتالي إلغاء معايير الدولة الحديثة ومفاهيمها (كالحرية والمساواة وتكافؤ الفرص والتعددية وتداول السلطة) إلغاءً كلياً.
والأمر نفسه في لبنان فإضافة للمحاصصة الطائفية التي استطاع النظام اللبناني في بعض الأحيان الالتفاف عليها، وممارسة الديمقراطية بمعناها السياسي (الديمقراطية العددية)، إضافة لهذا ينبغي الآن حسب هذه الديمقراطية، إجراء توزيع سياسي للتوزيع الطائفي، وتقسيم المقسم، وتعطيل المعطل، والتمسك بالثلث (الضامن أو المعطل) والاستمرار بمهزلة تسمية المعارضة (معارضة) وهي تشارك في الحكومة، ولا يتخذ قرار إلا بموافقتها.
سواء كانت هذه التسمية (أو الممارسة) أعني الديموقراطية التوافقية، اختراعاً عربياً صرفاً أم معمولاً به في بعض دول العالم، فإنها تبقى أمرا شاذا وغير ديمقراطي بأي مقياس، لأنها تصادر الديمقراطية الحقيقية، سواء من خلال المناخ الذي تفرضه قبل الانتخابات وقبل تشكيل الحكومة أم في أساليب الانتخاب أم في التحالفات التي تقام بعد ذلك، أم أخيراً في لي عنق الديمقراطية بما يسمى (التوافق) وتضييع المسؤولية وإلغاء الخيار السياسي، والالتزام الاجتماعي بل والأيديولوجي وتناسي أسلوب الأقلية والأكثرية.
لكن الديمقراطية (العددية) قد تكون أكثر سوءاً في بلادنا من الديمقراطية التوافقية، ذلك لأن ضعف الوعي السياسي، وتداخل الوضع الطبقي والاجتماعي، وانعدام تراكم التقاليد الديمقراطية، وعدم الأخذ بمرجعية المواطنة كمرجعية وحيدة، وإضافة مرجعيات أخرى إليها إثنية أو طائفية أو إقليمية أو غيرها، جعل إمكانية ممارسة الديمقراطية العددية تواجه صعوبات جمة، لدى الحاكمين والمحكومين.
وعلى ذلك فمن الممكن جداً أن تتحول هذه الديمقراطية، وتحت شعار الأكثرية والأقلية إلى حكم شمولي غاشم مستبد، لأن نقاء هذه الديمقراطية يقتضي توفير ظروف وشروط أخرى، إذا تحققت يكون أسلوبها هو الأفضل، وإلا سيتحول النظام السياسي برمته إلى نظام مستبد يختبئ تحت خيمة الديمقراطية، ولعل هذا ما يخشاه الطالباني والسّنة في العراق (والمعارضة) الحالية في لبنان.
تبقى المفارقة قائمة في أن الديمقراطيين العرب يخشون تطبيق الديمقراطية السياسية التي يناضلون من أجلها ويتهيبون نتائجها المرة المحتملة، بعد أن تحول الشعب إلى طوائف متناحرة، مازالت تختلف على مرجعية وطنية موحدة، مما يستحيل معه تهيئة المناخ الصحي لقيام ديمقراطية سياسية صحيحة وطبيعية.
البيان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى