صفحات العالمموفق نيربية

انتخابات الكويت… عن بُعد

موفق نيربية
تبدو انتخابات الكويت، بحدوثها ونجاحها ونتائجها، نقطة مضيئة معقولة في أوضاعٍ قاتمة وغير معقولةٍ في المنطقة العربية. الكويتيون يستحقون التحية والامتنان على هذا.
هنالك جلسات حوار عقيمة بين الفلسطينيين في القاهرة، آخر همومها وأول ضحاياها القضية الفلسطينية. في سياقها، اتهمت «حماس» محمود عباس بأنه شكّل حكومة «غير وطنية»، لأنها لا تعبّر عن النسيج الوطني، كأن هذا هو مفهوم «حماس» للمسألة!
وهنالك «مجاهدون» في الصومال، بعد القراصنة، يعملون باندفاع على قيادة بلدهم وشعبهم إلى الجحيم، بعد أن لم يشفع للحكومة هنالك حتى ما سمّي بتطبيق الشريعة الإسلامية. كما أن هنالك بلداً عربياً هو السند والعماد، يجعل من مأساة وفاة طفلٍ من بين الملايين حدثاً كبيراً وشبه رسمي، لأنه حفيد الرئيس أو الرئيس ما بعد القادم، الأمر الذي ينذر بانحدارات إضافية قادمة.
لكن الكويت ترسل برقية أمل لنا، فانتخاباتها انتخابات أولاً، وتلك مأثرة في ركام من الزيف، مع التقدير لانتخابات متفاوتة الحرية في بلاد عربية عددها أقل من أصابع اليد الواحدة.
وضعنا أيدينا على قلوبنا وَجَفاً قبل الانتخابات، كما في أكثر من مرة سابقة، حين طفت على السطح أخبار القبائل والانتخابات الفرعية لاختيار مرشحين موحدين يخوضون المعركة الانتخابية، ويضمنون نجاحهم غالباً من خلال التزام القبيلة بنتيجة «الفرعيات»، التي لم ينفع منعها قانوناً، وليس سهلاً أن ينفع.
الانتخابات المعاصرة تستند إلى مفاهيم الديمقراطية والمواطنة وسيادة القانون، ويتعارض فيها مفهوم الفرد الحر مع عصبية الجماعة المغلقة المسبقة. لكن المراحل الانتقالية تسمح أحياناً بظهور ظاهرة فاتت العصر أو فاتها- كما حدث في العراق وتحوّل لاحقاً إلى عاملٍ سلبي- أمام خطر عصبية أحدث في التاريخ والمضمون، لكنها أخطر بكثير حين يقودها التطرف. ولا ندري إن كانت عوامل عدم الاستقرار المحدودة التي ظهرت وتكررت في الكويت كافية لتبرير إصرار القبلية على التقدم إلى أمام، أم أن الأمر مجرد إحساس بالحق في نصيبٍ من السلطة والقرار.
القبلية مفهوم معروف عالمياً وتاريخياً، يتعامل معه كثير من علماء الأنثروبولوجيا وتاريخ الأعراق والمجتمعات برفق وحنان، خصوصاً بسبب ظاهرة المساواة النسبية بين أبناء القبيلة الواحدة، خارج الفروق في الملكية والامتيازات. وأيضاً بسبب الطاقة التكافلية والغيرية والقدرة على نيل الحق أو حماية الجماعة، ولو بالعنف المحدود. وفي عالمٍ يعمّه التهديد، يرى أفراد القبيلة فيها درعاً واقياً طبيعياً لا تشوبه الشوائب. وضع أحد الباحثين تصنيفاً تاريخياً للمجتمعات البشرية على أساس تطور مفهوم المساواة، فجاءت أولاً جماعة الصيادين وجامعي الثمار التي تسودها المساواة الصافية، وبعدها مجتمع القبيلة بفوارقه المحدودة، ثم النسق القبلي الأوسع مع زعامة مُفوَّضة، إلى الحضارة المعقدة الانتماء وتنظيم السلطة. والمجتمعات الحديثة لا تخلو من القبائل أحياناً وبأحجام وتأثيرات متفاوتة، لكن بمقدار أقل بكثير من المساواة مما كانت عليه في السابق، مع مفعول الثقافة والتداخل مع الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية العامة، أو الانحلال في «الأمة».
فإضافة إلى الإحساس بخطر التشكيلات الاجتماعية السياسية الزاحفة، هنالك الإحساس بنقص الحصة من الغنيمة، لا تقتنع القبيلة بإمكانية الوصول إليها في المجتمع المعني أو في إطار الدولة، فتعيد لعصبيتها بعضاً من مجدها، بما يكفي للدفاع عن النفس أو انتزاع ما تراه حقها المشروع. ولن تقصّر في جهدها لتحويل هذه العصبية عندئذٍ إلى «إيديولوجيا»، تقول فيها إنها تمارس «الديمقراطية» و«حرية الرأي والتعبير»، وأنها مثلها مثل أيّ جماعة سياسية تعتمد على عصبية مذهبية أو اقتصادية أو فكرية. وقد يكون خاطئاً في العمق، لكنه لا يخلو من بعض المنطق.
مفهوم الدولة الحديثة يستطيع وقف تمدد القوى التي تختزن العصبية بأشكالها القديمة، وتختزن العنف الكامن أيضاً. هذا المفهوم يقوم أولاً على قوة الدولة، الموكل إليها وحدها ممارسة العنف لحماية مواطنيها وفرض سيادة القانون والدستور الذي يحدد المواطنة بحقوق وواجبات ضمن علاقة الفرد بالدولة؛ ثم بوطنية الدولة، التي هي «دولة-أمة» لجميع مواطنيها ولمجتمعها المدني، وبكونها نسيجاً متماسكاً ومتجانساً وليس مجموعة من «الرقع» المختلفة الخيوط، لا تصمد أمام أيّ شَدٍّ أو شدة.
ليس هذا انتقاصاً من التجربة الكويتية بأيّ شكل من الأشكال، فأنا مواطن سوري، أشعر بالغبطة لما استطاعه الكويتيون في انتخاباتهم، وما حققوه بانتخاب نساء رائدات من غير تعيين ولا «كوتا»، ومن نسبة الكفاءات المتقدمة بين النواب، وعزمهم على تحسين إدارة الوقت خارج التأزيم المجاني أحياناً… فلعلّها تكون خطوة لاستعادة إيقاع التقدّم، لا يُستَغرب فيها ارتفاع عدد الذين لم يقترعوا… ربّما بعد أن سئموا التطرّف والأزمات.

* كاتب سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى