صفحات مختارة

جمهوريات الخوف

فالح عبد الجبار
تبدو المنطقة العربية (وجوارها) أقرب اليوم الى صورة اميركا اللاتينية، او صورة اوروبا الوسطى خلال عقد الثمانينات من القرن الماضي: حركات قاعدية، تفاعل متسلسل، تفكك سريع للنظم الواحدية، عقائدية، ام عسكرية، وانفتاح النظام السياسي الاوتوقراطي بإصلاحات او بثورات. تعتمد هذه المشابهة على وجود قرابة بنيوية، رغم الاختلافات.
اول معلم بنيوي ذلك الثراء الفاحش الذي اصابته النخبة الحاكمة، بنهب الأمة، بأقساط صغيرة ايام «القطاع العام» ثم النهب المنفلت باسم الانفتاح، اي الليبرالية الاقتصادية الزائفة. الليبرالية الاقتصادية الأصلية تفترض، بمنطوقها، فصل الاقتصاد عن السياسة، الثروة عن السلطة. ما حصل ان النخبة الحاكمة باعت القطاع العام لنفسها بنفسها، وأنشأت ديكتاتورية جديدة باسم ليبرالية مزيفة هي شراكة الحاكم والبزنس. وبينما كانت ارقام البنك الدولي تحتفي بـ «النمو»، كان الاوتوقراطي وأسرته ومحاسيبه يتحولون الى اساطين. وتقدر ثروة حسني مبارك، الشريك هو واسرته في كل مشروع اقتصادي، بنحو 70 بليون دولار. اما ثروة بن علي فلا تقل عن 30.
بلغ النهب مديات لم يعد يكفيه الوصف بأنه «رأسمالية قرابية» او «رأسمالية الحاشية» الوحشية بكل المعايير، بل صار، بحسب عبارة غسان سلامة، «فجوراً» بلا نظير.
المعلم البنيوي الثاني، هو هذا النمو الهائل لمجتمع حضري فائق التمدين. ما تجاوز التمدين عتبة الـ 65 في المئة، فإن بروز عدد من المدن المليونية، قضى على تركيز السياسة والاحتجاج في العاصمة وحدها، حيث كانت حفنة جنود في الخمسينات والستينات من القرن المنصرم تكفي للاستيلاء على الدولة، فالأمة بالتبعية. ضخامة التمدين، تعني كثافة التفاعل، وبات يكفي صورة ندى الايرانية القتيلة او احتراق جثة بوعزيزي احتجاجاً، او صورة موت خالد سعيد تعذيباً لهز شرعية نظام كامل.
ادوات التفاعل تتجاوز القدرات القمعية للدولة واليوم يتواصل المجتمع بالموبايل و«الفايسبوك» و«التويتر»على شبكة الانترنت الكونية. عجز سوهارتو عن ضبطها فسقط. وقامت دولة مبارك بغلق شبكة الانترنت لأيام فتراجعت.
تتدفق المعلومات والافكار عبر الستالايت، مخترقة جدران العزلة السرمدية التي تحرص الديكتاتوريات الجديدة، شأن القديمة، على تمتينها، الدولة تحاول التحكم بدفق المعلومات، ولغة الاتصال لفرض احتكار هزلي، على عالم اتصال الكتروني بلا حدود.
المعلم الرابع، ان حركات الاحتجاج الجديدة تنطلق من جيل لا من الاحزاب الكلاسيكية، سواء كان طابعها الطاغي علماني – مدني (تونس)، او كانت ذات مسحة اسلامية (الاخوان المسلمون – مصر). فالحركة لم تنبع من هذا المجال السياسي، بل من فضاء مجتمعي جديد: جيل الانترنت. هذا الجيل ليس مصاباً بلوثة ايديولوجيات وعقائد الماضي، وبخاصة الإسلامي منها. وهو لا يقيم رابطة بين الامتثال لدولة عاتية و«المصالح الوطنية العليا» ولا يرى سبباً يوجب ان تكون العبودية للدولة شرطاً لتحقق هذه المصالح، بل يرى خضوع الدولة للمساءلة شرطاً لهذا التحقق.
الجيل الجديد مترع بقيم المساواة، والحرية، وحق المعلومات، وحق المساءلة. الطابع اللاإيديولوجي للحركات القاعدية الجديدة لا يزال قيد التشكل، ومن شأنه ان ينضج، على رغم مساعي القرصنة التي يبذلها الايديولوجيون العجائز.
بالمعطيات الكمية، يشكل الشباب الذين هم دون سن الثلاثين ما بين 57 و67 في المئة من السكان (65 في المئة في تونس، 60 في مصر، 67 في سورية والاردن، 63 في العراق، 57 في اليمن، الخ)، وهم اعمدة الحكمة السبعة للحركات الجديدة من ايران الى تونس، ومن مصر الى جوارها. ويكتوي هذا الجيل بأكثر من نار: عواقب التوزيع المتفاوت للثروة (قل النهب)، انغلاق فرص الحياة، انسداد قنوات حرية المــعلومات، وانغلاق النظام السياسي بجمهورية وراثية، ام من دونهــا، وبنــظام «مدني» ام اكلــيروسي. فلا اثر في الخطاب الشبابي للدين، ولا اثر فيه لـ«الامبربالية» و«الصهيونية»، فهو مترع بالحق الاول: حق الحياة، حق الضمير، ولهذا الجيل ذاكرة جديدة لا صلة كبيرة لها بالصراع العربي – الاسرائيلي، الذي كان (ولا يزال في بعض البلدان) واجهة لتمتين الاوتوقراطية باسم المصلحة القومية.
رضخ جيلان او اكثر للاوتوقراطية عن طيب خاطر امام الأخطار الخارجية، من دون ان يتوقف لحظة ليتساءل: لماذا تكون عبودية الأمة شرطا للتحرير؟
خفوت هذا البعد في تونس ومصر، دفع الاوتوقراطية الحاكمة الى الاستنجاد بلغة «الشرعية الدستورية» ولغة التسامح الاخلاقي («عيب نبهدل الريّس»)، وهي لغة فارغة لنظام يعرف الجميع ان فوز الرؤوساء يصنّع تصنيعاً.
المعلم الآخر (وليس الأخير) ان عالم الحرب الباردة الذي انتعشت الديكتاتوريات في اجوائه المشحونة بالريبة والصراع، لم يعد قائماً. ومحاولات استبدال الخطر الاسلامي بالخطر الشيوعي غابت في تونس، وفشلت في مصر. لعل حرب الرئيس الاميركي السابق بوش «على الارهاب» أمدت الديكتاتوريات بنسغ جديد، لكنه يوشك على الجفاف.
لقد انطلق المجتمع الحضري، الجديد، من عقاله اول ما انطلق في ايران عام 1978-1979 ولم يشهد العالم العربي منذئذ، سوى حركات احتجاج عرفت بثورات الخبز في مصر اواخر السبعينات، وفي تونس والمغرب في الثمانينات، وفي الجزائر والاردن اوائل التسعينات، من دون كبير حظ بالنجاح.
وفي القرن الجديد دشنت ايران بدايات حركة احتجاج جديدة في 2009، لتطلق شرارة اخرى. ولا بدّ لظفر الحركات العربية الرديفة من ان ترسل موجاتها المحفزة عائدة الى المنشأ.
اغلب جمهوريات الخوف اليوم في رعب حقيقي. الرئيس اليمني سارع الى الاعلان عن عدم التجديد والتوريث. والاردن قام بانقلاب وزاري صامت. ورئيس الوزراء العراقي سارع الى الصوم عن الترشح لرئاسة وزارية ثالثة. ثمة اثنان فقط ماكثان في الكهف. الرئيس السوداني، والمرشد الايراني.
الاول، الذي ضيّع نصف بلاده بالارهاب، عازم على انشاء «حكم اسلامي»، حالماً بمواصلة اكثر حقيقتين مرفوضتين: الحكم العسكري وحكم الاكليروس.
اما الثاني، الحالم بإمبراطورية اسلامية، فغير مدرك ان حركات الاحتجاج الجديدة نبعت من شروط مشابهة للاحتجاج على احوال ايران واهوالها عام 2009، وان الكثير مما يجري في العالم العربي إن هو الا صدى لحركة الاحتجاج من جارهم.
اخيراً، نجح الايرانيون عام 1979 بتحييد الجيش، اما التونسيون والمصريون فقد كسبوه.
اخيراً: هذه ظاهرة اقليمية لا محلية، مرشحة للانتشار على دفعات، وصولاً الى مبتغاها.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى