منهل السراج

الحلقة الأولى من رواية “كما ينبغي لنهر “

null
منهل السراج

لا تسألوا متى يعود..
إلى أخويّ : مصطفى ومخلص

النص الفائز بالجائزة الثالثة/ الرواية
جائزة الشارقة للإبداع العربي
الدورة السادسة
2002

رفعت فطمة غطاء الصندوق الخشبي وأسندته إلى الجدار الشرقي. جلست “ركبة ونصف” على حصيرة صغيرة موجودة، منذ دهر، بجانب الصندوق. تطاولت بعنقها كي تحتوي قلب صندوقها ببصرها الفضولي. عبثت بأصابع نحيلة بين أشياء مختلفة وكثيرة. أبعدت شمعة ذائبة، أزاحت مقص أبيها، هوّيته، سبحة الجدة وغطاء رأسها، جلبابها، مفتاح السطح، مفتاح قبوالقبو، علبة هدية فارغة، أغلفة رسائل ممزقة أطرافها، مخباط الغسيل ، صورة للميا المجنونة. طوت ورقة تقويم وأخرجت كيساً ورقياً تنبعث منه رائحة عتيقة، ألصقته بصدرها واستندت بظهرها إلى الصندوق الخشبي.
“غداً تعود فطمة طفلة تحمل الخبز والجبن في الصرة البيضاء المزهرة باللون الأسود. تقطع الجسر الصغير بين الضفتين حتى تصل إلى البرية. تختبئ بين الشق الشقيق  مستنشقة رائحته غير العطرية، وتركض بين سنابل أرض صاحب الفرن القريب. تقطع رغيف الخبز لقيمات، وفوق كل قطعة خبز قطعة جبن (عشا مشى) ومع كل لقمة قضمة من الخيار الطازج. تعود إلى البيت مع بنات عمها اللواتي ينصرفن لعرايسهن القماشية المحشوة ببقايا الثياب البالية، وهي تمضي إلى كيس القنب حيث قصص ألف ليلة وليلة. تختار كتب التاريخ، كما شاء أبوها، تعدّ القهوة له مثلما كان يحب، تشعل المدفأة على طريقته، ترتب أشياءها في الخزانة، القبقاب أمام الحمّام، الصلاة في غرفة الصلاة وعلى السجادة التي لا تطؤها إلا الأقدام الطاهرة. سوف تشرب حليب عنزة نمشة البدوية، بعد غليه في السطل النحاسي، كما كان يفعل، وسوف تجلس على مصطبة الدرج، حيث كان أبوها يلبس حذاءه النظيف، منتظرة الفرنك الذي يناولها من الجيب الصغير لبنطاله. تنزع ورقة التقويم بهدوء آخذة بحكمة اليوم بلا تذمر. متجاهلة قضية أرامل الحارة، مزغردة لزواج فتيات في الثالثة عشرة من عمرهن، ناسية أحداث أبو شامة ورجاله”.
أحداث عديدة، أخبار كثيرة وقعت في هذا الصندوق، وحوله. فيه فضح العم عبد الحكيم أخاه  جميل. كان يحلو لجميل ممارسة سره في الصندوق، وهو ابن ثلاثة عشرة منتشياً ببلوغه وباكتشافه لذة جسده. بين حنايا الصندوق وضعت الجدة، بقجة كفنها، وربما عمامة ابنها نذير حين كان أبو شامة يبحث عنه بهستيريا. فيه أخفت فطمة صورها مع رفيق الدرج.
الصندوق مطعّم بصفائح نحاسية وسجادة مزركشة بألوان النهر والضفتين، أخضر، بني، أحمر ترابي، عسلي، تصاعدت بين هذه الألوان خطوط خضراء كالسنابل.
تلمّست الكيس الورقي الذي يحتوي صور العائلة، قديمها بالأبيض والأسود، وحديثها بالألوان الشاحبة. مثل كل مرة، فتحته بوجل، فبرزت زاوية إحدى الصور، أثارت لديها فضولاً: من صاحب هذا السالف والشعر السميك؟. أحد أولاد عمها المفقودين واقفاً تحت شجرة ليمون مرتدياً ثياباً جديدة: مؤكد أنه ظهر يوم عيد. كانت أم الحب جالسة على دفة خشبية، أمامها أسياخ الشواء الكثيرة على منقل الفحم، تشير إلى حامل الكاميرا بضحكة تمانع فيها تصويرها، مهددة بسيخ تحمله. تطل أم فطمة من باب المطبخ، بوجه باش ومتعرق حاملة وعاء مملوءاً بالسلطة. أم الصافي، زوجة محمود عم فطمة، تنهر ابنها الباكي، متجهة إلى المرحاض الملاصق للباب الكبير، متجنبة النظر إلى الجدة، حماتها.
في الظهيرة نفسها، والمكان نفسه التقطت الصورة التالية. يحتشد الشباب والأعمام، منهم الجالس ومنهم الواقف، صانعين نصف حلقة، محورها العم نذير الذي يبتسم برصانة وثقة، فهؤلاء الشباب، أولاد أخوته وأولاد أعمامه، في استعداد تام لخدمته وتنفيذ أوامره. شاركت أشجار الأحواض وأزهارها في حفل الطاعة هذا فأحنت أغصانها المتعالية كي تظهر في إطار الصورة الملتقطة. على يمين العم نذير قعد العم محمود العاجز في كرسيه الخاص، حاجزاً مساحة واسعة. كفّه العريضة المتوضئة تمسح رأس أحمد أخ فطمة الصغير الذي فقد مع من فقدوا. إلى اليسار ظهر العم جميل ضاحكاً بخديه المرحين، وعينيه المنكسرتين في سخرية ناعمة، لكأن الكاميرا امرأة جديدة يهم أن يعرّفها على نفسه، منتظراً أن تستجيب لنظرته التي لم تخيبه أبداً، غير عابئ بأخيه عبد الحكيم الذي يحاول حشره مخرجاً نصفه العلوي، ناظراً إلى الأعلى برأس مملوء بهوس الحمام، مرتدياً خفاً بإصبع واحد وبنطالاً قصيراً، ربما كان يخص العم نذير ذا القامة المتوسطة. يستغني نذير عن ثيابه حين يملّها، وأخوته مستعدون لارتدائها برضى تام. أما بقية الشباب، فبثياب العيد المتشابهة، قمصان موضة، أحزمة جيدة، بنطالات مكوية على أحذية نظيفة. قضت أم الحب ليلة العيد، تلمّعها بدهن اللوز وتجدّدها بلهاثها. وجوههم متراكبة في نظرة واحدة، حلم، أمل، خضوع واحد لعمامة العم نذير.
كانت فطمة تحدق في أغصان الليمونة التي ظهرت في أعلى الصورة، عندما تنبهت لخدر قدمها تحتها. دائماً تنوي الجلوس لدقائق، ثم تنسى نفسها ساعات، هي المشغولة حتى الثمالة بتاريخ وتأريخ الأحداث.
طرقت سمعها هسهسة ما، تلفتت في أنحاء غرفة الجلوس متيقظة لأي صورة، أو صوت، أو رائحة لم تخضعها لسلطان اهتمامها. وقعت عينها على ذيل الجرذ منسلاً من تحت كرسي جدتها الخفيض. تركت غطاء الصندوق يهوي وخرجت إلى أرض الدار وراءه.
شاهدت طائرين واقفين على غصن الياسمينة، ملتصقين وكل منهما ينظر باتجاه معاكس للآخر، فكرت:
“كأنهما لا يدريان أنهما متلامسان، وأن أحدهما بحاجة للآخر”.
قفز أحدهما برفق إلى غصن أعلى، بينما الآخر ظل ساكناً ومستسلماً للمراقبة المهيمنة من الطائر الأول. حط طائر ثالث على الغصن السفلي، فراحا ينظران إليه ببطء وحياد شديدين.
“هذه الطيور اللعينة توسخ حديد الشرفة، إنها فضلاتها، فهي موزعة بنسق واحد تبعاً لحركتها”.
قامت من مكانها متجهة إلى المطبخ:
“أووف ! قبضة الباب مغبّرة ودبقة، لا بدّ أن ابن بنت خالتي الصغير قد لمس كل شيء قبل أن ينهي قطعة النمورة، يجب أن أعد محشي الكوسا لزوج أختي فهو يحبه، ولأختي التبولة، ولابنهما الصغير شوربة المرضى. أووف ..كيف لي أن أنظف القبو والجرذ مازال يسرح ويمرح؟”.
تتعب كثيراً عندما تصعد أو تنزل الدرج، فهي، رغم اعتيادها صعوبة العيش في البيت الكبير، إنما لقدرتها حدود. يقول فارس:
ـ هل قدرك أن تجربي إعادة الحياة لتراب الحديقة، وتنظيف ضفة النهر؟ ألا تملين من التجارب، أعطال كثيرة وموت كثير.
اعتادت نزق مزروعاتها وتمردها عليها. تقول فطمة:
“زرعاتي مثل أيامي”.
إلا أن الكرمة لم تخذلها عمرها. هنالك تفاهم خفي نشأ بين فطمة وبين أغصانها، ربما لقدرتها على إعطائها ورقاً أخضر ندياً يصلح لإعداد المحشي الذي يحبون ويصلح أيضاً خبزاً لأكلة تبولة. إلا أن أحداً لم يمتدح عنبها الذي يمتصه العصفور قبل أن يحمرّ وينضج. حديقتها التي لا تشبه شيئاً في وحشيتها تعطيها عكس كل ما تتوقع، فأوراق الورد المعروفة بمخمليتها، تخترقها أشواك أغصانها لتخز الأنف الفضولي، أما النباتات التي تنمو بعافية مدهشة فتتطفل على الحيطان، تملؤها بأوراقها أولاً، ثم بالنمل وبحشرات أخرى. ما لا يمكن لهذه الحديقة أن تغيره من عاداتها القديمة هي كثافة فضلاتها، ففي كل شتاء تحتاج فطمة إلى تعزيل مصارف البيت. يقوم العامل بواجبه عن ظهر قلب، قائلاً بنزق:
ـ سبب هذا كله هو جذور أشجار الحديقة. تمتد حتى تخترق مجاري هذا البيت العتيق، تسدها. ثم يستأنف متأففاً، يجب أن تقطعي هذه الأشجار الهرمة وترتاحي، وإلا فسوف تسطمين* النهر أيضاً.
يملأ كيسين من نتاج التعزيل ويمضي.
تغلق الباب وراءه متمتمة:
“الحمد لله، اليوم تنتعش الأشجار بعد أن تخلصت من فضلاتها، وكذلك النهر سوف ينتعش”.
تنزل كل صباح إلى حديقتها، تتأملها متناولة الثمار الساقطة، وبعض الورود الخمرية، تصعد درج قبوالقبو، ثم درج القبو، والدرج ذا الدرابزين الفستقي المفرغ. تستريح عند الدرجة الرابعة كي تهدأ ركبتها اليمنى، ثم تتابع الصعود حاملة باقتها الواهنة، وثمارها الضعيفة.

تملصت من بين الأجساد المتلاصقة على الفرش المتزاحمة، أنهكها النوم بين الفرشتين، على الحافتين، مرتدية قميصها الأزرق الطويل المزين محيطه بالكشكش. صعدت الدرج كل ثلاث درجات معاً، قطعت حافية ثلاثاً وستين درجة، وصلت السطح. كانت السماء صافية باردة، غطى الثلج السور، وأرض الدار، شجرة الليمون، الياسمينة، تماهت ضفة حديقة قبو القبو مع ضفة النهر فبدت كيد بيضاء ممتدة للضفة الثانية المزدحمة بالبيوت. نظرت وراءها فلم تجد أحداً، ارتجفت من شدة البرد، تمتمت:
“لا وقت”.
قطعت السطح مرتين تاركة أثر قدميها الصغيرتين على الثلج، تمنّت أن تستلقي بذراعين ممدودتين على هذا البياض، لكنها خافت من البرد. نزلت الدرج متزحلقة على الدرابزين الناعم، غير آبهة بالثلج الذي سحبته معها في رحلتها. عادت إلى مكانها بهدوء ملتصقة بالأجساد النائمة، علّها تعطيها قليلاً من الدفء. تململت بنت عمها مردّدة في نومها: أعطني بندقية..  هذا ما كانوا يرددونه في لعبهم، يقولون: “ديغول خبّر دولتك باريس مربط خيلنا “. شعرت فطمة بالنصر، ربحت الرهان، كانت أول من داس ثلج ذلك العام.
عندما استطاعت أخذ أفضل حقيبة مدرسية، وأفضل مقعد خشبي بين بنات أعمامها وأولادهم، نادوها  “يهود خيبر”. أما أمها فقد نادتها “بستانية” لأنها تشد شعر أختها ليلى، وتكزّ على أسنانها، وتصيح بصوت عال. كانت تقفز عابثة حين داست على الصوص الأصفر الصغير، التصقت أمعاؤه بقدميها، بكت كثيراً في حضن أم الحب، وظلّت ليالي طويلة تراه في حلمها يركض وراءها، يقفز بضعف وذعر. وقضت صيفية كاملة تعاني حين تمشي أوتدوس الأرض بقدميها.
ذات ظهيرة صيفية سديمية مغبرة، كانت مختبئة بين الأغصان العليا لشجرة الليمون، عندما هدرت الطائرات الحربية فوقها.كانت تجلس القرفصاء مع عمر الذي يرتدي قميصاً مقلماً وعاصم الذي يرتدي “شورتاً” أسود مكوياً وقد لاحت عليه أمارات الجد. تراكض أهـل البيت الكبير إلى القبو، راح الأب يقلب موجات الراديو، والأعمام تجمّعوا ينصتون للأخبار. ظلت فطمة تحت أصوات الطائرات في الأعالي، ممسكة الأغصان الخشنة بكفيها الصغيرتين، تستمع من الولدين إلى حكاية فيها الكثير من التلميحات الممتعة والمحرّمة، غير عابئة بخوف الجميع من الموت القريب جداً.
أمضت وقتاً طويلاً أمام الجحر، عل الجرذ يخرج:
“أيها اللعين”.
شتمته، وهي تكز على أسنانها.
سدت مخبأه باللبنة، ريثما تنتهي من قص أوراق الكرمة. وعدت بيت أختها بأكلة “يبرق”، مع رؤوس الثوم وشرحات اللحمة، لكنها نسيت أن تنقع الرز. باتت تنسى الكثير من الحيل التي تجعل أكلاتها مختلفة.
منذ أعوام تعد أطعمتها لمن حولها، تقول ابنة خالتها:
ـ أظنك تستخدمين الميزان.
مع أن كل ما تضيفه لطبخاتها، ملح، فلفل، خضار.. ترشها بأصابعها من دون تقدير أوقياس، جميع أكلاتها معروفة منذ مئة عام، أو أكثر، يكاد معظمها أن ينقرض، لكنها تعدها كما لو كانت قد اكتشفتها للتو. حيرت نساء العيلة بحيلتها.
فتحت الخزانة التي تضع فيها سلة الثوم والبصل، عنبر السمنة وتنكة الزيت، همّت أن تتناول رأس ثوم، فقفز الجرذ، لمس قدمها بجلده الرطب المتقرن. لعنته ألف لعنة، شتمت عمره كأي ابن آدم يشاكسها أو يمازحها مزاحاً ثقيلاً. اتجهت إلى الحمّام تفرك قدميها، وتفكر بالطريقة التي استطاع فيها أن يدخل خزانة سلة الثوم: يجب علي أن أتخلّص من زيت القلي المكشوف فربما يكون قد لمسه، وأن أصلح قفل خزانة المطبخ التي تآكل خشبها وخرج النمل منها. صمد خشب المطبخ طويلاً، منذ أن كانت الجدة عروساً صغيرة، تختار بدلال الرخام الإيطالي، وخشب الزان.
قرع الباب، إنه ابن عمر جارها:
ـ نريد أن نقتطع بعض الأغصان من النخلة، سنزور قبر عمي.
ـ ستقوم أنت بهذا العمل، فأنا متعبة، احذر من الجرذ، إذا رأيته نادني، لا توسخ الأرض، لا تقس على النخلة.
نزل الولد متململاً من الدرج الأول والثاني ومن توصياتها التي باتت محفوظة، راح يقلدها:
ـ لا تقس على النخلة، ثم استأنف: النخلة هي التي تجرح أصابعي في كل خميس.

عادت إلى مطبخها تحاول تثبيت “جوان” طنجرة الضغط القديمة، كي تعد طبختها التي لن تنجح إلا في هذه الطنجرة. “صولت” الرز، ثم خلطته بالملح والفلفل هازئة بهؤلاء الذين اخترعوا خلطة البهار. أضافت اللحمة الناعمة، ثم ملعقة من السمنة البلدية، وزّعتها على سطح الخليط، أخذت تقلبه بأصابعها مدققة في لونه: زهري. وضعت ربطات ورق الكرمة في الماء، جففتها على خرقة نظيفة. جلست على السجادة تعد محشي “اليبرق”، مراعية أن تكون القطع كلها متناسقة الحجم، متشابهة، صغيرة رفيعة متماسكة باعتدال، ولاتكون صلبة في الأفواه. قد تقسم الورقة الواحدة عدة أقسام، تلصقها بقسم سابق لورقة أخرى لتشكل لفافة جديدة.
رغم أنها تعد طبخة “اليبرق” عشرات المرات كل عام، ورغم أنها تزود بيوت أهلها بمؤونة ورق اليبرق، لكنها لم تستطع مرة أن تتناسى ما تعنيه ورقة الكرمة لها، فعندما تفرد الورقة الخضراء ذات العروق على الدفة الخشبية، وتضع فوقها الأرز باللحمة على هيئة إصبع، لا تملك إلا أن تتذكر أكف أعمامها، وأصابعهم المنفرجة على آخرها مغطاة بدمائهم، حين قتلهم رجال أبو شامة، وأخذ أولادهم فصار مصيرهم مع الغائبين، تفكر بأبو شامة:
“تراه يعلّق صورته في قصره، كما هي معلقة حول النهر بتالولته  الساقطة والباقية؟”
لا تملك إلا أن تتذكر فارس النحات القادر، رغم كل الظروف، على أن ينحت أدق التفاصيل وأصعبها بصبر غير محدود، دونما انتظار لشهرة أو مال، رغم حاجته لهما، والحاج عمر الذي يسيطر عليه هاجس البعث في اليوم الآخر، آملاً أن ينشر نظريته، وينتصر على قوى الشر في العالم. وتهجم صورة لميا المجنونة تجري على الجسر الصغير من أوله إلى آخره ولاتتعب، تبصق في النهر تارة، وعلى بناء “الخلية الذكية” للاتصالات تارة أخرى. تتدلى من سور الجسر بنصف جذعها ناظرة أسفل القناطر، تبحث عبر ضياعها عن ابنها الذي رمته، هنا تتذكر صحن طعام لميا. والأستاذ عاصم الذي يعيش مع أمه وأطفاله منصرفاً لكتبه ومكتبته، حالماً بعالم يحيا برؤيا جبران خليل جبران، وصوت فيروز. تتذكر عمها جميل فتردد مع نفسها: جميل النسونجي، تضحك: مازال يعشق النسوان وينشغل بهن، يفرد القماشة، أمام الزبونة متغزلاً باللون كأنه لون عينيها، بالملمس كأنه ملمس وجهها. نجا عمها عبد الحكيم من هجوم أبو شامة بفضل حبه لتربية الحمام. غاب ليلتها باحثاً عن طائره المنقط في الضيعة المجاورة، ليساوم عليه.
تتخيله يرشق حبات الزيتون في فمه، كأنه يصوّب على طيوره، قالت له:
ـ عمي كل حبة بحبتها.
فأجابها:
ـ المكدوس كل حبة بلقمة.
ابتسمت بشوق، ربما تنوي أن ترسل له قطرميز المكدوس الذي أعدته لمؤونتها. تتذكر ليلى أختها المنصرفة تماماً لمجتمعها المخملي، تبتسم بأسف: المخملي، “شو” سلالة الملكة اليزابيث؟. أختها ليلى ذات الجمال المطلوب: فم صغير، أنف دقيق، خدود زهرية تحت عيون عسلية مدبلة، توحي لمن تنظر إليه أنها تحتاجه، أن من واجبه رعايتها. مدللة منذ صغرها، طلباتها تأتيها قبل أن تسأل عنها. توشك على البكاء إن تأخر ثوبها عند الخياطة، تحتج بشدة إن لم تنل الحظ الأكبر من دلال محيطها، اعتادت على ذلك من أبيها الذي حملها على كتفيه، حتى صارت أطول منه، ومن أمها التي كانت تلملم بيجامتها وراءها، حين تترك بنطالها مكوماً دائرتين على الأرض بعد أن تخلعه وتقفز منه.
تهاجمها ذكرى أحمد أصغر الشباب الذين غابوا، أحرق قلب أمه عليه، أمسكوا به: أنأخذه أم نتركه؟ بال الصبي على نفسه وهو يرجوهم: أنا صغير. وراح  ينتظر بتوسل جواب المعلم الذي كان يقود رجال أبو شامة، لكنهم دفعوه أمامهم. تردد بكاؤه وارتجافه في كل زاوية من البيت.
“تراه يعود؟ يجب أن يعود، الولد لم يعش حياته بعد”.
تداهم فطمة الذكريات من دون استحضار فتجد نفسها تسرع في إتمام لفافة يبرق جديدة. أما لميس حبيبتها، ابنة ليلى فإنها الآن في درس اللغة الفرنسية، ترجو الله أن يحفظها ويحميها، تعيد الدعاء عشر مرات حتى تعطش، تشرب من القهوة التي بجانبها دائماً في فنجانها المفضل، روميو وجولييت وركوتها الزرقاء، تعود للفافات “اليبرق”. لقد أنجزت كومة لا بأس بها، تستدعي كل من حولها إلى قلبها، رأسها، دنياها. ساعة أخرى، تكون قد أنجزت الكومة الثانية، تذكرت أبو رحمون المؤذن، لن تنسى حصته أيضاً:
“سوف يتأخر غذاؤه اليوم”. لكن سيعذرها عندما يعرف أن الطبخة: يبرق”.
وضعت شرحات اللحم في أسفل الطنجرة، ورؤوس الثوم بقشرتها، فالثوم الناضج تحت هذا التنسيق سوف يدفع بالأصابع، فيبدو كأفضل “مايونيز”، هكذا تفكر. صفّت القطع بترتيب هندسي كأن المحشي سيخلّد في طنجرتها. تتركه لينضج على نار شمعة وإن استغرق أكثر من ساعتين، سيجدون الطعام ساخناً في أي وقت يصلون، من دون أن تعرف ليلى كيف تستطيع أختها فعل ذلك.
فكرت:
“ما زال الوقت مبكراً لصلاة الظهر”.
جهزت سجادة صلاتها، منشفتي الوضوء، واحدة جديدة زاهية لليدين والوجه، والأخرى قديمة مخصصة للقدمين. نظرت إلى كرسي الجدة تتفقد الجرذ الذي باتت تتوقع خروجه من كل زاوية سبق أن خرج منها، لمحت صورة هاربة من الكيس الذي أعادته على عجل، ابتسمت، ليلى هنا لم تتجاوز الثالثة من عمرها، مرتدية ثوباً قصيراً مبتسمة برقة بين خصلات ناعمة من شعرها الأسود. كانت واقفة بجانب حوض “السجادة” في يدها جورب ذو كرات ملونة، تضعه في وجه الكاميرا كي تشاركها الفرحة به. لولا تأنيب أمها، ودّت يومها أن ترفع سروالها الداخلي الجديد أيضاً أمام الكاميرا، وتخلّد فرحة كبيرة، فأمها وعدتها، إن هي كفّت عن التبول في ثيابها، أن تحضر لها سروالاً مقلماً بالأبيض والأحمر، وجورباً بكرتين ملونتين. الغريب أن ابنة الثلاثة أعوام عاشقة كل جديد، امتنعت من يومها عن عادتها السيئة فالتُقطت لها صورة كي لا تنسى. انزوت فطمة في الصورة نفسها إلى جانب قفص عصفور، تحت شجرة الليمون، ظهرها للكاميرا، مدّعية عدم اكتراثها لهذا الغنج الذي يشع من أختها الصغيرة ليلى، غير أن طرفها المراقب اتضح من الزاوية الأخرى.

كانت صاحبة الحقيبة في الصفوف الابتدائية، تجلس في الجهة اليسرى، ملتصقة بالحائط، تسكت طوال الدرس، وعندما تتكلم، تقول لجارتها فطمة: لا تدلقي الماء الساخن على الأرض، أو على الزرع أو في المجلى. لا تغتسلي ليلاً، سوف يخرجون لك، سوف ترينهم في عمود الملابس، خلف الخزانة، في قمم السجاد الملفوف المغطى بأكياس الطحين الفارغة، يخرجون لك من الرسوم التي تشكلت على دهان حديد الأرجوحة، أوخشب المقاعد وعلى الجدران، أومن لحاء الشجر عندما يتشقق، فالجنّي الذي يسكنه يضيق بمحيطه، ينطلق ضارباً كل من لا يحفظ ذلك الدعاء الطويل، الذي يجب ترداده ساعة رؤيته. أخبرتها صاحبة الحقيبة أنها عندما خرجت من بيت أهلها قالت: خاطرك يا دار. رد صوت نسائي غريب: مع السلامة. جرّبت فطمة، تحدثت مع البيت، وحديقة القبو، جذع النخلة، والليمونة، دون جواب، غير أن صوتاً تحدّث بجمل غريبة عندما استحمت ليلاً، كانت في العشرين من عمرها، تدلق الماء المغلي على الحائط لاهية، غير عابئة بهؤلاء المختبئين في الزوايا، أو في الشجر، أو تحت الأرض.
في حقيبة البنت الصغيرة في تلك المدرسة البعيدة أشياء صغيرة، مختلفة: مفك براغي، مسننات لعبة ما، بطارية، علبة قلم فارغة، كرة صغيرة، صور ممزقة، الله وحده يعلم حاجتها لكل منها، تنبعث من هذه الحقيبة الغامضة ذات اللون الغامق رائحة زيت وزعتر، أما الدفاتر والكتب فممزقة من الغلاف الأول أومن الأخير. الواجبات المدرسية غير هامة عند صاحبة الحقيبة ذات الأطوار الغريبة. أما فطمة فقد حشت حقيبتها بأوراق النخلة التي تشبه سيوف الأبطال أصحاب السير، بالإضافة إلى كتب ودفاتر كل المواد، تحملها يومياً، حتى إن لم يحتو البرنامج عليها كلها.
وفيما فطمة تفشي سرها لصاحبة الحقيبة كانت هذه تعلّمها لعبة بيع الورق الملون للفتيات، صور قصت من مجلات مختلفة تحمل معالم المدن الغريبة والبعيدة. مارستها فطمة يومين مع بنات المدرسة من دون أن تخبر أم الحب، أو أن تلفت انتباه بنات عمها. لكنها بعد فترة، امتنعت عن الاستمرار فيها، رغم إتاحتها لها شراء الحلوى المغلفة بالشوكولا عند خروجها من المدرسة، حيث، غالباً، ما تكون ” الخرجية “* قد أنفقت من الفرصة الأولى.
كانت صاحبة الحقيبة، اللغز، تنال درجات فطمة نفسها في الامتحانات برغم الفارق الكبير. كرمها مع صاحبة الحقيبة جعلها تفتح أمامها ورقة الامتحان، بل كانت تأخذ ورقتها، وتملؤها لها إن لم يتبق وقت تنقل فيه. أخذت مساحة هامة من تفكير فطمة، أرادت أن تعيش ألغازها، بات الخبز بالزيت والزعتر فطورها المفضل، علّها تنشر رائحة حقيبة البنت في حقيبتها. لكنها قضت عاماً دراسيا كاملاً مرتدية المريلة الملوثة بالزيت، عند الجيب الأيمن، حيث كانت قد وضعت على عجل السندويتش غير المغلفة جيداً. غسلت المريلة عـــدة مرات إلا أن البقعة العنيــدة ظلت متشبثة بالجيب الأيمن، مما جعل كثيراً من تصرفات فطمة غير مبررة لمجرد محاولتها إخفاء البقعة، بالدفتر، بالحقيبة، بالمنديل الذي تتركه ظاهراً قليلاً من الجيب، مما ساهم في تأخرها في الدراسة في تلك السنة، بخاصة في مادة الحساب، فصل الكسور وتوحيد المخارج، فحين تلتفت المعلمة إلى اللوح الدراسي لتكتب تمارين الدرس المقرر، تكون فطمة قد أزاحت المنديل لتتفقد بقعة الزيت. تمنت أن تختارها معلمتها كي تذهب بدفتر حضور المعلمات إلى الصفوف الأخرى، كي تضعه على منبر المدرّسة متباهية أمام تلميذات الصفوف الأعلى، لكن المعلمة الغافلة عن هذه الرغبة القاتلة كانت تختار ريمة ذات الأهداب والضفائر، لتتباهى بطالبتها الشقراء أمام باقي المعلمات. لعنت فطمة بقعة الزيت المسؤولة أولاً وأخيراً عن حرمانها من هذه النعمة. همّت أمها إعطاءها عروسة الزعتر كالعادة، فصاحت: كرهتُ الزيت والزعتر والزيتون أيضاً والمكدوس، وكل ما يحتاج إلى الزيت الأصفر المخضر، يسقط على الملابس فيبدأ ببقعة صغيرة ثم يتحول بعد ذلك إلى دائرة كبيرة، تتركز في أكثر الأماكن ظهوراً. وانتبهت إلى أن أسرار البيت لاتنقل وإن كان المتلقي فتاة بحقيبة ألغاز.
في العام التالي حازت على الدرجة الأولى، اقترحتها المعلمة كي تكون قائدة المدرسة، تقوم بتحية العلم الصباحية:
ـ عند فطمة صوت عال يصرع.
تفاخرت فطمة بكل الامتيازات التي حصلت عليها، جدتها في البيت تقدّر عبادتها. وهي قائدة في المدرسة، تضع نظارتها على عينيها وتقف في السابعة صباحاً أمام علم بلادها مستحضرة الجد والحزم الذي كان يصدره عمها نذير.

يحفر الجرذ في حديقتها مغاور تصل إلى بيوت جيرانها، إلى قاع النهر. نصحوها، بعد صبر، أن تخلط الكلس مع بودرة الفانيليا ذات الرائحة المشهية، المستخدمة في صنع الكعك، تضع الخليط أمام الوكر بجانب وعاء ماء. يلتهم الجرذ الوجبة، ثم يشرب الماء، فيتجمد الخليط في بطنه ويموت. جربت، وضعت اللوز المقشر مع السكر وجلست القرفصاء ساعة كاملة أمام جحره، محاولة تحديد كل الاحتمالات الممكنة لاتجاهات تجوله، عبثاً. يئست:
“ركبتاي تؤلمانني”.
صعدت بباقتها، زهور بلون التوت، تخرج منها حشرات سوداء ضعيفة. يضحك فارس:
ـ مثلك حديقتك، تعطي وتعطي دونما فائدة، فحتى أزهارها تعبئ الأنف بالحشرات، وبكائنات أخرى يترجح تصنيفها بين النباتات والحشرات، دعي هذه المخلوفات بحالها.
في كل أضحى تجُري دم خروف للأشجار، تطمر بلعومه وبعضاً من نتائج الضحية تحت التراب. ما هي النتيجة؟ نمو عشوائي، تعجز أن تلملمه. بمن تستعين على جموح هذه الحديقة التي تصر، رغم هرمها، على العطاء. تخطئ حديقتها في بعض الأحيان، تزهر ليموناً بدل البرتقال، عنباً أخضر طويلاً بدلاً من العنب الأحمر المدوّر. والياسمينة تكبر وتهيمن على الناحية القبلية بلا زهر. كم مرة نادت ابن عمر جارها كي يسحبها عبر السور الفاصل إلى بيتهم، مرة يستجيب، وأخرى يدّعي أنه غير موجود، إلى أن أرسلت الياسمينة أحد أغصانها كي ينغرس مرة أخرى في التراب مختلطاً بجذورها.
وضعت “اليبرق” على النار بعد غمره بالماء مع ملعقتين من السمن. انتظرت البخار حتى انطلق فأضافت نصف كأس من حمض الحصرم.
جاءها صوت المؤذن: صلاة الظهر جماعة.
مازال أبو رحمون المؤذن حياً رغم تجاوزه التسعين، صوته هو هو، منذ أكثر من ستين عاماً في الجامع نفسه، ينتظر غداءه اليومي من بيت أهل فطمة، فعندما ينادي لصلاة الظهر يكون جرس تنبيهه لها أن موعد الطعام قد حان، ما إن ينتهي من الأذان حتى يجد صينية غدائه مع السلطة واللبن. تضاف في الصيف قطعة ثلج في كأس من الألمنيوم. يتناول طعامه حامداً ربه داعياً لفطمة:
ـ فطمة تطبخ ما يكفي عشرة أشخاص يومياً، ولا تأكل إلا صحناً واحداً.
بات صوت أبو رحمون حتمياً كالشمس، كالبديهة، كالعادة، يبدأ دورته اليومية بأذان الصبح وينتهي بأذان العشاء ليغفو مع غياب الأضواء الخضر، ثم يصحو مرة أخرى منادياً لصلاة الصبح مضيفاً الكثير من عباراته الخاصة، كأن يؤنب الكسالى الذين آثروا دفء الفراش على ماء الوضوء الصباحي. صوته مع الفجر البارد، بطيئ لكنه حاسم. تستطيع فطمة أن تحزر مزاج أبو رحمون من نبرة صوته، فقد يهاجمه السعال أثناء الأذان، فينخفض صوته أو يرتفع. وهذا لايسبب أي حرج، فهو يؤذن في حارته وأهل الحارة يقدّرون. كثيراً ما يتلعثم في اسم الميت عندما ينادي عليه، أو اسم زوج المرحومة، فيسمع استفساره مع من يلقنه عبر الميكروفون، من دون أن يكلّف نفسه إبعاد فمه عن فوهة المكبر.

يحفر الجرذ في حديقتها مغاور تصل إلى بيوت جيرانها، إلى قاع النهر. نصحوها، بعد صبر، أن تخلط الكلس مع بودرة الفانيليا ذات الرائحة المشهية، المستخدمة في صنع الكعك، تضع الخليط أمام الوكر بجانب وعاء ماء. يلتهم الجرذ الوجبة، ثم يشرب الماء، فيتجمد الخليط في بطنه ويموت. جربت، وضعت اللوز المقشر مع السكر وجلست القرفصاء ساعة كاملة أمام جحره، محاولة تحديد كل الاحتمالات الممكنة لاتجاهات تجوله، عبثاً. يئست:
“ركبتاي تؤلمانني”.
صعدت بباقتها، زهور بلون التوت، تخرج منها حشرات سوداء ضعيفة. يضحك فارس:
ـ مثلك حديقتك، تعطي وتعطي دونما فائدة، فحتى أزهارها تعبئ الأنف بالحشرات، وبكائنات أخرى يترجح تصنيفها بين النباتات والحشرات، دعي هذه المخلوفات بحالها.
في كل أضحى تجُري دم خروف للأشجار، تطمر بلعومه وبعضاً من نتائج الضحية تحت التراب. ما هي النتيجة؟ نمو عشوائي، تعجز أن تلملمه. بمن تستعين على جموح هذه الحديقة التي تصر، رغم هرمها، على العطاء. تخطئ حديقتها في بعض الأحيان، تزهر ليموناً بدل البرتقال، عنباً أخضر طويلاً بدلاً من العنب الأحمر المدوّر. والياسمينة تكبر وتهيمن على الناحية القبلية بلا زهر. كم مرة نادت ابن عمر جارها كي يسحبها عبر السور الفاصل إلى بيتهم، مرة يستجيب، وأخرى يدّعي أنه غير موجود، إلى أن أرسلت الياسمينة أحد أغصانها كي ينغرس مرة أخرى في التراب مختلطاً بجذورها.
وضعت “اليبرق” على النار بعد غمره بالماء مع ملعقتين من السمن. انتظرت البخار حتى انطلق فأضافت نصف كأس من حمض الحصرم.
جاءها صوت المؤذن: صلاة الظهر جماعة.
مازال أبو رحمون المؤذن حياً رغم تجاوزه التسعين، صوته هو هو، منذ أكثر من ستين عاماً في الجامع نفسه، ينتظر غداءه اليومي من بيت أهل فطمة، فعندما ينادي لصلاة الظهر يكون جرس تنبيهه لها أن موعد الطعام قد حان، ما إن ينتهي من الأذان حتى يجد صينية غدائه مع السلطة واللبن. تضاف في الصيف قطعة ثلج في كأس من الألمنيوم. يتناول طعامه حامداً ربه داعياً لفطمة:
ـ فطمة تطبخ ما يكفي عشرة أشخاص يومياً، ولا تأكل إلا صحناً واحداً.
بات صوت أبو رحمون حتمياً كالشمس، كالبديهة، كالعادة، يبدأ دورته اليومية بأذان الصبح وينتهي بأذان العشاء ليغفو مع غياب الأضواء الخضر، ثم يصحو مرة أخرى منادياً لصلاة الصبح مضيفاً الكثير من عباراته الخاصة، كأن يؤنب الكسالى الذين آثروا دفء الفراش على ماء الوضوء الصباحي. صوته مع الفجر البارد، بطيئ لكنه حاسم. تستطيع فطمة أن تحزر مزاج أبو رحمون من نبرة صوته، فقد يهاجمه السعال أثناء الأذان، فينخفض صوته أو يرتفع. وهذا لايسبب أي حرج، فهو يؤذن في حارته وأهل الحارة يقدّرون. كثيراً ما يتلعثم في اسم الميت عندما ينادي عليه، أو اسم زوج المرحومة، فيسمع استفساره مع من يلقنه عبر الميكروفون، من دون أن يكلّف نفسه إبعاد فمه عن فوهة المكبر.

أما في رمضان فبإرادة أبو رحمون يكون الفطور والسحور، ينادونه: أبورحمون “خوّرنا”، منتظرين السلطة وشوربة العدس الساخنة والفتوش الأخضر. يراقب أبورحمون الشمس حتى تغيب تماماً ويتأكد من ذلك، فيأذن للصائمين بالفطور، بل ربما يتناول تمرة قبل ذلك، وما إن يمضي وقت قصير ويكون الجميع منهمكاً في الطعام حتى يتصاعد صوته من المئذنة مرة ثانية ليبدأ بترداد “المولد”. ينشد بصوت رمضاني يملأ الأفق والشجر الغافي والنهر الهادئ الذي اطمأن إلى صيام أهل المدينة ثم ينعكس عنه ليخترق كل الجدران من بيوت حارة فطمة وبيوت الضفة المقابلة التي تشبهها تماماً، حينها يهرعون نساء ورجالاً إلى الجامع كي يحجزوا مكاناً خلف الإمام لأداء عشرين ركعة للتراويح بعد أربع ركع لفرض العشاء وثلاث للوتر وأربع للسنة. يقف أبورحمون خلف الإمام مباشرة على بلاطة محددة له يردد وراءه بعد كل ركوع وسجود: الله أكبر.
ينام أهل الحارة ساعات قليلة في رمضان ليعاود المسحّر إيقاظهم. يبدأ جولته في الضفة المقابلة لظنه أن أهل هذه الضفة يأكلون أكثر ويحتاجون وقتاً أطول، ضارباً طبلته في ليل غفوتهم. لا يغادر حتى يتأكد من استيقاظهم بسماعه صوت ارتطام الملاعق بالصحون وصوت صنابير الماء. ينتقل إلى الضفة الأولى، حارة فطمة، قاطعاً الجسر الصغير، من دون أن يكف عن ضرب طبلته، كأن للنهر سحوراً أيضاً، أو لينبه حارس الطاحونة بين الضفتين. قد يطرق باب البيت الكبير بعصاه مدركاً أن الأطفال يراقبونه من الشرفة المطلة على الجسر منتقلين في البيت نفسه إلى الشرفة المقابلة، كي يتابعوا مسيره كاتمين أنفاسهم، كائن  يمشي ليلاً مع كلبه، خالقاً جواً ضبابياً بالصوت والصورة، يعينه عليه جريان النهر وصوت الطاحونة. عندما ينهي مهمته، يسلم التتمة لأبو رحمون. يرافقهم أبو رحمون سحورهم بأناشيده، بدءاً من اللقمة الأولى حتى كأس الماء الأخير، فيؤذن الأذان الأول للصبح كي يستعدوا بالوضوء متواقتين مع نبرته بدقة عفوية، يستأنف ذكر الله، يؤذن للصبح الأذان الثاني بعد أن يكون قد نهى عن الطعام بعبارة: يا أمة خير الأنام..  كفّوا عن الطعام. ومع هذه الكلمات تسمع آخر رشفات من فنجان قهوة الجدة.
أما في العيد فسوف يضاف إلى موالد الفجر والعشاء بعد كل أذان عبارات التكبير. يترأس أبو رحمون فرقة من أولاد الضفتين، يجلسهم على الأرض في طقس احتفالي، يبدأ: الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا.. فيردد الأطفال وراءه في تواترات غير منتظمة. قد يخطئ بعضهم قائلين: الله أكبر كبيرا والحمد لله صغيرا، فتأتيهم ضربة على الرأس، يتداركون الخطأ بتمويه الكلمة التي لم يفهموها.

مضت في ركوع وسجود. ففرض الظهر طويل وسنّته أيضاً، جزء منها يسبق الفرض وآخر يليه. تؤدي طقسها على سجادة صلاتها المخملية المعتادة، التي تحمل صورة مئذنة بلون الحنطة على خلفية خمرية اللون، بجانبها قبة يعلوها هلال أزرق، القبة قائمة على مستطيل، مرسوم عليه نوافذ كثيرة بلون المئذنة، تتأملها لميس قائلة: خالتي سجادة صلاتك ينقصها اللون الأزرق لون النهر.
أطلّ وجهها من غطاء الصلاة العريض الطويل الذي يصل أسفل ركبتيها. “خراطة” الصلاة ذات الحزام المطاطي تغطي كعبيها عند السجود. تنتهي صلاتها واضعة راحة كفها على رأسها، تدعو أن تتجنب شمس جهنم التي تحمل لها في مخيلتها شكلاً ووهجاً، ثم تقوم مسرعة لـ “شن”* اللبن، وإضافة الثوم والخيار المقشر المفروم.
فكرت أن تعد مع الطعام شوربة العدس، فالجميع ينتظر الشوربة التي تعدها فطمة العمة والخالة، فيما تصر هي على أن الفضل يعود لأم الحب: علمتنا أم الحب أن الطعام الجيد يحتاج طباخاً كريماً وطيباً.

عند العصر تتزاحم  الفتيات: فطمة وبنات أعمامها عند البحرة، يتوضأن للصلاة بوجوه بيضاء وابتسامات خفية، فالضحك مع العبادات وبحضور المعلّمة شيء غير مستحب. “من أولويات العبادة طاعة المعلم وتبجيله”. يتراصصن على السجادات الممدودة، المجهزة لتأدية الفرض والسنة والأدعية اللازمة. لكن الأعمار المختلفة للفتيات تجعل هذا الطقس اليومي حافلاً بالمفارقات، فقد تخز إحداهن ابنة عمها بخاصرتها فتضحكها فتدفعها للتكبير وبدء صلاة جديدة وربما للمرة الثالثة. قد تضحك إحداهن حتى تفسد وضوءها أثناء الركوع بإفلات ضرطة مرحة، فتركض كي تعيد وضوءها ملاحقة بسخرية الجدة المراقبة لعبادات البنات، تاركة مراقبة عبادات الصبيان لمحمود العاجز.
تركض فطمة متفاخرة بثناء الجدة والعم محمود. عليها أن تلحق صلاة المغرب “فالمغرب غريب” وهو أحب الأوقات إليها، بفرضه ذي الثلاث ركعات وسنته ذات الركعتين، لكنه يمضي بسرعة، ويأتي أيضاً في أكثر الأوقات رغبة باللهو في الحارة. تثني الجدة على فطمة:
ـ تصلي الفجر بإيمان من حق و”حقيق”.
تتوضأ بماء البحرة البارد في كل الأوقات. أصيبت بزكام لمدة شهر، غير أنها بإيمان، لاغبار عليه، على رأي عمها محمود، رددت:
ـ هذا امتحان من عند الله.
تصلي، تدعو، ترجو، تبكي بخشوع.
قالت أم الحب:
ـ فطمة.. كفاك.
ـ أخشى ألا يكون إيماني كاملاً يا أم الحب.
تشتغل بالكانافاه في ظهيرة الصيف الطويلة بانتظار موعد درس القرآن. تفعل هذا بنشاط وهمة. كانت كلما قطعت شوطاً بمساحة ذات لون واحد وخيط واحد، تفردها على الدالية، ناظرة إليها من جميع الجهات، كأن لأوراق الدالية الخضراء والبنية رأي تشارك فيه. وتبدأ من بعد العصر بتحضير دروس تجويد القرآن، تغسل الأرض والزرع والبحرة، ثم تتوضأ و ترتدي الجلابية المطرزة واضعة ماء “كولونيا” خفيف الرائحة:
“رائحة النظافة تلائم العبادة”.
تمد السجادة في حديقة القبو، واضعة نسخ القرآن المزخرفة بألوان مختلفة، فوق بعضها في الزاوية بجانب جرة الماء الباردة المغطاة بصفيحة معدنية والتي يعلوها الكأس اللامع. تراجع درس المدود وأحكام التجويد.كانت تحب من الأحكام “الإدغام” فتخرج الحُكْم صحيحاً حين تتأنى بإدغام النون بالياء اللاحقة. أما من المدود فكانت تحب “المد الطبيعي” الذي لا يستدعي المبالغة في إطالة الحرف كأنه الموال.
تتربع بين الفتيات ضمن الحلقة ساترة قدميها بتنورتها العريضة كما يفعلن. تصطف شحاطاتهن على الأرض أمام السجادة حاملة شكل قدومهن وهمّتهن في المجيء. هذا الجلوس الطويل يترك بقعة سوداء سميكة على جلد الرسغ، تتلمسها فطمة آسفة:
ـ تشوه شكل قدمي.
لكنهن يتباهين:
ـ دليل مثابرتنا اليومية على حفظ القرآن.
يستظهرن، في كل لقاء، سورة البقرة وسورة آل عمران، يحفظنها، متفاخرات بالقدرة الفصيحة على الترداد بأنغام خاشعة وأداء رزين، اعتزاز بالإرادة التي استهلكت وقتاً طويلاً كي تتم عملية الحفظ كما هو واجب. تتمتع بعض الفتيات بالصبر والموهبة، وبعضهن الآخر كسولات مدللات يؤدين المهمة بتثاقل، خصوصاً في غياب الجدة. أما الآنسة المعلمة ذات النفَس الطويل، فتفرغ درساً بين عشرة دروس كي تشرح بعض الآيات ومواعظها مبينة أسباب نزولها. وهذه الدراسة التي تحتاج الكثير من التأني كانت تنجز بسرعة، من دون تعمق، فالفتيات يرغبن بالحفظ السهل المريح والثواب السريع.

أدارت لميس مفتاحها بعد أن رنت الجرس، نادت خالتها باسمها. أخبرتها بإنجليزية متقنة أنها مشتاقة لها. تعالى ضجيج الصبية وصوت أختها ليلى، المنشغلة بذاتها، تتحدث في عدة مواضيع بآن واحد ولاتنتظر إجابة. كان زوجها يتساءل:
ـ متى تترك أختك هذه الحارة الضيقة، ستتأذى السيارة في المرة القادمة؟.
تناولوا الشوربة الساخنة، السلطة واللبن و”اليبرق” الممتاز، جلسوا منتظرين الشاي. راحت فطمة تلملم الصحون والملاعق المبعثرة. قال ابن أختها:
ـ عندما أكبر سأحضر خادمة وسائقاً وطباخاً.
مسح أبوه رأسه:
ـ سيكون ابني أغنى رجل في العالم.
لميس بالإنجليزية:
ـ كلام فارغ.
استأنف الأب بفخر:
ـ ابنتي أحلى بنت في العالم.
أجابت باللهجة نفسها:
ـ  كلام فارغ.
قالت ليلى لزوجها:
ـ أنت تدفعها لقول هذا.
ثم تحولت لموضوع بعيد:
ـ لماذا تلبس هذا الحذاء؟ فطمة انظري إلى حذائه، اشتريته إيطالي، لكنه صار مناسباً أكثر لأبو جمال الزبال، يلوي كل أحذيته من دعسة البنزين غير مكترث لقيمتها.
قال الولد بدلال وترف:
ـ  أبوجمال الزبال يحب خالتي فطمة، لماذا لا تتزوجه وتنجب زبالين وشحاذين؟.
غضبت لميس:
ـ عندما كنت صغيراً كنا نضحك لمزاحك أما الآن فقد صرت كبيراً، ثم استأنفت بالإنجليزية: سخافة.
اعترضت أمها:
ـ لميس لم أحب تسريحة شعرك هذه.
ـ أتشربون الشاي؟.
لميس:
ـ سأساعدك بالجلي.
علّق أخوها:
ـ تحاول لميس أن تبدو”حبّابة، وبطيخ”.
أحضرت فطمة الشاي الساخن برفقة لميس، دخلتا ضاحكتين لنكتة ما، قالت ليلى متفائلة:
ـ والله يا أختي لم أعد أصدق عندما أراك تضحكين، عيشي حياتك، أبوشامة لايعرفك، ولايكترث بأحد، خبر من غاب من أهلنا وأقاربنا في علم الغيب، خبر عودة أخي أحمد غير مؤكد، وأنت تقضين يومك تفكرين بهم وتنتظرين! ماذا تنتظرين!؟ هل تأملين عودتهم؟ يا أختي، أعرف أنك لا تحبين أن يتدخل أحد في شؤونك، لكن مافائدة خدمتك لكل هؤلاء: عمي جميل، عبد الحكيم، لميا المجنونة، أبو رحمون، ما شأنك بأبو رحمون؟ إلى متى تفتحين باب بيتك لعمر المهووس وأم عاصم التي تقاسمك مصروفك، وغيرهم وغيرهم.. حتى عندما نريد اصطحابك في مشوار، تغييبن في ملكوتك، تشردين في ذكريات، الله وحده يعلم ما هي.
هبت لميس من مكانها، احتضنت خالتها، قبلتها من كتفها.
دندن أخوها:
ـ “إنت قلبك عايز له قلب “.
قبّلت ليلى ابنها، والتفتت نحو زوجها:
ـ هل رأيت ثوب باسكال مشعلاني؟.
ـ الله يشبعك، أجابها زوجها متوقعاً الطلب القادم.
قالت لميس:
ـ بابا أريد الاشتراك “بالانترنيت”.
أجابها بحنان:
ـ لكنك تقضين وقتك في “الخلية الذكية” يا حبيبتي.
ردت مستهجنة بروده:
ـ بابا.. أريد الاشتراك به في البيت.
ـ سوف نرى.
قال أخوها محتجاً:
ـ بابا، متى  أركب سيارة “بوش” أميركية؟.
ليلى مؤنبة:
ـ تعلّم الشغل على “الكمبيوتر” مثل أختك، أختك أخت رجال..
ردت لميس:
ـ مام، تعرفين أنني لا أحب سماع هذا، فالنساء نجحن في السياسة أكثر من الرجال.
قامت لتقبّل فطمة كمحطة لابد منها.

صار لرفيقة المدرسة، صاحبة الحقيبة فخذان طويلان سمينان، يشكلان ثنيات تتحد ببنطالها عندما تركض، وعندما وقفت على الميزان دل المؤشر على الستة والستين كيلوغراماً، أما مؤشر فطمة فقد ارتجف عند الخمسة والثلاثين. لكن لم يطل صبرها فبعد عام واحد ملكت جسد أنثى. أخبرتها أم الحب أن لديها حوضاً جيداً وكتفين مكتنزتين.
ظلت فطمة تلعب في الحارة مع عمر وعاصم حتى صاحت أمها يوماً: ” طولك طول الحورة وعقلك عقل التورة ” فوقعت عن دراجة ابن عمها وضرب مقبض المقود خاصرتها، ظلت تعاني الألم إلى أن جاء إثبات كلام أمها.
حين شاهدت البقعة السوداء في السروال بعد آلام استمرت أسبوعاً، التزمت الصمت من الخوف واكتفت بتنظيف آثار الخطيئة إذ لا وقت لترف الأنوثة.
نزلت حديقة القبو واحتضنت جذع نخلتها التي زاد طولها. كان يعتريها شعور غامض لأيام قادمة وقدر مجهول. حبل نذير يتدلى مضفوراً من السقف ومتأرجحاً في الهواء. لم يعد بإمكانها تسلقه، فقد بدا أكثر ثخانة، خشونة، وصلابة مما هو معتاد. انفردت خيوطه المضفورة في نهاية كادت أن تلامس الأرض، قبضت عليه بأصابعها، ورفعت عينيها إلى فضاء الحديقة فوجدت الغيم قد أرخى لوناً رمادياً على الورد وثمر الشجر.
كانت، قبل أيام، تزين العربة الخشبية بسدادات الكازوز المعدنية المدقوقة كي تكون مسطحة، تثبّت نصف “شحاطة” * على “رنبيلة” القاعدة، كي تتحكم بتوقفها في المنحدر القريب من النهر، حيث يجري السباق بين الأولاد. وقبل أيام كانت تبحث عن قطعة صوف، كي تضعها تحت كفها لتمنع “القشب” أثناء لعبة “الكلال”، تطلب من أمها ومن أم الحب وسائل تسليتها بجرأة من له الحق، أما الآن فسوف ينخفض صوتها وتسكن حركتها، فالأنوثة هدوء وسكوت ورقة. اقتربت أمها:
ـ أين كنت؟ مع الصبيين عمر وعاصم كالعادة؟.
أمام صمتها، أدركت الأم:
ـ إذن وجع بطنك منها.
قالت ذلك وتركتها بسلبية.
صاحت فطمة:
ـ لا تخبري أبي.
لكن إن لم تخبر أباها، فهل بإمكانها بعد الآن أن تتسلق ظهر أبيها، أو أن ترابط له عند الباب الكبير كي تتدلل عليه، طالبة مصروفاً إضافياً مقابل سماحها له بالخروج؟.

خاص – صفحات سورية –
باذن خاص من الكاتبة منهل السراج
للكتابة الى الكاتبة مباشرة
Sarraj15@hotmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى