صفحات ثقافية

الهجرة الثالثة !

null
خيري منصور
ما ان ترد كلمة الهجرة في أي سياق معرفي حتى ينصرف ذهن القارئ العربي الى تحقيب الهجرات بالمعنى الذي كرّسته متوالية النزوحات القسرية، بدءا من الهجرة الرسولية مرورا بالهجرة من الاندلس إثر سقوط غرناطة، وانتهاء بموجات الهجرات الحديثة، التي تعتبر الهجرة الفلسطينية من أبرزها، لأنها الدراما التاريخية والقومية التي شهدت تهجيرا قسريا جماعيا .
وما اعنيه هنا ليس هذا كلّه، فالمقام مختلف، وتعريف المهاجر اوسع واشد تعقيدا من أي اختزال جغرافي او سياسي او حتى ايديولوجي .
فالهجرة البشرية الاولى تبدأ من الرّحم وهي توأم الولادة، لهذا تقترن بالبكاء وبقطع حبل السرة بين الام والوليد، والهجرة الثانية تبدأ مع الشعور المبكر بالانفصال، وتصحبها آلام عضوية ونفسية هي قرائن النموّ وبداية استشعار الذات ووعيها .
والهجرة الثالثة، هي الأثفية الصعبة لأنها اذا حدثت تدشن انقطاعا عن القطيع، وتبلورا للذات المفردة، وهي بيت الداء والقصيد معا في هذا السياق، لأن الهجرة الأخيرة او الرابعة هي الموت، بالرغم من ان الشاعر العربي القديم رأى غير ذلك، فالمنفى بالنسبة اليه هو هذا الكون وهذه الحياة… أما الوطن والبيت فهو القبر … لهذا قال: اليوم يُبنى لدويد بيته، مشيرا الى بناء القبر الذي تحول من سدرة منتهى الى سدرة مُبتدى .
والهجرة الثالثة تختبر ما سبقها ومهّد لها من بواكير الانخلاع عن الكتلة الاجتماعية الصماء، والعمياء احيانا، لأنها أشبه بذلك الاعمى الذي حمل كسيحا على ظهره ليدله على الطريق، وان كانت مقايضة الفرد والجماعة اشدّ تعقيدا من هذا، خصوصا حين يكون الفرد اعور في بلد العميان بالطريقة التي صوّرها ويلز في كتابه الشهير الذي حمل هذا العنوان! فالخيال العلمي هو أحيانا واقع بالغ التركيز، كما هو الحال في الخيال الأدبي الذي قال عنه ارنست فيشر رغم واقعيته ومنهجه الماركسي انه واقع جدا، لأن الخيال ذو جذور أرضية، وغالبا ما تكون مادته الخام التي يعيد انتاجها هي الذاكرة، وحين قال همنغواي ذات يوم انه لم يكتب الا عمّا يعرف، لم يكن يقصد ما فهمه من يقرأون الناتئ من جبال الجليد فقط، لأن المعرفة تتضمن الحدس، لهذا قد يكون كتب عمّا سيعرف وليس عمّا عرف فقط! وهناك من عرفوا الهجرة الثالثة بأنها هجرة الى الداخل، كما تتجسد لدى بعض الصوفيين ممن زهدوا بهذه الحياة التي تنحصر بين قوسي المهد واللحد، وأيا كان تعريف هذه الهجرة، فهي القطيعة الباسلة مع السّائد والمقرر وما استمد شرعيته من الاستمرار والتحول الى امر واقع، فثمة من يتأقلمون بمرونة حرباء مع الطارىء، دفاعا عن الحياة ودرءا للشرور التي تحدق بهم وبالمقابل ثمة من يعلنون العصيان على هذا التأقلم، مدركين بأنه المعادل الموضوعي لانتحار عقلي، وذوبان طوعي في القطيع .
هكذا نشأت الغربة وتفاقمت لدى من تحولوا الى جمل معترضة في الكتاب، وهكذا ايضا بدأ هؤلاء بدفع ثمن الاختلاف، بدءا ممن نبذوا حتى من احرقتهم محاكم التفتيش .
لقد كان الشاعر الروماني اوفيد احدى هذه العلامات المبكرة في هذا العقاب حيث نفاه الامبراطور اوغست الى ارض تنعدم فيها الحدود بين ايقاعات الفصول وهي صحراء رمزية لا بوصلة فيها ولا حتى جهات .
وسلالة اوفيد شملت فلاسفة وأنبياء ومصلحين وحالمين على امتداد التاريخ، لكن بعض المهاجرين كان قدرهم ان يعودوا فاتحين، بحيث تصبح الهجرة شرط الاقامة وليس نقيضها الا على صعيد جدليّ .
والهجرة من هذا الطراز هي اتقاء بقدر ما هي استراتيجية، على طريقة الجنرال فاب الذي نسبت اليه الاشتراكية الفابية، كان عليه ان يتراجع خطوطاً ليتقدم خطوات، وان ينحني للعاصفة كي لا ينكسر كما يحدث لأشجار باسقة لكنها بلا خيال .
ان هجرة المثقف سواء الى داخله او الى زمن آخر غير زمانه ليست انسحابا من الحلبة، بقدر ما هي حلم قابل للتحقق بالعودة الظافرة .
وقد يعود هذا المهاجر بعد موته، من خلال قيامة شخصية، بعد أن يهتدي الورثة الى ما لم يصل الى اسلافهم مما رأى وشهد وكتب، وثمة عبارة قد لا أجد بديلا لها كتبها إدغار الن بو عن المقابر الحافلة بالعائدين، وهي مقابر هؤلاء الذين ماتوا قبل ان تصل افكارهم الى معاصريهم .
‘ ‘ ‘ ‘ ‘ ‘ ‘
هجرتان متعاكستان، احداهما الى الماضي والأخرى الى المستقبل، يفصل بينهما كل شيء باستثناء المشترك الخالد وهو الافتراق عن الحاضر، ضيقا به وشوقا الى تخطيه والانعتاق من شروطه الآسرة، والاستغراق في الحاضر هو التعبير الأقصى عن الامتثالية، ورفع الراية البيضاء على اطلال الذات المهزومة، وفي عصرنا الذي احرقت فيه التكنولوجيا مراحل عديدة، وتطورت فيه تقنية الكتابة والطباعة الى حدّ مثير، تحدث مفارقة نادرا ما يشهد التاريخ مثيلا لها، هي التخارج الذي يصل حدّ التضادّ بين الوسائل والغايات، فالمثقف يتحول الى عازف على كل الاوتار والأوطار باستثناء وتره ووطره الخاص، لأنه من خلال شهوة التأقلم يهدف الى حماية نفسه من عقاب اسطوري يليق بأبطال التراجيديات الاغريقية، فهو يخاف من أن يلاقي مصير سيزيف او بروميثيوس، ويؤثر السّلامة كي يدرأ النسور عن قلبه العاري، والحالات القليلة التي تشبّث بها مثقفون بجمرة الاختلاف والاكتشاف والعصيان تحولت بفضل ثقافة الهلع والترّويع الى امثولات واحيانا الى فزّاعات بحيث، اصبح الاغلبية يسيرون لمحاذاة الجدران وتبتكر عيونهم المذعورة لها آذاناً قد تشي بهم، لهذا وضعوا رؤوسهم طواعية في جُعبة الرؤوس المقطوعة، واصبحوا مجرد قطع غيار متماثلة، وما يعيب قطعة الغيار هو اختلافها حتى لو كان مجرد نتوء عن طريق الخطأ !
ان محاكم التفتيش تتطور ايضا، تماما كما تتطور ادوات التعذيب وأساليب الاستجواب، فقد تكون هذه المحاكم أنيقة، وذات ممرات رخامية ويتحرك داخلها رجال ونساء أنيقون يجيدون المجاملة والابتسام الوظيفي، انها تشبه ما وصفه ماركيز في رواية خريف البطريرك، عندما تساءل باندهاش: اين تعشش غربان السلطة في هذه القاعات الانيقة التي تضمّخ هواءها العطور ورائحة القهوة واطايب الشراب، وليس المطلوب الان من المثقف ان ينكر دوران الارض، فمن حقه ان يقول بأنها تدور لأن تلاميذ المدارس الابتدائية يقولون ذلك دون ان يصيبهم الدوار .
المطلوب منه هو ان يقول بأن الارض تدور حول هذا القرصان او ذلك الجنرال، وان الذي لا يدور هو التاريخ، لأنه توقف بل تخثّر ودخل الى عطلته الابدية .
ان الهجرة الثالثة هي لحظة الطلاق البائن بينونة كبرى بين وعي غير قابل للتدجين وبين واقع يناشد الصقور بأن تتحول الى سلاحف .
ان اهم ما في هذه الهجرة انها تقع على تخوم الهجرة الرابعة، وهي الموت واحيانا يضل المهاجر الطريق، فيكتب بدمه ما كتبه السهروردي عن قدمه الذي أراق دمه !!!

‘شاعر وكاتب من الاردن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى