صفحات ثقافية

مهى الصالح: الطيران فوق الهاوية

null
خالدة سعيد
إلى رامة وأسعد فضة، إلى سارة وأسعد عون
وإلى إخوتي وابنتيّ، وكل من أحبّ مهى
يعود لنا فجر الخامس عشر من حزيران بعد مرور عام كامل على رحيل حبيبتنا الفنانة المسرحية مهى الصالح (1945 ـ 2008).
يعود، لا ليجدد الحزن والذكرى بل ليعمّق التأمل في عوالم الحضور والغياب.
يعود لنا لنكتشف أن المحبة لا تعرف الفعل الماضي. لا تعرف غير الحضور أو «المضارع» ذلك الزمن الملتبس الذي يشير، في العربية، إلى الحاضر والمستقبل معاً، ويشير إلى الاستمرار.
ونكتشف كم أنّ الحضور العاطفي هو من مستوى غير مادي، وكم يفلت من قانون المادة ومنطق الفيزياء، وكم حياتنا مسكونة بأحبة غابوا من جغرافيا الظواهر.
لماذا يحرّك غيابُ الأحبة أسئلةَ القلب على لغز الحضور والغياب، وغوامض الروابط البشرية؟ وهل ينبغي أن ننتظر الغياب لنخترق الزمن والكلام وجسدَ الرمز إلى غيوبه؟
أم ينبغي أن نستدخل الكائن، حاضراً أو غائباً، وتحتضنه جوارحُنا ليتبدى لنا كنهه وتنكشف أسراره؟
الآن بعد الغياب، وبعد أن عرفنا ما عاشته مهى في سنواتها الأخيرة، أتأمّل أسرار هذه الأخت التي أحببتها ولم أكتشف أغوارها.
لم تعرف الانسحاب والاستسلام، بل التوغّل في عمق المصير والتأمّل في جدوى الاصطخاب حين يؤول كلّ شيء إلى أثر؛ أثر سعت لأن يكون ضوئيّاً رغم عطب الضوء وقدر الظلام.
هذه الفنانة الراحلة في خفايا النفوس تضيئها نظرتها، هل اقتربت من السرّ الأخير فحدّقت في الموت بلا هلع، وتقدمت بما تحمل من قدرات، كأنما هيامها وأعمالها هي نذرها للحياة وهديتها الأغلى؟
أستعيد كلماتها في السنوات الأخيرة. لماذا نكتشف للكلمات كلّ هذه المعاني بعد الغياب؟
لماذا تتكشّف الكلمات البسيطة عن رموز ودلالات؟ وهل ينبغي أن ننتظر الغياب لنخترق الزمن والكلام وجسد الرمز إلى غيوبه وتسطع دلالات تسربلت بالغموض؟
غريب كيف التقت مهى بشخصية «ويني» (أو «ودّو» في الترجمة العربية لمسرحية «يا للأيام الجميلة» لصموئيل بيكيت).
الآن بعد الغياب، وبعد أن عرفنا ما عاشته مهى في سنواتها الأخيرة، أكتشف السرّ في تعلّقهابشخصية «ويني».
«ويني» لم تكن غافلة عن غرقها في كثيب الرمل. لكنها كانت تعيش الغرق بعينين مفتوحتين على المصير المحتوم الذي لا ينفع فيه شكوى ولا اعتراض أو علاج. تعيش كأن الغرق جزء من الحياة، ولا تهلع، رغم وعيها بالمصير؛ بل تواصل كلامها واهتمامها العادي الرتيب بتفاصيل الحياة اليومية كما فعلت دائماً.
أفهم، متأخرةً ، سرّ إلحاح مهى عليّ لترجمة مسرحية بيكيت هذه دون غيرها. وإذن كانت تعيش حالة «ويني» ووعي «ويني»، لكن بلا استسلام أو حياد ولا تجسيد للعبث. كانت تواصل حياتها وإنتاجها وهي تغرق كل يوم متجهة نحو المصير الذي تعرفه. لكنها كانت ـ بعكس ويني ـ ومن ثمّ عكس فلسفة بيكيت ورؤيا العبث ـ تسابق الوقت والغرق كأنما تريد أن تسرق من حكم الموت عملاً آخر، عملاً جديداً وانتصاراً جديداً.
في السنوات الأخيرة من حياتها كانت تعيش حالة ذوبان وحلول في معاني العالم. كانت في كلّ مرة تذهب أعمق فأعمق في اختبار الموقف. كأنها كانت تخترق الإنسانيّة والزمن، وتجعل ذلك سرّها وضمانها وامتداد ذاتها.
هكذا عاشت الفنانة المسرحية مهى الصالح سنواتها الأخيرة في جوار السرّ العظيم؛ عاشت وهي تحتضنه، تتأمّل فيه، تخفيه، تغذيه، تخترق سرّيته وتتحرّك بسحره. في جواره لم يبق مجال لغير الجوهريّ. باتت عندها الحياة على شفا الموت حياةً قصوى. صارت حياةَ المعنى الذي يمجّد الحياة حتى بالموت وينهض بها.
ولا غرابة، فقد عاشت مهى في حضن المسرح الذي، في أعماله الكبرى، يسائل الفنانُ أسرارَ التداخل والصراع بين الحياة والموت. هل رأت مهى في المسرح حريةَ الحركة على الضفاف فوق الحدّ الفاصل ـ حدِّ التجاور والتداخل بين الحياة والموت؟ فلَكَم مات الممثلون فوق الخشبة أو صارعوا الموت ! فهل تمثيل الموت يبقى مجرد «تمثيل»؟ وهل يعود منه الفنان كما كان بلا أثر مما عبَر؟
بأيّة شجاعة وأيّة رؤية أو أي وعي، يصعد الممثل فوق المنصة، ذلك العالم الافتراضي، حيث المستحيلات كلها تغدو ممكنة، حيث الهلاك والنجاة يتواجهان في جسد الممثل؟ لكن حيث الممكن لا يعبر إلى التحقق وإن حفر أسئلته عميقاً في وعي «اللاعب». وهل عالم المنصّة هو حقّاً افتراضيّ محض؟ هل يتعلّم الممثل من ذلك الصعود والاختراق أنّ كل ما يبدو حقيقة ينطوي على حقائق تعانق نقائضها؟ هل يتعلّم الممثّل أنّ كلّ شيء يختزن احتمالاته المتباينة؟
*
عاشت مهى جوارها للموت كتجربة شخصيّة. عاشت آلامَها كسرٍّ مصون، وعافت العطفَ والبوحَ والتعاطف.
لكنها وضعت رهانَها كاملاً على المسرح. والمسرح الذي نعتبرُه إبانة، جعَلَتْه ساحة السرّ وكتاب التجربة.
بغير هذا لا أفهم هوسَها بالعمل وهي موقنة أنها في الطريق إلى النهاية. وبغير هذا لا أفهم إلحاحها في السؤال عن تقدّم التدريبات، في مسرحية كانت تعدها، في لحظات الوعي القصيرة بين إغماءتين.
إنّ هذه التجربة الفذّة تجسّد رؤيا وتصوّراً فريداً مـذهلاً للفنّ كتراسل بين الحياة وما بعدها أو فوقها، أو كصراع الحياة في وجه الموت.إذ عبْرَ هيام مهى وفي تجربتها، يتبدّى العمل الفني كصعود فوق الذات والشروط، أو كطيران فوق الهاوية. كما تبدّى أن العمل الفنّي لا يكون كذلك ما لَم يُعطِه الفنان كلّيةَ وجدانه.
ولقد أعطت مهى كلّ ما لديها. وهي بذلك قد تركت لنا عزاء. ففي غيابها لا يعزينا غيرُ ذلك الفرح الروحي الذي رشفته من المسرح وجعل لها الحياة سرّاً هائلاً ومعنى خارقاً. فهذا، في النتيجة، هو الحصاد الأغلى.
ستبقى الحبيبة مهى لنا، لأسرتيها وأصدقائها، ولي شخصيّاً، ولكلّ مأخوذ بالإبداع متفانٍ فيه، ستبقى مثالاً، صورةً ومعنى للأمل والتأمّل والتعالي الذي لا يداوي الحزنَ سواه.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى