صفحات ثقافية

الطيب صالح: العظيم الذي هاجر إلا من وطنه

طلال سلمان
لم يسمح لي زمني بأن ارتقي بالعلاقة مع الطيب صالح الى أفق الصداقة. كان يناديني «يا زميلي» وكنت اصر على مناداته «بالاستاذ»، فيرد ضاحكاً: «سوداني واستاذ في لبنان؟» وأختم الملاطفة بالقول: «لكنك لورد» فتمتد ضحكته حتى القهقهة: «جميل! زول يصير لورد»!
لكن اللقاءات المحدودة سمحت بشيء من الحوار المتقطع الذي أقتطف منه بعض الأفكار المحورية. قال الطيب صالح: لقد عشت اكثر من نصف عمري مع «الخواجات» في بريطانيا وأفدت منهم كثيرا. بين اهم ما تعلمته منهم ان الثقافة فوق السياسة، وانها بطبيعتها الفكرية تنفر من التحزب، ومؤكد انها اخطر من ان تلتحق بالسياسة او تصير اداة لها، مع استثناء المبشرين. واخطر ما يمكن تسجيله على مثقفينا ان يفيدوا من الانحطاط السياسي لضرب الصح في التراث والتبرؤ من اهلهم وتشويه وجدان الأمة.
في لقاء او مناقشة اخرى سمعته يقول: اذا تمكنت السلطة من مصادرة حياتنا وظل وجداننا سليما، امكن الانتصار في معركة المستقبل. اما اذا اصاب التشوه الوجدان واسقطنا القدرة على تصحيح المسار فسيمتد الفساد الى مختلف جوانب حياتنا ونخسر المستقبل. لا يبنى المستقبل الافضل بثقافة مشوهة او تبعية ثقافية تضرب ثقة الانسان بنفسه وبقدرته على التغيير وبحرصه على هويته.
وأثير موضوع اللغة وهل هي «صالحة للعصر ام انها باتت خارجه»، فقال الطيب صالح: لقد عشت عمري مع الانكليز. ليس اكثر منهم فخراً بلغتهم وموروثهم الثقافي. اعرف ان ثمة محاولات لتحطيم اللغة العربية واستعارة مفاهيم وأساليب غريبة وفرضها على الجمهور. لسنا أقواما بلا تاريخ، بلا ذاكرة، بلا ثقافة.
دار نقاش شارك فيه بعض الساهرين، وبين أبرز ما قيل فيه:
ـ لم نكن عبر تاريخنا مجرد قبائل مقتتلة. لسنا شعبا واحداً. هذا اكيد. لكن ليس من بلد يقطنه شعب واحد منذ بدء التاريخ وحتى اليوم، لا فرنسا ولا خاصة الولايات المتحدة. ومعظم البلاد تضم اكثر من قومية، لكن اللغة والثقافة والمخزون الثقافي هي بطبيعة الحال نتاج الاكثرية. حتى اسرائيل، نراها كتلة صماء، كأنما الاسرائيليون وُجدوا في فلسطين على امتداد التاريخ، وهذا ادعاء كاذب. وليس صحيحا ان اسباب تلاقيهم ومن ثم توحدهم، على اختلاف هوياتهم الوطنية ومنابتهم الفكرية وانتماءاتهم السياسية اخطر بما لا يقاس مما يجمع كل شعب من شعوبنا.
[ [ [
لم يكن الطيب صالح «قوميا عربيا»، لكنه لم يتنكر يوما لهويته واهله وسودانه الذي كان يراه عربياً ـ افريقيا، ويتمنى ان يتسع نظامه لكل شعبه ديموقراطياً…
ولقد انطفأت اضواء «عرس الزين»، واختتم الصامت منذ دهر «موسم الهجرة الى الشمال»، رحلته الى «دومة ود حامد» بالاستقرار في الوجدان كعلامة مضيئة على طريق الابداع، خصوصاً في عالم الرواية.
ومع ان الطيب صالح الذي يتأمل كثيرا ويكتب قليلاً، كان قد انطوى على ذاته منذ زمن طويل، الا ان جيلين عربيين، على الاقل، قد افادا من نتاجه للارتقاء بذائقتهما الأدبية، واسترشدا بأسلوبه السهل الممتنع وهما يحاولان كتابة الرواية، او يسافران به الى الشعر.
ليس المبدعون السودانيون كثرة، وتحديداً المعروفين منهم ممن وصل نتاجهم الى القراء العرب في دنياهم الفسيحة مخترقاً حواجز الرقابة وكلفة الشحن وربح التاجر وفقر المشترين… لكن بعضا من هؤلاء المبدعين قد تخطى الحواجز جميعاً واحتل حيزا من وجدان هذا الجمهور العريض، أولهم وأخطرهم الطيب صالح، يليه الشاعر محمد الفيتوري، ولعلهما من ابناء الجيل ذاته.
على ان الفارق هائل بين شاعر منبري جعل من قصائده السياسية منابر دعوة الى الثورة، وروائي متلفع بالصمت يبني شخصياته برهافة حسه وعمق تلمسه كوامن النفس الإنسانية وصدام العواطف والمطامح عبر الهويات المختلفة، حتى تتكامل الرواية فإذا هي مختبر إنساني عظيم يكشف المخبوء ويتلمس عبر الانفعالات كوامن النفس، فإذا هي تتقطر على سن قلمه حياة عفية.
ولقد عاش الطيب صالح دائما داخل عالمه الذاتي، سواء يوم كان موظفاً في القسم العربي في هيئة الاذاعة البريطانية، في لندن التي امضى فيها زهرة شبابه، ولعلها قد وفرت له النسيج الداخلي لروايته الباهرة «موسم الهجرة الى الشمال»، أو بعدما تقاعد وعاد الى التسكع بين الخرطوم والقاهرة وعواصم اخرى من دون ان يهجر لندن تماماً.
هل المبدعون عموماً يفضلون الانطواء على الذات، تاركين لاعمالهم ان تبني لهم المكانة وجمهور المعجبين، ام ان الطيب صالح كان متفوقاً في التسلل خارج اطار المبدع الذي لم ينل أي روائي عربي آخر ما ناله من شهرة واسعة ومن مكانــة ممــيزة في الأدب العربي المعاصر، جاءته بأخطر الجوائــز وأعظــمها قيمة معنوية، من دون ان تبــدل في طبيــعته او في ســلوكه حرفاً واحداً.
كان للطيب صالح عالمه الخاص الذي لا يدخله الا اصحاب الحظوة، من اصدقائه المقربين. بل لقد افترض البعض انه يهرب من شهرته، ناظراً إليها كمصدر للازعاج. وكان يحاول ان ينكر نفسه اذا ما هاجمه بعض المعجبين في لحظة غير مناسبة… فإذا ما اضطر الى المشاركة في منتدى او في لقاء ثقافي او حتى في سهرة اجتماعية، فضل ان يستمع، فإن اضطر الى الكلام اختصر. اما اذا سمع الاطراء فكان يطرق خجلاً، ويكتفي بالقول ان الكتابة كانت مجرد هواية، وان الرواية كانت تجربة ممتازة، لكن النجاح الهائل الذي لاقته «موسم الهجرة» قد اربكه في نتاجه بعدها، اذ جعلها النقاد قمة عالية، ثم جاءتها الجوائز العربية والدولية تترى، فبات عليه ان يتحدى نفسه ليتجاوزها، وليس هذا شرطاً عادلاً، فالكاتب يجب ان يكون ذاته ليبدع…
انه زمن الخسارة مضاعفة: بينما يعيش السودان لحظة خطر على كيانه ووحدة شعبه، يختتم اعظم كاتب انتجه «هجرته» التي لا عودة منها، قبل ان يكمل حديثه معنا الذي كنا نتمنى لو استمر طويلاً… طويلاً.
أحمد طبارة يوقفنا في «محطاته» الساخرة
فاجأنا احمد طبارة، مرة جديدة، فإذا هو يملك موهبة الكتابة بمزيج من التحليل النفسي والطرافة ذات النكهة البيروتية المميزة والاسلوب النقدي الذي يقارب السياسة بالموقف اكثر مما بالرأي الشخصي.
ولقد عرفنا احمد طبارة وجها بيروتيا مشرقا يدور غاضبا في سعيه لحماية معالم بيروت وتراثها العمراني، محتجاً على اهمالها وعلى «تجريف» حدائقها والتآمر على الشجرة فيها، كما على جعل الانتماء إليها كأنه امتياز لفئة يُحرم منحه للآخرين الذين اتخذوها هوية ومجالا مفتوحا لابداعاتهم وانشطتهم الثقافية والتجارية والعمرانية.
كذلك، فلقد كنا نسعى الى السهرات او اللقاءات التي يشارك فيها، ليس فقط لانه صاحب موقف سياسي ثابت لا تبدله المنافع او الغرائز، بل تزيده التحديات صلابة، بل لأن له اسلوبه المميز بظرفه ولطائفه وخزين ثقافته حيث تختلط المدرسة الفرنسية بالمدرسة الاميركية وان ظلت المقاصد العنوان بنفحتها الاسلامية المميزة.
أما المفاجأة فتتمثل في ان احمد طبارة جاءنا بهدية ثمينة: كتاب يحمل عنوان «محطات»، وقد جمع فيه بعض انطباعاته وآرائه وتعليقاته، وفيها الاجتماعي والسياسي، وإن ظلت «بيروت» بأهلها وملاحظاته عليهم العنوان الأبرز.
تكفي العناوين دليلا الى ما أراد ان يقول احمد طبارة في مغامرته الجديدة التي اتخذت شكل كتاب بغلاف وردي أنيق: باب النيابة، سجادة ثمينة،كان ذلك سنة 1860، القصة تأكل القضية، مسخرة، عودة القيصر، سيسون، اليهود يهود، الفولكلور المهين، وطن، نصف زائداً واحداً يساوي صفراً، عجقة والحارس سهيان، زبالة وزفت، وطن بلا رصيف، تماثيل، آخ يا بلدنا، للسائل حق، اصح يا نايم، احترموا موتانا، اغتراب: شجرة ومؤتمر وقصر، الشهيد رشيد كرامي، فيصل طبارة، الاب يوحنا قمير… الخ.
نقتطف هنا مقطعاً من «الخاطرة» الأولى وهي بعنوان «باب النيابة»:
«قيل لي ان بابها من الجبانة، فذهبت كسواي من الطامحين الى السلطة، اعزي الغريب والقريب. تعرفت على الكنائس كلها، وزدت معرفتي بالمساجد كلها، حشرت نفسي في مقدمة الحضور، ومسحت وجهي بلمحة أسى. صافحت بحرارة وضغطت على الأيدي كي يتواصل تيار الحرارة. عانقت من لم أر في حياتي وقبلت كل من رحب بي. حتى منافسيَّ على السلطة قبلتهم وبعد ذلك هم لعنوني وأنا لعنتهم وصرت بين الأموات معروفاً فحنوا علي، واوصوا بي ورثتهم واصدقاءهم معروفاً، واقترب يوم المعركة فصرت أنبش عن الأموات في الجرائد، وإذا لم يكن هناك اسماء ارسلت من يبحث عنها على ابواب المساجد، وإذا بي أسير لعبة بلهاء».
أحمد طباره، نتمنى ان تواصل النقش بالكلمات. انك مبدع كرسام كاريكاتيري، مع فارق انه يعتمد على المبالغة أو المفارقة وانك توصّف الواقع فإذا هو «مضحك» أكثر من الرسم.. «وكم في لبنان من المضحكات، لكنه ضحك كالبكا»، مع الاعتذار من مصر حيث حل البكاء محل ضحكتها المجلجلة.
فضل شرورو ذهب إليها ليعيش مرة أخرى
يعطي «الفلسطيني» حياته لفلسطين مرة حين يولد ثم يعطيها حين يحين موعد الرحيل مساحة إضافية في الوجدان وفي تجديد الزخم النضالي من أجل تحريرها. لكأنه يذوب فيها مجدداً الايمان بقضيتها المقدسة عبر أولاده وأحفاده الذين يجيئون ليواصلوا الجهاد.
فضل شرورو عاش حياته لفلسطين، أعطاها عصارة عمره من دون ادعاءات أو تبجح. درس ثم اكمل دراسته حتى الدكتوراه ليكون جديراً بها. عمل في خدمة العمل الفدائي بعدما اختار المجال الذي رأى انه يستطيع ان يقدم فيه إضافة ما، وهكذا فقد «تطوع» في الاعلام، مشرفاً على المطبوعات، ثم متصدياً لمهمة اطلاق إذاعة القدس التي زادت «الربط» بين فلسطين الداخل وفلسطين الخارج، فضلاً عن انه كان رجل المهمات الدقيقة، وتسوية الخلافات بين الرفاق، مستفيداً من طبيعته المتسامحة وظرفه واخلاصه لقضيته.
ولأنه ممن «اصابتهم لوثة الثقافة» فقد جمع صداقات مميزة من الأدباء والشعراء من «الداخل» والخارج.. فكان بين «ندامى» مظفر النواب وحفظة شعره.
ولأنه كان متحرراً من الحزبية والعصبوية، برغم صفته القيادية في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ـ القيادة العامة، فقد استطاع ان يكون كاتباً صحافياً ناجحاً… وتشهد صفحات «السفير» بكتاباته الموضوعية وتقاريره الذي تطوع لكتابتها مطلع كل شهر، مقدماً فيها معلومات جديدة وتحليلات رصينة، مع ربط دائم بين «الداخل» و«الخارج» وإثبات لموقع فلسطين الأساسي في الأحداث العربية.
ولأنه فلسطيني كما يجب ان يكون فقد تولى اطلاق إذاعة «القدس» وجعلها رابطاً دائماً، بالصوت، بين أهلها في الداخل وأهلها في الخارج.
لكأن الفلسطيني لا يموت. هو فقط يذوب في المقدَّسة فلسطين فتتجدد وتجدد أجيالها ليكونوا جديرين بتحريرها كي تكون لهم (ولها) الحياة.
ولقد ازدحموا في وداعه وعاهدوه، من أمام ذلك المسجد في دمشق، على ان يتبعوه إليها… حيث سيعيش مرة أخرى.

مــن أقــوال نســمة
قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ يفرحني ان يلوح لي حبيبي بيده وهو في طريقه إليّ، بينما يشع وجهه بابتسامة الفرح باللقاء. انه يقول لي انه لي. انه يستبق بها العناق. ما أحب اليد التي تملأ الأفق قبلاً.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى