منهل السراج

الحلقة الثالثة من رواية “كما ينبغي لنهر”

null
منهل السراج
منذ أن مرض أبوها، ثم توفي، وأشجار الحديقة تحتار في حملها. في كل عام تحمل ثمراً جديداً، فمنذ عامين كانت شجرة الكريفون شجرة كريفون، أما بعد ذلك فقد أصبحت شجرة برتقال، ثم تحولت إلى شجرة نارنج، وفي هذا العام حملت ثمراً له طعم الليمون ومرارة النارنج، بينما قشره قشر الكباد ولبه ولونه لب برتقال ولونه.
هبطت الدرج ملتصقة بأغصان “العراتلية المتعربشة” على الأحجار الكبيرة. تفقدت الأحواض التي تحيط بأرض الدار، تتخللها أبواب الغرف، غرف لقضاء شتاء دافئ، وغرف لقضاء صيف بارد، أما حصة الربيع والخريف فستكون في الباحات المكشوفة على السماء. ملأت سطلاً من الماء وسكبته على رخام البحرة، هبطت الدرج عابرة القبو الثاني المملوء بأغراض الغائبين، خزاناتهم وأسرّتهم، فرشهم ومناشفهم. لم تطل الوقوف. لتفقد هذه الأشياء وقت آخر.
هبطت درجاً آخر ودفعت الباب داخلة قبو القبو. فكرت:
“لابد أن تربة أبي جفت، ترى يقوم عبد الحكيم وجميل بزيارة القبور كل خميس،كما يزعمان؟”.
غداً تعد طبخة “مغمومة” وتدعو عمها عبد الحكيم وتسأله.

عندما دعتها أمها لتختار بين أشياء أبيها بعد رحيله، اختارت الكتب الصفراء المغبرة، وبعد انتهاء ضجيج أهل البيت لملمت أشياء أبيها الصغيرة ووضعتها في كيس صغير، قبّلتها وبكت:
“لن يسمعني. هل تعود سنوات الطفولة كي أرتبها وأقول لأبي: أحبك؟”.
صباح موته لم تصدق أنه أصبح تحت التراب وحيداً في الصيف الحارق، وتحت الأمطار والعواصف في الشتاء البارد، بينما مازال أصحابه يلفون سجاداتهم الصغيرة تحت آباطهم، متوجهين إلى البحرة القريبة عند الكورنيش الجديد، ليصمتوا معاً ساعة ثم يعودوا قبل صلاة العشاء.

ارتدت معطفاً قديماً وحذاء خفيفاً، حملت الدلوين في كيسين أسودين، أغلقت باب البيت الكبير ومضت إلى سوق الخميس.
فوجئت بالازدحام، ضاق صدرها. جيل جديد من الأولاد يكبر بدون أن تطاله يد أبو شامة. رغم انهماكهم في الشغل يبدو على وجوههم الجوع والنعاس. بضائع مختلفة زهيدة الثمن ملأت الأرض المبقعة بالزيت وغيره. وضع أحدهم كتلة صوف أمامه، كأنه هرّبها من فرشة أمه، يريد بيعها وهو لا يكف عن التثاؤب. صبي آخر يبيع أشياء صغيرة: فتيلة قداحة، كبريت.. وينادي بصوت حاد على بضاعته. آخر يبيع علكة منتهية الصلاحية، وبضع سكاكر مكشوفة تبدو في هذا الحر غير مثيرة لشهية أحد. تربعت امرأة على خرقة وراحت تشير بيدها إلى ثوب قام ابنها بعرضه على الزبائن، ثوب مستعمل مقاس طفلة في العاشرة، قماشه بنفسجي اللون من النايلون اللامع، يناسب امرأة تريد إغواء زوجها بسعر رخيص.
وقف شاب في الزاوية اليمنى أمام كومة هائلة من الأخفاف المنزلية البلاستيكية، كل فردة مربوطة بأختها بخيط، شحاطات حمراء، زرقاء، فستقية. صف من الهواتف الصينية التي ربما تكون معطلة أو ستتعطل بعد أول استخدام. أشرطة تسجيل تنوء تحت أشعة الشمس القوية، ينطلق من بينها صوت غناء يشبه العويل يتخلله إطلاق رصاص، لا بد أنه تسجيل لحفلة عرس.
اشترت بضع أعواد من الآس وضمتها في حزمة.
ركبت الباص الذي يصل إلى مفرق برية القبور. لم تطلب من أحد إيصالها بسيارته، خجلها من أن تثقل عليهم، كذلك رغبتها في تلاوة الفاتحة تاركة لملامح وجهها سجيتها في التعبير عما يعتمل في داخلها، دونما رقابة أوشفقة أومشاركة.
ستبحث عن القبر في بداية المقبرة أوفي نهايتها وفي وسطها في مكان ينبئ أن من يستلقي هنا هو أبوها. ظل شهراً كاملاً تحت التراب من دون شاهدة رخامية، لاشيء يخبر عنه سوى تحدب بسيط في التراب.
ها هي شاهدة قبره خلفها إلى اليسار، بينما كانت تبحث عنها في البعيد، شردت:
“قبر أبي يشبهه في حياته، ساكناً ومستوراً”.
حجم قبره وسط، طول الشاهدة وسط، والتربة مشققة، عطشى، سكبت الماء بلطف على كامل السطح وغرزت نبتتها بهدوء آملة بعث قليل من هوائهم ونور نهارهم إليه. قرأت الفاتحة ونظرت إلى القبور، أمها وأم الحب وجميع الشباب الذين ماتوا ودفنوا أولم يدفنوا. سحبت قدميها المتشبثتين بالأرض الترابية:
“ربما آن الأوان”.
ستأتي محمولة لتستريح مع العائلة النائمة. كانت المرة الأولى التي تجرأت فيها على زيارة الموتى، مع أنها لم تنس أحداً منهم، المقبورين تحت التراب والمقبورين في علم الغيب. غادرت المكان متحاشية الوطء فوق القاطنين، خفت بحركة قدميها وودّعتهم بفاتحة أخيرة.
عندما دفعت الباب الكبير للدار أدركها دوار مفاجئ، كانت صورهم تتداعى، كأنهم لم يغادروا، أوأنهم غادروا للتو، رمت الدلوين الفارغين خلف الباب الكبير، وجلست بجانب الحنفية تسترد أنفاسها بهلع:
“ما معنى هذا؟ يا رب لا توقعني في مكروه المرض، من يخدمني؟”.
تذكرت آسفة أنها نسيت غداء أبو رحمون. قامت بتثاقل منادية ابن عمر كي ترسل معه على عجل الصحون المعتادة، صحن أبو رحمون وصحن لميا، من دون أن تنسى سندويش الولد الذي سيقوم بالمهمة. نامت من بعد العصر حتى الصباح التالي في استغراق على غير عادتها.
قضت يوم الجمعة تراقب التلفاز مستلقية على الكنبة، متوجسة من المرض.
قررت أن تقوم بزيارة الطبيب صباح السبت.
يبدو صندوق الجدة بالسجادة التي تغطيه من كل الجهات، مثل كنبة جلوس، أوسرير، أوركن غامض، له أربع قوائم خشبية قصيرة على هيئة كرات محزّزة، تستند إلى البلاط بقواعد معدنية تشبه العملة القديمة، أما قفله فصفيحة رقيقة مزخرفة بكتابات ورسوم مقصوصة الأطراف تبعاً لمتطلبات نهاياتها الدقيقة، أوراق كرمة، أغصان نخلة، خطوط تميل باتجاه النهر أوالهواء.
في داخله بيوت خشبية ذات أشكال هندسية صغيرة، مرصوصة على الجانبين، صُمِّمت كي تحتوي الأشياء الناعمة التي ربما كانت لأقراط الجدة أوخواتمها أودبابيس شعرها حيث مازالت الخدوش تنبئ عن محتوياتها الغائبة، وبين هذين الصفين من خصوصيات الجدة ينحدر فراغ عميق وعريض، يبدو أكبر حجماً  مما يوحي به حجم الصندوق من الخارج، يحتضن ماضي أفراد العائلة الغائبة. لونه بلون الخشب النظيف، على جدرانه كتابات الأطفال، يتهجون الحرف والأرقام، ينشدون قصائد جزلة عن حب الوطن، والأوطان المجاورة. كانوا يجلسون ساعات على أطرافه ممسكين أقلاماً قد بريت بالسكين ليسجلوا على قلب الصندوق أسماءهم وأسماء آبائهم، أمهاتهم.. اسم النهر والمدينة. رسموا الشجر مائلاً باتجاه الضفة المقابلة. مازال أثر دم أحد الأولاد ملطخاً طرف الصندوق، عندما اندس فيه مغلقاً الغطاء بعنف على إصبعه، كي يبتلع “الشوكولاتة ” التي سرقها من درج جدته.
فتحت عينيها بتثاقل وزفرت. راحت تعد قهوتها، لم تكن لديها تلك الرغبة الأزلية بتناولها. فكرت بإعداد بعض الحلويات لعيد ميلاد ابن بنت خالتها، لكن القلق منعها من ممارسة متعها المعتادة، ارتدت معطفها وحملت حقيبتها مع مبلغ إضافي متجهة إلى عيادة طبيب تعرفه.
استغرق فحصها ساعة كاملة، بدأ من رأسها وانتهى بإصبع قدمها، كانت تستطيع أن تقرأ انطباعاً غير مريح في وجه الطبيب الذي يعرفها جيداً وتثق به، لم يخبرها شيئاً، طلب إجراء تحليل لغدتها الدرقية التي كانت تتضخم لسنوات بدون أن تكترث لها.

دفع زوج فطمة  الباب في الواحدة ليلاً، جرّها من سريرها إلى عتبة بيته المقطعة بالأدراج ورماها على الأرض، ممسكاً رقبتها بكفه العريضة ضاغطاً بأصابعه. صرخ بكلمات كثيرة ونابية، كان فمه المزبد يتلعثم راغباً أن يكيل في لحظة كل الشتائم التي يحفظها، وأن يصفعها بها:
ـ زواج مثل السجن؟ تحمّلت غرورك، من تظنين نفسك؟ سوف أكسر هذا الرأس وهذا العناد وأربيك و..
نامت ليلتها تقاوم اختناقاً وألماً شديداً في عنقها، مستحضرة بغضب شموخاً ضائعاً ومتخذة قراراً طالما أجّلته. في الصباح نظرت أختها ليلى إلى عنقها متسائلة عن هذا التضخم الذي لم يكن موجوداً في اليوم السابق.
في ليلة زواجها قبّلها أبوها من جبينها مبللاً رموشها بدموعه، ثم أرسلها إلى العرس بسيارة صفراء مزينة للمناسبة. كانت حفلة عشاء رقص فيها الجميع وقفز أمام عينيها فيما كانت تفكر بالليلة القادمة.
تذكرت يوم تعرفت عليه. كانت تبحث عن طريقة تتخلّص فيها من “الزن” الذي تمارسه الجدة ليل نهار، عن الفتاة الطيعة التي تتزوج وتنجب.
نظرت إلى عينيه الكبيرتين وصدره العريض، قاطع إعجابها قائلاً:
ـ أتتزوجينني؟.
فوجئت وقبل أن تنبس بحرف قال:
ـ ستسألينني كيف أطلب الزواج من فتاة لا أعرفها، لكني سمعت عنك وكنت أرغب أن أتعرّف عليك.
ثم بلهجة ساخرة:
ـ كي أكسر غرورك الذي يتحدثون عنه، لكني عدلت الآن إلى قرار الزواج.
شردت:
“إنه يشبه أبطال يوسف السباعي”.
خُطبت وانشغلت بالعريس الذي كان يتردد يومياً على العشاء يتبادلان الحديث عن تجهيز البيت والزواج ممتلئة حتى الثمالة بتفاصيل الجهاز والذهاب يومياً إلى الخياطة الكذابة. باتت تتكلم مثل الجارات عن كذب الخياطة وشطارتها بتركيز القبة والخصر مهما كان الموديل الذي تختاره، أما علة التأخير بموعد إنجازها الثوب فسوف تغفرها لها.
تقيس الثياب العديدة التي يحتاج كل منها إلى ثلاث مرّات من التجريب حتى يصبح جاهزاً، ثم تكوى وتوضع ضمن كيس من النايلون، وتعلّق في الخزانة لامعة جديدة بانتظار يوم الزفاف. أصابها الملل من كل شيء، آن لها أن تتزوج وتنجب طفلاً، كما أنها نسيت الكتب التي قرأت كرمى لرفيق الدرج.
في الصباح الباكر للعرس غادرت مع زوجها إلى البحر، تاركين النهر والضفتين وحارة زوجها والمدينة.
جلس بجانبها مهموماً:
ـ كيف يكون العسل؟.
لم تستطع أن تفهم سبب صراخه باكياً كي تساعده على هذه المهمة الصعبة فأمه تنتظر هاتفه. قال لها:
ـ العملية صعبة في البداية فقط، وبعدها ستكون لذيذة جداً. هل كانت تحتاج أن يطمئنها، أم هو من كان يحتاج إلى السكينة؟.
تعرّت وبعثرته، كل عوالمه التي عرفها وأدركها هربت إلى مكان مجهول،كل شيء ممكن، إلا أن تنظر في عينيه، وتتعرى بهذه البساطة ثم تستلقي بجانبه، فكر، يجب أن ينجح، ابتلع ريقه:
“أريد أن أهرب من هذا الجسد المستفز”
هرب منه، إليه:
“كيف سأقضي الوقت وهذا العمر مع فتاة بهذه الغرابة؟ أريد أن أبقى، أريد أن أهرب، أعود، أبتعد، من هذه تماماً، من أنا حتى أكون زوجاً لها.. دوّختني؟.”
شدّها إليه، باغتته الرائحة وألوان الحنطة، كان يقطب مثل هر:
ـ رائحتك مثل رائحة طين الأرض، كأن فيك حكايات وأساطير.
أشفقت عليه، وضعت يدها على فخذه مربتة، تنهدت، لملمته بلمسات خفيفة، استجمع قواه، عاد يتساءل:
“هل هو هش إلى هذه الدرجة؟ هل ابنة النهر والحارة والبيت الكبير قادرة على أن تتغلب بأنوثتها على جبروت رجل اعتاد تشرد أهل بلده، أناس محصّنون بألف حصن؟.
في غفلة منه ومنها انتهى كل شيء، لم تكن العملية صعبة كما ظن. جلست القرفصاء أمام حقيبة السفر  وأصرت بعناد أن تنزل قطرات دمها على الأرض. أطالت القرفصاء فوق قطرات الدم شاردة في النخلة وفي رفيق الدرج، في البيت الكبير وأم الحب ولميا.. ارتجفت حين قال:
ـ امسحيها بخرقة واحتفظي بها.
نظرت إليه شزراً، كانت قد نسيت وجوده تماماً، استيقظت صفحات من كتاب قرأته. ولاّها ظهره وصفق الباب، غاب عنها ثلاث ساعات. شعرت بغربة الليل والبحر وصوت الغناء البعيد.
إنها ليلتها الأولى من الزواج وهي تقضيها خارج المدينة بعيداً عن النهر والنخلة وأم الحب.
لم تقدّر أنه تركها كي يتصل موقظاً أمه قائلاً:
ـ قوّسنا الضبع.
ثم يستمع  لزغاريدها معاتباً ومشجعاً في آن واحد:
ـ أمي لِمَ هذه الزغاريد؟.
كان يرغب أن يسمعها الجميع، فهي زغاريد أم العريس التي انطلقت لتعلن عن رجولة ابنها، وعذرية كنتها.
لم تكن أيام العسل القادمة عسلاً. قضتها في الذهاب إلى الطبيب لتعالج التهابات أبت أن تغادرها، قالت أم الحب:
ـ لم يكن بإمكان رحم فطمة قبول عَرَق غريب عنها.
باتت في الشهور التالية تشتاق للبيت الكبير وأبيها وأم الحب، أمام مهاترات الحماة وبناتها اللواتي لم يمللن “النق” على أذن زوجها، في كل قضية:
ـ تنظيف البيت والطبخ والترتيب و وو..
أمام مواهب الأم والأخوات وتكتلهن في وجه فطمة. لم تصمد:
“أصابني الملل منهن ومنه”.
كان لزوجها أختان عانسان تتخاصمان أياماً طويلة على خلاف حول مسح أرض المطبخ، أو طريقة إعداد طبخة، إحداهما تضع باقة البقلة لكل أوقية لحمة، فيما الأخت الأخرى تفضل باقتين لكل أوقية من اللحمة، وهكذا تظل الأولى تضيف اللحمة والثانية تضيف البقلة حتى تضطر العيلة أن تأكل بقلة باللحمة مدة أسبوع. قضت الأختان وقتاً مسلياً بالكنة الغريبة، باتت حديث وشوشاتهما عندما تتصالحان. في الصباح وبعد التناحر على الجلي أو على إعداد الفطور كانت كل منهما تشتكي للأم تواطؤ الأخرى مع الكنة.
كانت قادرة على سماعهما مكتفية بسخرية أولاد أخوة الزوج من العمتين، فيما حموها الفران، صاحب العينين الساحرتين والصدر الواسع، على رأي نساء حارته، يقضي وقت العمل غامزاً كل يوم امرأة من زبائنه كي تأتيه في دور النسوة، كآخر زبونة تريد شراء الخبز. وعلى دفء بيت النار وأكياس الطحين، يناولها حصتها من الخبز ومن الحب، صارفاً العامل الذي أدرك أخيراً سبب تأجيل معلمه تكنيس الفرن إلى الصباح.
يقال إنه داعب معظم نساء الحارة وربما ترك بعضهن حاملات ثمرة الحب المسروق، مع ذلك لم تغضب منه امرأة، مارس هوايته في اصطياد النساء من دون تفكير طويل، فالحلم كان أكبر: العودة إلى الأوطان.
يستدعي الذكريات في السهرات، ويحكي..
منذ سنين خرج من أرضه مع من خرجوا، كان الأمل أن يعودوا بعد سبعة أيام. سكنوا قلعة المدينة، وعلى سفحها استقروا شهوراً. ثم صاروا يتنقلون إلى أن انتهوا في بيوت طينية صغيرة، قضوا الوقت في تطيينها منتظرين الإعاشة في نهاية الشهر، سكّر ورز وصابون وأحياناً زيت وسمنة وأشياء أخرى. كل يوم يستقبلون شهيداً، يحزنون عليه بشدة واحدة، وينسون بالسرعة نفسها. عاشوا قريباً من حارة فطمة فامتزجت عاداتهم بعادات المدينة، وضعت النساء أغطية على رؤوسهن وتعلم بعض أولادهم في مدارس المدينة.
انصرف هؤلاء اللاجئون إلى الحلم بالتعويض الذي سوف يصرف لهم، على أراضيهم المغتصبة، فهذا المال يسمح بالسفر، أو بالزواج، أو بتوسيع دكان صاحب العيال ويسمح بأحلام كثيرة صغيرة وصغيرة.
سكنت فطمة في الطابق العلوي، في شقة تطل غرفة نومها على فرع ضيق من حارة اللاجئين. كل من سكن هذه الحارة بنى بيته على مزاجه الخاص، بيوت لا تخضع لقانون أو لعرف معماري، أو اجتماعي إلا قدر الوفر المادي الذي تهيأ بصعوبة لصاحب البيت. فحين يصبح لديه ألف، يعمر غرفة بألف، وحين يزيد عدد أولاده، يقسم الغرفة الكبيرة إلى غرفتين وقد تضيق الأحوال به فيقلب غرفة الأولاد دكاناً وينام الأطفال على سقفها، يبيع فيها ما قد تحتاجه الحارة. وهكذا تحولت حارة اللاجئين إلى أسقف متفاوتة الارتفاعات، ونوافذ واطئة صغيرة ذات زجاج محجر وستائر ملونة ليست أكثر من خرق ملابس قديمة ومهترئة، قميص قطني ألصق الكم بالبدن ببراعة، بنطال من الكتان البني فُردتْ الساقان وخيطتا معاً لتشكلا غطاء للشرفة أوالنافذة، قميص الزوجة النايلوني، هُيئ بتدبير وخبرة ليكون ستارة، توضع وراء باب البيت المفتوح ليل نهار، تستر صاحبة البيت من جهة وتسنح للهواء ولكل الضيوف الدخول في أي وقت يشاؤون.
أكملوا لفطمة غرفاً كانت فوق السطح، جمعوا كل ما يملكون في إعدادها لابنة أخ العم نذير، ظانين أنهم سيغمرونها بالسعادة، فهذه أول عروس في حارتهم تنام على أثاث خشبي، تواليت زينة وكنبات، ثلاجة كهربائية وأرض بلاط وجدران مدهونة وبعض الزهور الاصطناعية.
كانت تتعثر بكثرة الدرجات الموجودة في الشقة جرّاء المواعيد المتفاوتة لبناء غرف الطابق الأعلى، وعشوائية بناء غرف الطابق السفلي. تحتاج أن تصعد ثلاث درجات كي تدخل غرفة النوم. أما المطبخ فلكي تصل إليه كان عليها أن تهبط خمس درجات تتخللها مائدة صغيرة، فهو ليس أكثر من سقيفة بنافذة حديدية تطل على سطح الجيران، كانت تخشى أن يتوفر مال مع الجيران فيكملوا عمارة السطح ويشاركوها النافذة وطاقة الحمام.
رغم افتقادها للشجر واتساع أرض الدار التي تربت فيها، لم تكره الحارة الجديدة، رأتها حالة نادرة من الدفء والتحام أناس جاؤوا من قرى ومدن مختلفة بلهجات متباعدة ليأتلفوا في حارة القلعة. حلمت طويلاً في فترة الخطبة بشعر الأرض المغتصبة، دندنة العود ورائحة البيارات البعيدة، أخبار الأبطال وقصص الشهادة والاستبسال، قرأت كتبهم وتابعت أخبار النضال هناك.
كل ذلك تبدد. وقضت فترة الزواج تنتظر عودة الزوج من غذائه مع زميلته في المقاهي الجبلية وتصبر على حماتها التي لا تكفّ عن تذكيرها بأن الشقة ليست لها بكاملها وستأتي  الكنة الجديدة المطيعة لحماتها أولاً ولزوجها ثانياً، وتقاسمها البيت وتجهيزات المطبخ.
كانت ليلى تحتج دامعة:
ـ كيف يمكن لأختي أن تؤسس بيتها وتنجب أطفالاً؟.
انزوت فطمة في بيت الزوجية، تحاول تجميله. كان لمديح العم أبو الزوج، تأثير داعم، حين يغارد شقتها هابطاً إلى بيتهم يقول:
ـ كمن كان في حارة الضفة الأولى، ثم هبط فوراً ليجد نفسه في سوق الخميس.
كانت نساء حارة القلعة يغسلن ثياب أولادهن وأزواجهن وينشرنها متفاخرات. تراقبهن فطمة وتفكر بأنهن عكس نساء حارتها، يستعرضن أنوثتهن التي تتمثل لديهن في أصابع أقدامهن ورائحة عرقهن، يرقصن وهن يطبخن أو يغسلن أو حتى وهن يؤنبن أولادهن، يكرمن الزائر بصحن “محشي” أو”صيادية” أو”روشتاي”: ليس هناك أهم من الطعام والغذاء. قد لا تلمس فرقاً كبيراً بين ملوخية زادة أو ربيعة، أختي الزوج العانسين، لكنهما تتصارعان ساعات وقت تحضيرها، بل ربما تظل الأختان شهوراً في قطيعة تامة بسبب خلاف حول طريقة تخفيف النار آخر دقيقتين من إعداد الرز. أما عندما تتصالحان فسيكون أول حديث بينهما هو طريقة إعداد “المفتول ” والذي ينتهي بغضب ربيعة بسبب شهادة الحاضرين أن مفتول زادة أكثر جودة من مفتول ربيعة.
أصبحت فطمة قريبة جداً من أمها التي تستمع إلى مشاكل بيت حميها بتعاطف أدهشها:
ـ حين أكون مثل بقية النسوة سأجد كل الحنان والحب، أما المشاكل التي أوقع نفسي فيها، فلن أجد من يصغي إلي ياأم الحب.

عادت إلى بيتها متثاقلة، رمت حزمة مفاتيح الأبواب على الكنبة: مفتاح القبو، وقبو القبو، السطح والباب الكبير.. رغم أن الأبواب كلها تفتح بالدفع الخفيف، ومع ذلك فإنها لاتتخلى عن حزمة مفاتيحها. طوت غطاء رأسها ووضعته في الخزانة بين كيسين من “الدريرة”* التي اعتادت رائحتها في زوايا خزائنها، صارت الرائحة تقترن لدى أنوف الجميع بقدوم فطمة. بدأت تلازمها منذ إعداد حقائب زواجها.
قالت لها جارتها العانس وهي تتشمم أغراضها:
ـ أنت دخلت دنيا، أما أنا فلم أجرب، الله يسامحها أمي حرمتني، وهي تعيب كل الخطّاب، حتى انفضوا جميعاً. أنت تعلمين كم كانوا كثراً، تقول منبهة: أمي رفضت أحدهم لأن مستواه ليس  بمستوى خالي، ومرة لأن أهل العريس متكبرون، وأخرى لأن أخي بالجيش وقلبها غير مشته الفرح.. حتى ظللت بجانبها مثل قطرميز مخلل. بعد صمت استأنفت بخجل:
ـ أنا لا يخطر جنس الرجال على بالي..
غمزتها فطمة:
ـ اطلعي من هذه الأبواب، وجارنا عاصم؟.
ـ سيتصالح اليوم أو غداً مع زوجته.
نظرت فطمة إلى تجاعيد وجه جارتها، غير مصدقة أنها بلغت الستين ومازالت تستحي، مع أنها تحب سيرة الرجال.
تحاول فطمة أحياناً وسط انشغالها بأخوتها، أقاربها، بيتها الكبير أن تخمن شكل حياة هذه الجارة. تشاهدها تمسح نافذة غرفتها التي تطل على الشارع مرتين كل يوم، حال لون خشبها الفستقي، تقشر وتداعت عوارضه، لا يمكن لزجاج النافذة أن تصيبه الشروخ على عناية صاحبته به، ومراقبتها الشارع من خلاله. كانت تأتي في بعض الأحيان إلى فطمة تسرد لها أخبار الجيران، وأخبار الحارة التي تلي حارتها:
ـ زوجة جارنا فلان غسلت في الليل، بينما كان زوجها ينتظر عشاءه فضربها و”حردت ” عند أهلها أسبوعاً.. بنت جارنا فلان، هناك بعد عمود الكهرباء، بجانب بيت المختار، تريد أن تكمل تعليمها، لكن أخوتها “حلفوا يمين ” أن تتزوج ابن عمتها.. أم فلان ولدت البنت التاسعة يا لطيف، ” شو” صعبة، لكن زوجها يدّعي الصبر ويقول: الحمد لله.
قد تروي نكتة ما في سياق أخبارها:
ـ ماذا يقول ابن بلدنا قبل أن يخرج من بطن أمه؟.
ـ ماذا يقول؟.
ـ يقول: يا الله ، يا ساتر، تغطوا يا نسوان.
تودّع فطمة فجأة هكذا مثلما تأتي.

تمددت على السرير من دون أن تغير في ترتيبه، سرحت في السقف الخشبي المزخرف والمقطع في أشكال هندسية متداخلة، معيّنات، مربّعات، مستطيلات، مثلّثات.. متاهة. شعرت بالعطش:
“عليّ أن أتجه في الصباح إلى الطبيب كي يسحب رشافة من نسيج الرقبة”.
لم تجرب هذا الشعور:
“لا بد أنه مؤلم، المهم أن لا يسبب لي الغثيان”.
استدارت على جنبها شادة طرف غطائها عليها:
“علي بعد الاطمئنان على نتيجة التحاليل، أن أعثر على وسيلة أصل فيها إلى هذا السقف وأنظفه.
شعرت بثقل المهمة:
“بالتدريج، على مهلي، كل يوم أنجز تنظيف سقف غرفة، ربما يحتاج أن أخلط دواء الغسيل مع زيت الكاز حتى أزيل هذا الغبار المتراكم. من أيام أم الحب لم ينظف، كانت تجنّد الشباب والصبايا لهذه المهمة: غناء، طعام، ضحك وشغل”.
رأت القمر هلالاً قريباً جداً من نافذتها:
“كأنه سيطرق الزجاج، ويضيء الليل، بعد قليل سينعكس في مرآة تواليت الزينة المقابلة للنافذة”.
لكن ما عكسته مرآتها كان باب خزانة ملابسها مرسوم عليه كوخ وشجرتان، جبل، طريق صغير، فوجئت، كل هذه السنين لم تلحظ حقيقة هذه اللوحة أو تفصيلاتها، كانت تراها خطوطاً ملونة تمّحي علائمها في كل تنظيف:
“تحتاج خزانتي إلى ترتيب”. زفرت.
مازال معطف الجوخ وكنزتا الصوف والتنورة المكعبة، وشالها الأسود تحتل واجهتها، تصرّ أن تتأخر في شتائها، وتبكر فيه أيضاً محاولة أن تختصر بقية الفصول، تفضل الربيع والخريف، لكنهما قصيران ضائعان بالفصلين الكبيرين، تتعاطف مع زيارتهما السريعة للنهر والحديقة، فشجرة الليمون في الربيع تنشر رائحتها عند الفجر، وتنفض، بقية النهار، زهورها تحتها. تمتلئ أحواض الورد بالأزهار التي تشبه لون التوت الأحمر، ما إن يتشكل زرّها حتى تتفتح تويجاتها على آخرها، ترتخي وتحترق أطرافها بالشمس، ثم تسقط. تريد فطمة أن تشهد مراحل تفتحها وتشبع منها، أما ياسمينة قبو القبو:
“تلك المجنونة، أين تذهب بنفسها؟، لم تعد المساحة تكفيها طولاً أوعرضاً”.
تدلّلّ كرمتها فتغرقها بماء السقاية، تميزها عن بقية أشجارها، أفردت للعريشة نصف مساحة الحديقة، وجعلت ظلّها يغمر تراب الحديقة وبعض ماء النهر.
تركت مرآتها عائدة إلى القمر، وجدته قد انزوى وبات من الصعب التقاطه إلا من خلال أضلاع الخشب، لم ترغب في ذلك، سوف تتعثر عيناها بلوحة إعلان الخلية الذكية. تغضبها بضوئها الصناعي وحجمها الكبير، تذهب سكينتها فيتحول سهرها إلى أرق.
شربت، على عجل، قهوتها الصباحية، ومضت إلى العيادة تقاوم خوفها وألمها.
استلقت باستسلام على طاولة الفحص، دفعت رأسها إلى الخلف. أدخل الطبيب إبرته الحادة في غدتها وأخذ يسحب بتأن، أغمضت عينيها غير راغبة برؤية السقف.
سيطر شعور شنيع بالاختناق على كل جزء منها، انصرفت كي تسلو:
“لميس الآن في مركز الخلية الذكية تقدم برنامجها، أخذ إعداده من وقتها عاماً كاملاً، الصبية مازالت صغيرة لكنها شفرة ذكاء”.
مازال الطبيب يسحب على مهل:
ـ لم تنجح الرشافة الأولى، قالها بلا مبالاة، اصمدي، سنحاول ثانية.
أخذ يغرز إبرته ويسحبها مرة ومرة. وضع ما حصل عليه بعد الجهد في عبوة خاصة وأوصاها أن تحملها بحذر.
نزلت الدرج متجهة إلى مخبر التشريح المرضي ملبية الأوامر. كانت حاملة نسيج عنقها في عبوة متطاولة محكمة الإغلاق ولحرصها عليها من اهتزاز أصابعها الضعيفة تعثرت أكثر بالطرق المليئة بالحفر:
“هذه الطرق غير معدّة لمشي حاملي أنسجة أجسامهم، في عبوات خاصة مهددين في كل لحظة بالانفجار”.
وصلت إلى خندق من صنع البلدية، مغطى بجسر خشبي من لوحين رفيعين، ترددت قليلاً قبل العبور، لكن قبل أن تحسم أمرها امتدت يد من الطرف الآخر تساعدها، قبلت المساعدة ثم نظرت في وجه صاحبها، كان المختار، سارعت:
ـ أهذا أنت؟.
أجابها بود واستحياء:
ـ كيف صحتك فطمة؟ لماذا هذا الهزال؟.
قالت ساخرة مشيرة بطرفها إلى حقيبته:
ـ ما الذي تسجله هذه الأيام في دفاترك؟ هل أبقيت في سجلاتك أحداً حياً، ممن فقد يوم الجمعة؟.
أشاح بوجهه ثم قال برجاء:
ـ كل الناس نسيت إلا أنت، كأني من قتلتهم، أنت تعرفين أن المصاب طال أخي وابن أخي وخالي وأولاده جميعاً، لكنه عملي، إنها اللقمة.
ـ لا فائدة منكم، سوف تجعلون لقمتكم من لحم أبنائكم، هل سجلت أيضاً اسم أخي أحمد؟.
تابعت طريقها إلى المخبر، وهي تتمتم بالكلمات الأخيرة:
ـ أخذوه صغيراً مبللاً ثيابه ببوله.
أعطت الممرضة البيانات اللازمة، اسمها، عمرها، وضعها العائلي، صمتت. أعادت الممرضة السؤال..
قالت:
ـ مطلقة.
ـ العمل؟.
“بم تجيب؟”
ـ لا أعمل.
عادت إلى بيتها بانتظار النتيجة التي ستأتي بعد يومين.

أخيراً حدث الحمل، من دون أي أعراض.
ابتسمت الممرضة وهي تبشر فطمة بقدرتها على الإنجاب:
ـ مبروك أنت حامل. أين زوجك حتى أبشّره؟.
تريد ثمن البشرى، فطمة تريد زوجها الذي يكثر من السفر، بجانبها لاستقبال الخبر معها. أخذت ورقة التحليل ومضت.
بعد قضاء كل هذه الأشهر في حارة الزوج منصرفة خلالها لمحاولة التفاهم مع أهله وجيرانه وأبيه والزوج الملتهي عنها متهماً إياها بالغرور لأنها لم تتأقلم مع أختيه وأمه وبيتها المشبع برائحة الدهان المنحل بالماء وببقع الإسمنت المنسية والمتشبثة بالبورسلين وبالأرض، ومن معجون الزجاج الطري المتناثر على النوافذ معكراً صفاء الفضاء. لم تنجح في تخفيف إنارة ضوء النيون المبهر، عند كل زاوية وكل درجة، والذي، رغم شدته، لم يساعدها على تجنب تعثراتها الكثيرة. لم تحب طعامهم المطبوخ بالزيت، وإكثارهم من تناول الخضار من الصباح الباكر حتى المساء:
“أين طعام أم الحب؟ اللبن المصفى والبيض البلدي، الزبدة والعسل؟”.
هذا ما جعل وزنها يهبط عشرة كيلوغرامات مرة واحدة. قال الطبيب:
ـ لديك اكتئاب.
أوصت أم الحب أن تعد لها أصصاً من أوراق حديقة قبو القبو، كي تملأ بيتها وممرات حارة زوجها بأوراق خضراء تألفها. احتاجت إلى شاحنة صغيرة كي تنقل ثلاثين شقفاً من الفخار المزروع بأنواع: “ورق الليمون وقلب عبد الوهاب والسجادة، الهوى الناعم ، وظهر السلحفاة والكريتون، شبيه القماش الذي يبيعه أعمامها للقرى”. لكن رغم عناية أم الحب الدقيقة في اختيار توقيت النقل الذي يناسب هذه النباتات، صباح منتصف الربيع، إلا أن أصص الفخار بمزروعاتها، صمدت عشرين يوماً فقط، ثم ذبلت دفعة واحدة وماتت. يومها أعادت فطمة أصص الفخار الفارغة إلا من التراب ودخلت البيت الكبير قائلة:
ـ توب العيرة ما يدفي.
أجابتها أم الحب:
ـ لم تحبي بيتك الجديد كفاية، لذلك لم تحبه المزروعات.
ـ أريد العودة إلى البيت الكبير.
ـ البنت في بيت زوجها.
سارعت ليلى:
ـ لماذا تطلبين من أختي أن تصبر أكثر، يوجد عشرات يتمنون الزواج منها إذا تركت هؤلاء الناس.
تمنت أن تنجب طفلاً ثمرة منها، توقعت بعد انتظارها للطفل أن تكون الفرحة أكبر، لكن لا شيء تغير في مزاجها بعد الحمل، سوى أنها نامت.
نامت تسعة أشهر كاملة.
كانت تستيقظ لتشرب كأساً من الحليب، أو تمضغ مغمضة العينين حبة فاكهة، ترسلها أم الحب التي لا تستطيع مغادرة البيت الكبير، كي تراقب نوم فطمة طوال ثلاثة فصول. لم تعد فطمة تكترث كثيراً، أو تصحو لخروج الزوج مع زميلته في العمل في مهمات ميدانية طويلة غالباً ما تتخللها استراحات قهوة، أو غداء في مقاهي الطرقات ويعودان بجداول إحصائية عن محصول الحبوب، غير صحيحة، منقولة عن ألسنة الفلاحين. يغسل يديه ووجهه عند أمه، يتعشى من طعامها، ثم يصعد كي يتابع التلفاز يائساً من إيقاظ فطمة النائمة، وحين يحين نومه يندس في السرير مراقباً تنفسها حتى ينام.
يرتدي في الصباح قميصاً من الحرير الطري الذي ينسدل على صدر عار فيغوي بعض النساء اللواتي يصادفهن في مهماته الإحصائية، بينما تستغرق فطمة في نومها غير عابئة. كانت في يقظاتها النادرة تلاحظ ثنيات جبين حماتها تقطب في وجهها، مستهجنة هذا النوم السرمدي، لكنها تتجاهلها وكأنها ليست لها. تشم في نومها رائحة خبز عمها أبو الزوج عائداً من فرنه حاملاً الأرغفة لزوجة ابنه النائمة حامل الحفيد.
كانت الأختان العانسان تصعدان درج شقتها حافيتين، تلحق كل منهما بالأخرى، إحداهما تدير المفتاح والثانية تراقب الطريق، تنسلان إلى غرفة نومها، وتبدآن بحذر، طقسهما المحبب. تنشران رائحة عطورها على جسديهما، تمشطان شعريهما بأمشاطها، ترتديان تنوراتها، تعبثان بشالاتها،  تجرّبان أخفافها، ترتديان قمصان نومها، ترميانها بين حين وآخر بنظرة ساخرة ثم تمضيان في لهوهما العابث. كانتا في المرحلة الأولى من حملها، تمارسان هوايتهما تلك حذرتين من احتمال يقظتها ومباغتتهما، أما بعد ذلك فقد باتتا لا تكترثان، حتى إن تحركت قليلاً في فراشها، بل صارتا تتسللان في جميع الأوقات: ظهراً، عصراً، ليلاً، فجراً، تدسان صور فطمة المثقبة بإبرة الخياطة، وصورهما السليمة، في جيوب سترة أخيهما، واثقتان من أن نومها كان بالتأثير الحاسم لسحرهما، فقد أنفقتا مصروفهما الضئيل عند الشيخ الذي وعد بقطع المحبة بين أخيهما وزوجته المتكبرة، طالما لم تنقطعا عن تزويده بالمال. كانت تلمحهما في حلمها، غير مندهشة، ثم تستدير كي تستريح، حاملة بطنها الكبير أمامها من جهة إلى أخرى، متلفلفة بغطائها السميك. تغمض عينيها وتعود لنومها الطويل العميق.
أما الجنين الذي تكون في رحمها، فكانت أوامرها الإرادية واللا إرادية تعطى كي ينمو سريعاً، تحاول في لحظات يقظتها النادرة جداً توقع الشكل والمراحل:
“ما الذي تحمله هذه المشيجة الذكرية والمشيجة الأنثوية من صفات؟ هذه الصبغيات الثلاثة والعشرون التي قرأت عنها. تحاول تخيل المضغة وتحركها نحو فتحة الرحم الساخن الذي تهيأ لتعشيش ابنها، فأعطاه ما يكفي حتى تشكلت المشيمة، ورغم أن دمها بدأ بإعطاء الجنين ما يحتاجه من الغذاء والأملاح والأكسجين اللازم، طارداً كافة السموم واهباً الحصانة لابنها، إلا أنها لم تصح أبداً كي تطمئن على استمرار حملها وعلى قوته، بل ربما كانت تحاوره في نومها.
صار الجنين في أسبوعه الثامن عشر، أصبح بمستطاع أصابعه الإمساك واللمس، وبإمكانه ابتلاع ريقه، وسحب لسانه وتدويره في حلقه، تقطيب حاجبيه، صارت لثته حمراء طرية، له عينان وأذنان:
“ماذا سيرى في حياته القادمة وماذا سيسمع؟ ما الذي سيعتاده وما الذي سترفضه عيناه؟”
مبادلات وحوارات، عمر واتصال بين فطمة النائمة وجنينها المجهول. لكن ما إن توضح الجنين المجهول في رحمها، وبات يكثر من الحركات التي لم تكن سابقاً أكثر من ” تكة ” ساعة، حتى أدخلت نفسها في سبات تام.

خاص – صفحات سورية –
باذن خاص من الكاتبة منهل السراج
للكتابة الى الكاتبة مباشرة
Sarraj15@hotmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى