صفحات الناسمحمد علي العبد الله

المواطن السوري البائس ضحية “الإصلاح”

null

محمد علي العبد الله *

تحاول سوريا منذ العام 2000 إصلاح إقتصادها وذلك عبر جملة من السياسات والإجراءات الإقتصادية التي برزت في خطتيها الخمسية التاسعة والعاشرة، والتي هدفت إلى تحويل نهج الإقتصاد السوري من الإشتراكي المخطط إلى إقتصاد السوق الإجتماعي الذي يمثل إخضاع السوق السورية لقوانين العرض والطلب وتحرير الإقتصاد مع إنشاء ما يسمى بـ “شبكة الأمان الإجتماعي” للحد من الآثار السلبية لإقتصاد السوق.

واستصدر في سورية مؤخراً العديد من القوانين والتشريعات في إطار تحولها إلى إقتصاد السوق الإجتماعي مثل قانون حماية المستهلك والتحكيم بالإضافة إلى جملة من القوانين التي تتعلق بالتشريعات النقدية والمالية والإقتصادية، كان آخرها القانون رقم 7 للعام 2008 الخاص بالمنافسة ومنع الإحتكار الذي يأتي إصداره في ظل ذروة التحول نحو إقتصاد السوق الإجتماعي والذي يؤدي إلى التحرر التدريجي للأسعار وإتاحة دور متنام للقطاع الخاص في العملية الإقتصادية.

وشهدت سوريا خلال العام الماضي بشكل خاص إرتفاعات حادة في أسعار مختلف السلع زادت في بعض السلع عن 100%، الأمر الذي عزته الحكومة إلى الإرتفاع العالمي في الأسعار إضافة إلى أسباب داخلية تتعلق بعدم إستكمال البنية التشريعية لإقتصاد السوق الإجتماعي وخاصة قانوني حماية المستهلك ومنع الإحتكار الذين أقرا تباعاً.

سعر المازوت يكاد يكون عنواناً للأزمة في سوريا فسعره الحالي من بقايا الماضي الإشتراكي، وبه يرتبط سعر الخبز والمواصلات، وإرتفاعه سيؤثر بشكل مباشر على الطبقات الشعبية وذوي الدخل المحدود، وهنا تكمن المشكلة، أي أنه ببساطة انتقال من الإقتصاد الإشتراكي القائم على التخطيط والدعم إلى إقتصاد السوق “غير الإجتماعي“.

وأفادت دراسة أعدتها هيئة تخطيط الدولة بالتعاون مع مشروع التحديث المؤسساتي والقطاعي الأوربي حول الأفق الزمني لمشروع الإصلاح الإقتصادي في سورية خلصت إلى أن الإصلاح الإقتصادي إذا ما استمرعلى خطواته الحالية فإن عملية “الإصلاح” ستنتهي في عام 2023.

ثم بينت دراسة أجرتها مديرية الأسعار في وزارة الإقتصاد والتجارة للأسعار الرائجة لبعض المواد الأساسية في السوق المحلية بين الفترة 12/3 و 26/3 2008 ـ أن هناك إرتفاعاً كبيراً في الأسعار للكثير من المواد مقارنة مع أسعارها في العام الماضي.

كما أشار تقرير إقتصادي أعده إتحاد عمال دمشق إلى تزايد نسب البطالة في سوريا رغم أرقام المكتب المركزي للإحصاء المتفائلة، مشيراً أيضاً إلى تراجع أداء القطاع العام الإداري والمالي والإقتصادي والصناعي.

وأكد التقرير وفقاً لما ذكرته صحيفة الثورة 6/4/2008 على ضرورة التعاون والتشاركية ما بين الحكومة وكافة القطاعات العام والخاص والإستثماري لحل مسألة السيولة وتحريك القدرة الشرائية والإستهلاك المحلي وهو مطلب أساسي في هذه المرحلة الحرجة وعلى قاعدة “المصلحة الوطنية“.

أمام هذا العرض السابق ينتظر المواطن السوري إجتراح المعجزات والحلول من المسؤولين، باعتبار أنهم المنقذون دائماً ولو بحلول لا ترضي المواطن، فيستمع المواطن يومياً تصريحات لمسؤولين إقتصاديين أو سياسيين تتحدث عن الوضع الإقتصادي وعن غلاء المعيشة وعن الإرتفاع بالأسعار، في المحاولة إياها لطمأنة الناس بأن السلطات تعي مشاكلهم وهمومهم وتتشاطر معهم معاناتهم وألمهم في وقت غدت فيه الأزمة الإقتصادية التي تعصف بالمواطنين فاصل ترفيهي، يتحفنا خلاله من هب ودب بحلول وإقتراحات.

أبرز هؤلاء المسؤولين الذين “أدلوا بدلوهم” في الضائقة الإقتصادية كان محمد سعيد بخيتان الامين القطري المساعد لحزب البعث العربي الاشتراكي الذي قال وفق ما نقلت صحيفة الثورة السورية عنه في 7/4/2008 بأن ” إقتصاد السوق الإجتماعي غير مقدس إذا كان لا يخدم مصالح شعبنا وأمتنا وأن القيادة تقوم بكل شيء يخدم مصالح شعبنا“.

ثم ما لبث نائب رئيس مجلس الوزراء للشؤون الإقتصادية عبد الله الدردري أن أدلى بدلوه أيضاً وجاء حديثه خلال ترؤسه إحدى جلسات اليوم الثاني لمؤتمر إيكتا 2008 والتي تناولت عدداً من التجارب الإقتصادية والعربية والدولية وعلاقتها بالتكنولوجيا، ورأى الدردري “إن الحكومة تسعى لتطوير الاقتصاد وصولاً إلى إقتصاد المعرفة الذي يخلق قيم مضافة كبيرة”، لكنه أشار إلى أنه يستلزم عوامل كثيرة.

وأشار الدردري إلى أن “خلق البيئة المناسبة لتحقيق إقتصاد المعرفة يستلزم تحقيق عوامل إجتماعية وبشرية وتشريعية ملائمة.

ورأى الدردري أن إقتصاد المعرفة شهد تطوراً كبيراً في العقود القليلة الماضية مع اتساع استخدام شبكة الإنترنت والتجارة الإلكترونية والدفع الإلكتروني، ولا يحتاج هذا الإقتصاد إلى رؤوس أموال ثابتة كبيرة من آلات ومعدات وغيرها، كما أنه لا يتطلب حجم عمالة كبير على أن تكون هذه العمالة عالية المهارة.

ثم تدخل رئيس مجلس الوزراء المهندس محمد ناجي العطري الذي أعلن عن عزم الحكومة زيادة الأجور والرواتب بشكل مجزي وإصدار عدد كبير من التشريعات لضبط الأسعار بالإضافة إلى توزيع ألف لتر مازوت على العائلات السورية بأسعار مدعومة.

مسكين المواطن السوري حقاً، في ظل موجة إرتفاع الأسعار والغلاء والتي انفلتت من أي عقال لا يجد شيئاً يفعله، فلا هو يعبر عن غضبه بالنزول إلى الشارع كما فعل أشقاءه المصريين، لأنه يعلم أن النظام السوري سيفعل به أكثر بكثير مما فعل نظام شقيقه المصري بالمصريين الذين أضربوا وتظاهروا إحتجاجاً على الغلاء، ولن تنتهي التظاهرات بتصادمات مع قوات مكافحة الشغب أو ببعض الإعتقالات كما حدث في مصر، ولا هو قادر على إجتراح الحلول/المعجزات للخروج من مأزقه.

ليس صحيحاً أن ثمة من يملك علاجاً، لا سحرياً ولا تدريجياً، والحقيقة أنه لا رجاء في أي إصلاح إذا ما قضى المسعى بفرضه من أعلى إلى أسفل.

والمتابع لتصريحات المسؤولين السوريين يلاحظ غياب أي خطة إقتصادية حقيقية، فكلام السيد بخيتان يعطي فكرة كيف تدار حياة المواطنين السوريين باعتبارهم فئران تجارب، فنجرب عليهم الإشتراكية لمدة ثلاثين عاماً ثم نقوم بتغيير التجربة إلى إقتصاد السوق، من الإشتراكية إلى نقيضها تماماً (الليبرالية)، مع إدخال البلاد بفترة من التخبط الإقتصادي عبر ماعرف بسياسة إقتصاد السوق الإجتماعي والتي تهدف إلى تلطيف التحول إلى الليبرالية الإقتصادية.

أما تصريحات السيد الدردري فتتسم بالسذاجة والسطحية، فيها الكثير من التبسيط ولا تصدر حتى عن الهواة في عالم السياسة أو الإقتصاد، وما هي إلا دليل على أنها تصريحات بهدف تمرير الوقت وتصبير المواطنين –الصابرين- على بؤس حالهم المعيشي، فالكلام عن إقتصاد المعرفة هو كلام عمومي فمعظم الناس لا يعرفون ما هو إقتصاد المعرفة (وأراهن أن الدردري نفسه لا يعرف ما هو) فإقتصاد المعرفة يتطلب لقيامه ما يعرف لدى علماء الإقتصاد بـ “موت الجغرافيا”، إذ تؤدي سرعة نقل المعلومات والمنتجات عبر القارات إلى إختفاء العقبات التقليدية المتعلقة بالمسافات بين الدول وإختلاف المناخ وطبيعة الإقتصاد وما إلى ذلك من عوامل فيتحقق “موت الجغرافيا”، أو إنتهاء مشكلة المسافة، الأمر الذي يمثل أحد أهم مكونات النظام الإقتصادي الصاعد والمعروف بـ”إقتصاد المعرفة” والذي يقوم بالدرجة الأولى على استخدام البيانات وقواعد المعلومات كأساس لإنتاج وتخزين ونقل السلع والخدمات ولإتخاذ القرارات المتعلقة بكل عملية من هذه العمليات.

على الرغم من أن كلام الدردري يقدم صورة لعالم مبهج تنكمش فيه المسافات وتتلاشى الفروق ويتزايد حجم الإنتاج إلا أنه لا يتلائم مع واقع مجتمعنا، فبالعودة لكلام الدردري نفسه نجد التسويف والمماطلة، فإقتصاد المعرفة “يستلزم تحقيق عوامل إجتماعية وبشرية وتشريعية ملائمة”، أي أنه علينا الإنتظار عشر أو خمسة عشر عاماً لتحقق البنية التشريعية الملائمة، خاصة مع روتين وببيرواقراطية سوريين لا مثيل لهما في العالم، ومع شبكة فساد متطورة، صغيرة لكن تتمتع بشهية عالية، لا تترك مجالاً حتى للتشريع الملائم بالصدور، وتنحصر التشريعات الصادرة بما يخدم مصالح تلك الفئة الضيقة المحسوبة أصلاً على أهل النظام، والتي تسرق وتخزن بمعرفته ومحاصصته.

كما أن كلام الدردري “إن إقتصاد المعرفة شهد تطوراً كبيراً في العقود القليلة الماضية مع اتساع استخدام شبكة الإنترنت والتجارة الإلكترونية والدفع الإلكتروني” كلام يسخر من عقول المواطنين السوريين الذين يعلمون أن عقداً واحداً لم يمر بعد على التحول من الإشتراكية إلى إقتصاد السوق والذي بدأ في مطلع عام 2001، فكيف تطور إقتصاد المعرفة خلال “عقود قليلة ماضية” ؟؟ ولن نناقش هنا عن الإنترنت في سوريا والذي يعتبر من أسوأ الخدمات التي تقدمها دولة ما مقارنة بالبلدان المجاورة (لبنان أو الأردن)، ناهيك عن أن إقتصاد المعرفة وفقاً للدردري “لا يتطلب حجم عمالة كبير على أن تكون هذه العمالة عالية المهارة”، وهو النوع من العمالة الذي تفتقده سوريا، حيث العمالة السورية تفتقد للخبرات والتطوير، معظمها عمالة يدوية تتفشى الأمية في أوساطها، عمالة عاجزة عن المنافسة في أي سوق عمل عربي فكيف بالأسواق العالمية.

أما رئيس مجلس الوزراء فقد تدخل ليعطي “إبرة المنوم” أو “تحميلة المنوم” للشعب السوري، عبر الوعود إياها بزيادات في الرواتب لا تختلف كثيراً عن وعود سابقة وعن الإشاعات التي ترشها الحكومة بين الفينة والأخرى، لكنها تتميز هذه المرة بإضافة كلمة مجزية على الزيادة المرتقبة في الأجور والرواتب.

كان الأجدى بالسيد رئيس الحكومة إتخاذ خطوات أكثر جدية، وكلام أكثر واقعية، أفضل من “الضحك على ذقون المواطنين” بالزيادة المزعومة، سيما أنه من الواضح أن أي خطوة جدية يجب أن تكون جزءاً من الإصلاح الإقتصادي، الذي تبين أنه لا يمكن أن ينطلق دون إصلاح سياسي جدي، أصبح من الواضح والجلي أنه ممنوع الشروع به أو محاولة الكلام عنه، ونرى لدى بعض “الوطنيين زيادة عن اللزوم” أن الإصلاح السياسي إنتهى وآتى أكله.

حتى الحلول التي ابتدعها إتحاد عمال دمشق خلال إصداره تقريره المذكور آنفاً عن تزايد البطالة كانت حلول مضحكة مبكية، حيث ركزت على ضرورة التعاون بين الحكومة والقطاع الخاص والإستثماري على قاعدة “المصلحة الوطنية”، وهنا نطلب من المستثمر –الأجنبي غالباً- أن يغلب “المصلحة الوطنية” (التي يراها المستثمر تذبح آلاف المرات على أيدي الحكومة والمسؤولين السوريين) للفقراء السوريين على مصلحته الشخصية في الربح، وعلى هدف إستثماره الرئيسي، حلول لا تختلف كثيراً عن مقاربات الدردري “الذكية“.

فبعد أن انقلبت سمة العصر في الدول الإشتراكية وأصبح الإنتقال من الإشتراكية إلى الرأسمالية، وفتحت تلك الدول –وسوريا منها- سوقها للإقتصاد الرأسمالي العالمي، وقطعت خطوات على الطريقة الغربية في الإقتصاد والسياسة، وجدت الحكومة السورية نفسها في مأزق، فبدأت تتنصل من مسؤولاتها تباعاً، فالتعليم المجاني أصبح مقابل “رسوم” ليست بقليلة، والصحة المجانية أصبح المواطن السوري يدفع أكثر من نصف كلفتها باسم إقتصاد السوق الإجتماعي، ولم تنجو المحروقات من تنصل الدولة خصوصاً مع الإرتفاع الهائل في أسعار المشتقات النفطية في الأسواق العالمية، الذي زاد في كلفة جميع السلع الإستهلاكية من دون إستثناء، فاجتحرت الحكومة “معجزة” تسليم ألف لتر من مادة المازوت بسعر مدعوم وعلى المواطن أن “يدبر راسه”، ففي حال إحتاج أكثر من ألف لتر فعليه أن يشتريه بالسعر الرائج في السوق والذي يفوق بأضعاف السعر المدعوم.

والمازوت لم ينجو من التنصل الكلي للحكومة إلا لأن الأخيرة تعي أن إرتفاع سعر المازوت، والرغيف وأساسيات الحياة تباعاً، سيزيد من فقر المواطنين الفقراء أصلاً، ويعم الإستياء الشريحة الأكبر في المجتمع السوري( والتي لم تكن بهذا الحجم يوماً) وتسود حالة من الشعور بالقهر ويقترب الجميع من حافة المواجهة المباشرة في الشارع.

سيما وأن عاملنا العربي والإسلامي يعاني من خصوصية عالية في أزماته الغذائية والتي تعزز تفشي الإرهاب ونمو الحركات الراديكالية التي لا تنفجر إلا في المجتمعات الغير متماسكة وغير المستقرة، وفي وجه أنظمة غير مؤهلة لما هو أكثر من تولي مهمات الشرطة والمخابرات اليومية، وفي لحظة سياسية حرجة جداً بالنسبة إلى العالم كله الذي يبحث عن سبل للتكيف مع الإرتفاع المذهل لأسعار النفط. فهل من مجيب؟؟

* كاتب وناشط حقوقي سوري.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى