صفحات أخرى

الموسوعة الافتراضية: الديموقراطية الجديدة؟

«ويكيبيديا» ليست مجرد موسوعة على الشبكة الإلكترونية، إنها تجسيد لتحولات نعيشها، تطاول أساليب البحث والتعاطي مع المعلومات، كما تطاول مفهوم العلاقة بين الزبون وصاحب الخدمةفيمايُشغل المهتمون بشؤون التكنولوجيا بموسوعة «غوغل» والخطر الذي قد تهدّد به الموسوعات الإلكترونية الأخرى، صدر في باريس كتاب لأستاذ الفلسفة وعلم الاجتماع مارك فوغليا عنوانه «Wikipedia, media de la connaissance democratique» (ويكيبيديا، ميديا المعرفة الديموقراطية). القضية لا تنحصر إذاً في صراع الجبابرة الذي تقوده كبريات الشركات العالمية، هل ستصمد «ويكيبيديا» في صدارة الموسوعات الافتراضية أم ستأتي عليها Knol ( موسوعة غوغل) بضربة قاضية؟ السؤال يكمن في مكان آخر، في ذلك البعد الاجتماعي ـــ السياسي لهذه الموسوعات.
لا داعي إلى التذكير بأن الثورة التكنولوجية والعالم الافتراضي يقدّمان إلينا يوميّاً أدوات ومواقع تحدث تغييراً كبيراً في حياتنا، من الكمبيوتر، إلى الحكومات الافتراضية، وشبكة الإنترنت نفسها، ثم غرف المحادثة الإلكترونية فالمواقع الاجتماعية، والبلوغرز أو أصحاب المدوّنات الشخصية وعشرات الأمثلة الأخرى. الموسوعة هي الحدث الآن، فلتنطلق الأبحاث، والكتاب الفرنسي لن يكون إلّا محطة في سلسلة كتابات تتناول هذا العالم الذي يفيد من «عشقين» لدى الإنسان، البحث عن المعرفة، والشعور بقدرة أيّ كان على أن يكون منتجاً لها. يلفت فوغليا إلى أن «ويكيبديا» وأخواتها موسوعات سياسية. يستعيد في تحليله شروح الفلاسفة اليونانيين عن المدينة أو الحاضرة السياسية. إذاً تنتمي الموسوعات الافتراضية «التشاركية» إلى موجة «ميديا المواطن». في هذه الحاضرة تتساوى كل الأصوات تقريباً، الرقابة غير مشددة، هل تذكرون يوم ورد فيها تعريف للفتفتية مثلاً؟
بغض النظر عن هذا المثل، فإن أياً كان يمكنه الدخول إلى الموسوعة ليقدم تعريفاً لأي موضوع، أو مكان أو قضية. ولكن العالم الافتراضي لم ينفصل عن موازين القوى في عالمنا الواقعي، هكذا تضطر إدارات الموسوعات الافتراضية إلى الانحناء أمام ضغوط مجموعات سياسية فاعلة في السياسة العالمية. وبعد تزايد الضغوط أعلنت إدارة «ويكيبيديا» أن ثمة لجنة مؤلفة من متخصصين تقوم بمراجعة المقالات التي ينشرها زوّار الموقع، ولكنْ ثمة شكوك في شأن صحة هذه المقولة. وفي إطار الحديث عن المتخصّصين، يلفتنا فوغليا إلى أن الموسوعة الافتراضية «التشاركية» تسمح «بالانتقام من الأكاديميين» أو بالأصح من «المعرفة الأكاديمية»، المشارك في هذه الموسوعة يشعر بأنه قادر على الإبداع والمشاركة في صناعة عصر جديد وتحمّل مسؤولية تعريف ملايين «التلامذة» الافتراضيين بأمر ما، وهذه ممارسات يعجز عن القيام بها في الحياة الواقعية حيث يُمنع من التدخل في كتابات الآخرين، بينما الموسوعة الإلكترونية تسمح له بتصحيح ما يعتقده خاطئاً في كتابات الآخرين. إنها لعبة إذاً، كدلو يدلي به غرباء ما عند من يتوالون عليه، وما على الزوار سوى الاقتناع بآخر «نسخة» موجودة في هذا الدلو.
هل كان من الممكن أن يقدم Knol تهديداً لويكيبيديا؟
السؤال يذهب في اتجاه خاطئ وفق فوغليا، وباحثين آخرين من قبله بينهم المفكر الفرنسي جان بودريار، إنه يقود إلى نتائج أشبه بـ«لا شيء»، لنقل إنه يذكّرنا بقاعدة رياضية شهيرة، فالمعطيات الأولية الخاطئة تؤدي بنا إلى استنتاج «أي كلام» بالتعبير المصري الشهير.
القضية تكمن في ذلك التحالف (غير المخطط له ربما) بين غوغل وشبيهاتها من جهة، وويكبيديا وأخواتها من جهة أخرى. البحث والمعرفة صارت لهما وجوه جديدة، وأدوات تغيير، والأهم أنهما يدفعان الباحث نحو تغيير في المنهج. تجري تلبية الرغبة في المعرفة بثوانٍ، فالمعلومة معروضة لمن يفتش عنها (أكانت صحيحة أم)، لا حاجة إلى حفظها في ذاكرتنا بعد اليوم، فالوصول إليها بات في غاية السهولة، و لكن الأخطر يكمن في أن الطريقة الجديدة في البحث تجعل الباحث يبتعد عن مناهج التدقيق والتفكير في ما يُقدم له.
أمر آخر أسهمت هذه الموسوعات في تغييره، إنه مرتبط بالعلاقة بين الزبون وصاحب الخدمة، تحول كبير تشهده هذه العلاقة، تنتفي معه الحدود بين طرفيها، في أحد الأحيان، يلعبان لعبة تبديل المواقع، في أحيان أخرى، ويعود كل منهما إلى موقعه في حالات ثالثة. في الموسوعات الافتراضية يصح الكلام عن P2P (أو Peer to Peer) وهو نموذج من المواقع والحاضنات الافتراضية، حيث تنتفي مركزية العلاقة بين الزبون والخادم (server)، بل تُخضع هذه العلاقة لتفكيك، للا مركزية تتوزع بين مختلف زوار الموقع. تدور العجلة إذاً، المستخدم هو زبون، فصاحب خدمة، هو العارف الذي يقدم المعلومات للملايين بشكل ديموقراطي، ثم يخضع لديكتاتورية الوسيط نفسه، يأتيه زبون آخر، مواطن آخر ليقدم المعرفة كما يراها هو، وهكذا دواليك… يبقى أن نسأل عن التعريف الجديد لهذه الديموقراطية «الافتراضية»، عناوين كثيرة تطرح في هذا الإطار، أولها يتعلق بموازين القوى الواقعية التي تنعكس على الموسوعات الافتراضية، ثانيها عن مدى التوازن في مشاركات أبناء الدول المختلفة في هذه الحاضنات، أما ثالثاً ورابعاً و… فهي قراءات جديدة يتابعها علماء الاجتماع.
(الأخبار)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى