صفحات ثقافية

اكتشـاف نـص جديـد لأرتـور رامبـو.. حلــم بيسمــارك

null

اسكندر حبش

قد يبدو بمثابة اكتشاف الألفية الجديدة، الأدبي بطبيعة الحال. تم العثور على نص مجهول للشاعر الفرنسي أرتو رامبو. الخبر نزل كالصاعقة على وسائل الإعلام الفرنسية التي تداولته، وبخاصة صحيفة «لوفيغارو» التي أجرت تحقيقا حول الموضوع كما نشرته. قد لا يكون النص على قدر كبير من الجودة الأدبية، لكنه يبقى في أي حال نصا لرامبو. هنا إعداد وترجمة للقضية، عن «لوفيغارو».

ارتور رامبو صحافي؟ لفترة طويلة ماضية راودت هذه الفرضية العديد من اختصاصيي الشاعر الفرنسي ودارسيه. لكن منذ اليوم، أصبحت الفرضية حقيقة واقعة. نعم لقد حاول ارتور رامبو أن يكتب في مطلع شبابه للصحافة. كان لا يزال بعد في السادسة عشرة من عمره، حين «تخلى» ـ مؤقتا ـ عن الشعر ليكتب النثر. فجاء نص ذو عشرات الأسطر بعنوان «حلم بيسمارك» وقعّه رامبو باسم مستعار هو جان بودري. نُشرت المقالة في 25 تشرين الثاني (نوفمبر) في صحيفة يومية محلية بمنطقة «الأردين» هي صحيفة «لو بروغريه دي أردين» (Le progrès des Ardennes ) التي لم تستمر طويلا في الصدور. هذا العدد عُثر عليه مؤخرا عند بائع كتب قديمة (Bouquiniste) في مدينة «شارلفيل»، مسقط رأس الشاعر. وبذلك يشكل النص هذا، أول مخطوطة مكتشفة للشاعر منذ أكثر من ستين سنة. اكتشاف أثار الكثير من التعليقات مثلما أسال الكثير من الحبر في بلاد الشاعر التي «دار رأسها» بسبب هذه الاكتشاف غير المتوقع.

اكتشاف بطله باتريك تاليرسيو وهو مخرج أفلام وثائقية، ذهب إلى «الأردين» ليصور فيلما قصيرا حول أثر رامبو. وفي شهر نيسان الماضي، قام المخرج الشاب برحلة ثانية إلى مسقط رأس الشاعر، إذ كان في نيّته أن يظهر الوجه الثاني لأرتور رامبو، في عام ,1870 بين شارلفيل وشارلوروا. من هنا قرأ المخرج كل شيء يتعلق «ببطله»، على الرغم من اهتمامه بفترة حرب عام 1870 التي اندلعت في الأردين. وخلال تردده على بائعي الكتب القديمة، أخرج له أحد هؤلاء البائعين، ويدعى فرانسوا كينار، ثلاثة أعداد من مجلة «لو بروغريه دي أردين» كان يحتفظ بها منذ سنتين في حانوته. لفت أحد الأعداد نظر المخرج، فساوم البائع على السعر إذ كانت هناك بعض الصفحات المنزوعة. وانتهت القضية بثلاثين يورو.

«لم تثر هذه الصحف اهتمام أحد» (طيلة الفترة التي كانت في المحل) يقول البائع الذي يضيف، «كنت اشتريتها من زبونة جاءت إلى محلي لتبيعني بعض الكتب القديمة. كانت هناك العديد من الأوراق القديمة في صندوق سيارتها، وكانت تريد أن ترمي بها. أخذت منها كل شيء. كنت أعرف أن رامبو ربما كان كتب ذات يوم لصحيفة «لو بروغريه…» لكني لم أكن أذكر اسمه المستعار. باتريك تاليرسيو، من جهته، كان يعرف جيدا هذا الاسم، يعرف هذا الاسم المستعار الذي استله رامبو من عنوان مسرحية درامية كتبها أوغست فاكري. لقد وجد المخرج قطعة «البازل» التي كانت تنقص اللوحة لتكتمل منذ سنين بعيدة.

دلائل وإشارات

ثمة العديد من الدلائل التي أشارت إلى أن رامبو، في مراهقته، قد راودته فكرة أن يكون صحافيا. حتى إن صديقه دولاهاي، أكد بنفسه، أن رامبو كان أرسل بعض النصوص إلى مدير صحيفة «لو بروغريه …» مستعملا اسم جان بودري. وثمة أيضا، رسالة من جاكوبي، مدير هذه الصحيفة الاحتجاجية، كان أرسلها إلى بودري «الغامض» طالبا منه أن يتوقف عن إرسال قصائد إليه لأنها لن تنشر مطلقا في الصحيفة، ليطلب منه كتابة مقالات حول أحداث راهنة و«لها منفعة».

في 31 كانون الأول، دمر القصف الألماني لمدينة شارلفيل جزءا كبيرا من المدينة ومعها مطبعة صحيفة «لو بروغريه…». وقام الزمن، منذ 138 سنة بفعل الباقي، حيث لم يتبق إلا عدد قليل من أعداد هذه الصحيفة «لا نملك إلا سلسلة واحدة من هذه الصحيفة وهي ذات فجوات كثيرة، إذ لا نملك إلا 15 عددا» يقول جيرار مارتان، مدير المكتبة البلدية الذي يراوده حلم واحد: أن يوافق باتريك تاليرسيو على العرض الذي يتقدم إليه به وهو شراء هذه الأعداد كي يأتي هذا النص ويلتحق بسلسة الأعداد الموجودة في شارلفيل.

القيمة الأدبية

ما من أحد يشك الآن في بلاد رامبو بأهمية هذا الاكتشاف. إذ نسي الجميع تلك الحلقة المشؤومة العائدة لـ«الصيد الروحاني»، أي تلك «المخطوطة الأسطورية» التي ادّعى الناقد الأدبي باسكال بيا أنه وجدها في عام ,1949 في حين أنه اصطنع هذه القضية بأسرها. لقد بدأ اختصاصيو رامبو بفرك أيديهم. لقد عادت شهيتهم للتفتح، وبخاصة جان ـ جاك لوفرير: «ثمة نصوص أخرى لرامبو، نثرية وشعرية تنتظر بدورها أن يكشف النقاب عنها في هذه الصحيفة. ربما يكمن الأمل في عتمة سقيفة ما في منطقة الأردين. ومع ذلك ثمة أمل ضئيل، لكن من يعرف، ربما هناك بعض سكان تلك المنطقة ما زالوا يحتفظون ببعض أعداد هذه الصحيفة التي تحوي نصوصا موقعة باسم «ارتور رامبو» أو «جان بودري»….

من جهة أخرى، لا يشك جان ـ جاك لوفرير، وهو أحد أكبر الاختصاصيين بأدب الشاعر الفرنسي وسيرته، بصحة هذا النص، من هنا، وحول سؤال عن قيمة النص من الناحية الأدبية الصرفة، يجد لوفرير (في حوار مع صحيفة «لوفيغارو») أن النص لا يملك قيمة أدبية كبيرة «إذ إنه قبل أي شيء آخر كان كتب ضمن ظرف معين، إنه نص سجالي موجّه إلى قراء صحيفة يومية في الأردين، على خلفية الحرب الفرنسية ـ البروسية (إذ إننا في عام 1870). حتى إن رامبو ذاته لم يكن يولي أهمية كبيرة إلى ذلك الأمر، باعتبار أنه وقع النص باسم مستعار. من المحتمل، وفي الطبعات اللاحقة من «الأعمال الكاملة» للشاعر، أن نجد نص «حلم بيسمارك» هذا ضمن نصوص «الملاحق». من جهتي، لست بحاجة إلى مقالة هذه الصحيفة كي أقرأ «فصل في الجحيم» أو «الاشراقات» لكنني أعترف لباتريك تاليرسيو بأنه سمح لي أن أقرأ هذا النص العائد إلى عام ,1870 حيث إننا نعرف لحمته بفضل شهادة إرنست دولاهاي».

وعما إذا كان على يقين من أصالة هذه الوثيقة يقول لوفرير: «قليل هو ما كنا ننتظره من هذا الاكتشاف، إلا أن فكرة التزوير راودت بعض الرؤوس. حتى إن هناك الكثير من اللغط الذي دار على مواقع الانترنت والذي ادعى أنه هو من كتب هذه الوثيقة… في الواقع، عدا عن الاستحالة المادية في صناعة عدد مزور من الصحيفة، (عائد إلى عام 1870)، نحن نعرف أن هذا النص موجود بسبب ما قاله لنا إرنست دولاهاي، صديق طفولة رامبو. إن اكتشاف باتريك تاليرسيو ليس أقل من عمل مدهش. لقد التقيته وأؤكد لكم أن ما من تزوير في هذه القضية»….

[ لكن النص يملك بعض النبرات الوطنية، ونحن نعرف أنه في مراهقته لم يكن يتمتع بهذه الشهرة؟

[[ في رسالة مكتوبة بالضبط قبل ثلاثة أشهر (من هذا النص) في 25 آب ,1870 موجهة إلى جورج إيزامبار، يتحدث رامبو عن «الوطنجية» ويرى أن مسقط رأسه يبدو أكثر هبلا من باقي المدن الصغيرة المحيطة به… ويضيف صاحب من كتب لاحقا، «حلم بيسمارك» التالي: «ينهض وطني! أما أنا فأفضل أن أراه قاعدا». لكن ألم يطلب بودلير أن يضاف إلى شريعة حقوق الإنسان، حقان اثنان: حق عدم المعارضة وحق الرحيل. لقد استخدم رامبو هذين الحقين المنسيين بكثرة، هذا ما تثبته لنا حياته.

[ ما الذي يضيفه هذا النص عمّا نعرفه عن رامبو؟

[[ إن كتابات رامبو الأدبية العائدة لتلك الحقبة نادرة مثلها مثل المقالة التي ظهرت في صحيفة «لو بروغريه…»، قبل ذلك بعدة أسابيع، ذهب رامبو إلى شارلروا ليقدم نفسه كصحافي، بالكاد كان يبلغ السادسة عشرة من عمره، اقتاده مدير الصحيفة وقفل راجعا، إلى شارلفيل، مغلوبا على أمره بدون شك. يمكن لنا أن نظن أن حياته كصحافي قد انتهت هنا. بيد أن اكتشاف نص «حلم بيسمارك» يشير إلى أنه نجح على الرغم من كل شيء في أن يتعاون مع صحيفة مسقط رأسه.

[ بمَ يشير هذا النص المكتوب في عمر السادسة عشرة عن صاحب المركب السكران المستقبلي؟

[[ إنه ليس رائعة أدبية، لكنه نص استعاري جميل، ممسوك جيدا… لكن علينا أن لا نرى في هذا النص أكثر مما يحتويه. لا تنقصه لا القريحة ولا القوة. لكننا لا نرى فيه الشارات التي أتاحت لرامبو أن يكتب، بعد أقل من سنة من ذلك، «المركب السكران»، إذ ثمة فرق كبير. ومع ذلك، فقد كان رامبو، وهو في السادسة عشرة، يملك نضجا كبيرا. في الحقيقة إن أردنا أن نقرب هذا النص مع قصيدة من قصائده فهي قصيدة «النائم في الوادي»، التي تبدو معاصرة له والتي تشي برعب الحرب عبر مواجهتها بجمال الطبيعة ونعومتها. كما نجد أن نص «حلم بيسمارك» يصوب ناره على بشاعة الحرب، بينما قصيدة «النائم..» لا تملك أي هوية، إن المقالة الصحافية تشير إلى هدفها: القنصل الألماني. لقد انحاز رامبو إلى وطنه. وبذلك يبدو رامبو وطنياً وهذا ما كان ينقص مجموعة الأسلحة التي صنعها له من جاء من بعده.

[ هل من الممكن أن نكتشف بعد نصوصا أخرى للشاعر؟

[[ إن اكتشاف مقالة صحيفة «لو بروغريه…» يعيد الأمل في أن نجد، في عدد آخر من أعداد الجريدة، نصوصا أخرى للشاعر. إذ إن نص «النائم…» الذي تحدثت عنه كان قد نشر في أحد أعداد هذه الصحيفة، بيد أن مجموعة هذه الصحيفة، المتبقية لغاية اليوم، ينقصها الكثير من الأعداد، من هنا لا نستطيع رسم صورة كاملة. أيها الآردينيون ابحثوا في حقائبكم.

حلـم بيسـمارك (فانتازيـا)

ارتور رامبو

إنه المساء. تحت خيمته، المليئة بالصمت وبالحلم، يتأمل بيسمارك، وإصبعه على خارطة فرنسا. من غليونه الكبير يتصاعد دخان أزرق.

يتأمل بيسمارك. تتجول سبابته المعقوفة، على الورق، من الرين إلى لاموزيل، ومن لاموزيل إلى السين؛ بظفره شطب الورقة خفية حول ستراسبورغ، انتقل إلى مكان آخر.

في ساريبروك، في ويسمبورغ، في وورث، في سيدان، يجدل إصبعه الصغير المعقوف: يداعب نانسي، يخدش بيتش وفالسبورغ، يشطب ميتز، يرسم على الحدود بعض الأسطر الصغيرة المقصوفة ويتوقف

منتصرا، يغطي بيسمارك بسبابته الألزاس واللورين! أوه! تحت جمجمته الصفراء، أي هذيان لبخيل! كم من غيوم الدخان الرائعة التي ينشرها غليونـه السـعيد!

[[

يتأمل بيسمارك! عجبا! ثمة نقطة سوداء ضخمة تبدو كأنها أوقفت سبابته المختلجة. إنها باريس.

إذاً، الظفر الصغير السيئ، يشطب، يشطب الورقة، من هنا، من هناك، بغضب، وأخيرا، يتوقف… يبقى الظفر هنا، نصف مطوي، جامداً.

باريس، باريس! من ثم، كم حلم الرجل وعينه مفتوحة، بأن النعاس، بهدوء، يستولي عليه: تنحني جبهته على الورقة، بآلية، تقع كوة غليونه، الذي أفلت من بين شفتيه، على النقطة السوداء الحقيرة

هاي! بوفيرو! لما أهمل رأسه المسكين، أنفه، غطس أنف السيد أوتو دو بيسمارك في الكوة اللاهبة. هاي! بوفيرو! اذهب يا بوفيرو! في كوة الغليون المتأجج… هاي بوفيرو! كانت سبابته على باريس! انتهى، الحلم المجيد!

[[

كان رقيقا جدا، روحانيا جدا، سعيدا جدا ، أنف هذا العجوز الدبلوماسي الأول!

أخفوا، أخفوا هذا الأنف!

حسنا! يا عزيزي، متى ـ لكي تتقاسم الشوكروت الملكي، ستعود إلى القصر (…) بجرائم … النساء (…) في التاريخ، ستحمل أبدا أنفك الكربوني بين عينيك الحقّتين!

ها هو الأمر! ينبغي عدم الاستغراق بالأحلام (أحلام اليقظة)

أرتور رامبو


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى