صفحات العالم

نخبة القوة الأميركية

السيد يسين
على عكس النظرية التعددية التي صاغها بعض علماء السياسة الأميركيين لتوصيف النظام السياسي الأميركي على أساس توزع القوة فيه بين أطراف متعددة في إطار تفاعلي سلمي، فإن نظرية نخبة القوة The Power Elite التي صاغها عالم الاجتماع الأميركي الشهير “س. ر. ميلز” في كتاب له بالعنوان نفسه، تفند دعاوى هذه النظرية. ليس ذلك فقط ولكنها تقدم نظرية بديلة مبناها أن القوة – بالمعنى السياسي للكلمة – تحتكرها في النظام السياسي الأميركي أطراف ثلاثة رئيسية. وهم نخبة سياسية محترفة قليلة العدد، ورؤساء ومديرو الشركات الاقتصادية والبنوك والمؤسسات المالية الكبرى، والجنرالات أو كبار ضباط الجيش.
نشر “ميلز” كتابه عام 1956 في وقت كان يسيطر فيه على علم الاجتماع الأميركي “تالكوت بارسونز” أحد أشهر علماء الاجتماع في القرن العشرين. وقد كان “بارسونز” – رائد المدرسة الوظيفية في علم الاجتماع – الممثل الحقيقي في المجال الأكاديمي للمؤسسة السياسية الحاكمة، والتي تنكر وجود أي صراع سياسي أو طبقي في المجتمع الأميركي، وأنه على العكس ينعم بالاستقرار نتيجة التوزيع المتكافئ لمراكز القوة فيه.
كان “بارسونز” زعيم المؤسسة الأكاديمية في علم الاجتماع، بمعنى أنه وأنصاره يهيمنون على عملية تعيين الأساتذة في الجامعات المختلفة، ويسيطرون على حركة النشر الأكاديمي، من خلال المجلات العلمية التي لم تكن تقبل نشر أي مقالات أو دراسات نقدية للوضع الأميركي، سواء كانت تصدر عن منطلقات ماركسية أو راديكالية. ولذلك كان “ميلز” مهمشاً في علم الاجتماع الأميركي، وتمت محاصرته في جامعته، ووجه النقد العنيف لكتاباته النقدية الموجهة ضد المؤسسة الأميركية الرسمية.
ويمكن القول إن “ميلز” بكتابه “نخبة القوة”، فتح المجال واسعاً وعريضاً لنظرية الصراع لكي تكون أساساً لدراسة وتحليل المجتمع الأميركي، والتي عمل على تطوير أفكارها علماء اجتماعيون آخرون أبرزهم على الإطلاق “Dumhof” صاحب الكتاب الشهير “من يحكم أميركا”، و”توماس داي” T. Dye الذي مارس هو وتلاميذه البحث المنهجي الميداني في مجال الشريحة العليا من القيادات الأميركية منذ عام 1972. وقيادات هذه الشريحة العليا هي التي – في عرف نظرية الصراع – تهيمن على مقاليد الأمور السياسية والاقتصادية والقانونية والتعليمية والثقافية والعلمية في المؤسسات الأميركية.
فعلى سبيل المثال اكتشف “داي” من خلال بحوثه أن شاغلي المناصب العليا الذين أشرنا إليهم يسيطرون على نصف الأصول الصناعية والاتصالية والبنكية، وعلى ثلثي أصول التأمين بصوره المتعددة، وبالإضافة إلى ذلك فهم يديرون حوالى 40% من موارد المؤسسات الخاصة، و50% من المنح التي تقدم للجامعات.
وأهم من ذلك كله، ما ذكره هذا العالم السياسي من أن أقل من 250 شخصاً يشغلون أهم المراكز المؤثرة في المجالات التنفيذية، والتشريعية والقضائية للحكومة الفيدرالية، في حين أن قرابة 200 شخص يديرون القنوات التلفزيونية الكبرى وغالبية الصحف القومية، (راجع بهذا الصدد الدراسة الممتازة للدكتور هـ . ت. رينولدز التي نشرها عام 1996).
ومعنى هذا أن هذه الحقائق والتي تكرر إثباتها في العديد من الدراسات والبحوث، تشير بلا شك إلى أن القوة في الولايات المتحدة الأميركية تتركز في أيدي نخبة قوة مفردة.
وهكذا يمكن القول إن هذه النظرية – وعلى عكس النظرية التعددية – تتصور القوة في النظام السياسي الأميركي على شكل هرم، في قمته تقبع نخبة قليلة العدد هي التي تصنع أهم القرارات لمن هم في سفح الهرم. غير أن هذا لا يمنع أن نجد شريحة وسيطة بين القمة والسفح، تتشكل من أعضاء مجلس الشيوخ وحكام الولايات، والقضاة، وأعضاء جماعات الضغط المتعددة، وزعماء الأحزاب.
ومعنى ذلك أن الجماهير تشغل سفح الهرم، وهي تتشكل من الرجال والنساء العاديين والذين لا قوة لهم، لحساب من يمتلكون ناصية القوة في قمة الهرم. ونظرية القوة التي تقدم هذه الصورة للنظام السياسي الأميركي تقرر في الواقع أن نخبة مفردة وليست جماعات متعددة متنافسة هي التي تأخذ القرارات الخاصة التي تتعلق بأمور الحياة أو الموت باسم الأمة كلها، تاركة الموضوعات الصغيرة لكي ثبت في شأنها المستويات الوسطى من هرم القوة، في حين أن الجماهير ليس لديها أي قوة بصدد أي شيء. أي إن هذه النظرية تصف النظام السياسي الأميركي – على عكس النظرية التعددية – أنه نظام ظالم يقوم أساساً على عدم العدالة في مجال توزيع القوة، والتي تكشف عنها السيطرة الكاملة على عملية اتخاذ القرار.
والواقع أننا لو طبقنا هذه النظرية على القرارات الكبرى التي اتخذها الرئيس السابق جورج بوش وأركان إدارته من المحافظين الجدد بعد إعلانه الحرب ضد الإرهاب، لوجدنا مصداقاً لكل أدلتها.
ألم يعلن جورج بوش- مستفيداً في ذلك من الصدمة الكبرى التي أصابت الأميركيين بعد الأحداث الإرهابية في 11 سبتمبر 2001- الغزو العسكري لأفغانستان بتهمة أن نظام طالبان يأوي أسامة بن لادن؟ وألم يقرر – بناء على عملية تآمرية كبرى شاركت فيها نخبة السياسيين من المحافظين الجدد والاستخبارات المركزية وجنرالات الجيش – الغزو العسكري للعراق بتهمة أنه يحوز أسلحة دمار شامل؟
وألم يترتب على هذين القرارين وقوع عشرات الألوف من الضحايا في صفوف الجيش الأميركي في أفغانستان والعراق، ممن توالى وصول نعوشهم إلى الولايات المتحدة الأميركية؟ وألم ينتج من هذه القرارات عشرات الألوف من مشوهي الحرب، والألوف من الجنود الأميركيين ممن انتحروا يأساً من الحياة بعد أن زج بهم في حرب لم يتدربوا عليها، في بلاد يجهلونها، ومن أجل أهداف غامضة وغير محددة؟
ولذلك حين تقرر نظرية نخبة القوة أن من يحتكرون إصدار القرار يملكون قرارات الحياة والموت فليس في ذلك أي مبالغة! والدليل على ذلك أن الرئيس أوباما الذي نجح – في ضوء شعار التغيير – جاء بناء على سخط جماهيري متصاعد على الآثار السلبية لحربي أفغانستان والعراق التي قررتها نخبة قليلة العدد.
وإذا كانت القوات العسكرية الأميركية تنسحب هذه الأيام من المدن العراقية، فإنها ما زالت متورطة في الحرب ضد طالبان في أفغانستان، في سياق يشي بأن هذه القوات- بالرغم من سقوط آلاف الضحايا من بينها – قد هزمت هزيمة عسكرية، وأنها – قياساً على العراق- ستضطر إلى الانسحاب.
غير أن بعض نقاد نظرية “نخبة القوة” استبعدوا صدق مقولاتها على أساس أن النظام السياسي الأميركي ديموقراطي ومستقر، وتجري فيه الانتخابات الدورية الرئاسية والنيابية بحيث يذهب سياسيون ويأتي آخرون. ومعنى ذلك أنه ليس هناك احتكار لنخبة قوة مفردة ووحيدة لمقاليد الأمور.
غير أن س. ر. ميلز الذي ركز على الفئات الثلاث التي تحتكر القوة وهم كبار السياسيين وعلى رأسهم رئيس الجمهورية ومستشاروه، وملاك ومديرو الشركات والبنوك الكبرى، والجنرالات – لم يزعم أن هناك شبكة تآمرية تجمع بين أعضاء هذه الفئات الثلاث لممارسة القوة واحتكارها. على العكس من ذلك هو يقول إن أعضاء هذه النخبة في غالبيتهم يحترمون الحريات المدنية، ويطبقون القواعد الدستورية المستقرة، ويسلكون بشكل سلمي ومكشوف. فهم لا يكونون نظاماً ديكتاتورياً، ولا يعتمدون على البوليس السري أو القمع، أو الاعتقالات غير القانونية، لأنهم ببساطة، كما – تقرر النظرية – لا يحتاجون لهذه الإجراءات الاستثنائية، كما أن عضوية هذه النخبة ليست مغلقة – بالرغم من أن بعض السياسيين منهم أخذوا منذ بداية عملهم دفعة كبرى بحكم انحدارهم من عائلات عريقة مثل عائلة كينيدي أو عائلة بوش. وعلى ذلك يمكن القول إن بعض الذين يعملون باجتهاد شديد قد يصادفهم الحظ الطيب، إذا ما أثبتوا أنهم على استعداد لتبني قيم نخبة القوة، أن ينضموا إلى صفوفها، حتى ولو كانوا قد قدموا من سفح الهرم، وحالة “أوباما” أمامنا خير دليل على هذه المقولة الهامة.
والسؤال الذي تنبغي إثارته هو إذا كان أعضاء نخبة القوة لا يستمدون قوتهم من القمع أو من الميراث العائلي من أين يستمدونها إذن؟ والجواب إنها تأتي إليهم من السيطرة على المناصب الكبرى في مجال السياسة والأعمال. ومن اشتراكهم في تبني نسق واحد من القيم والعقائد.
من هنا تبدو أهمية تولي كبرى الوظائف الإشرافية في المجتمع. لأن من يشغلون هذه الوظائف يتخذون قرارات تؤثر – بدون أدنى مبالغة – على ملايين المواطنين، فالقرارات التي يتخذها أعضاء مجالس إدارات المؤسسات الصناعية والبنوك، والتي تؤثر على معدلات التضخم والعمالة ألا تمس حياة قطاعات واسعة من البشر؟ كما أن مطالب الصناعة والتطور التكنولوجي التي يقررها عدد محدود من مديري الشركات تؤثر على ميزانيات التعليم والبحث العلمي.
ومما يزيد من تماسك نخبة القوة التعاون والتنسيق الدقيق بين المنظمات السياسية والصناعية والسياسية.
على سبيل المثال هناك علاقات علنية وسرية أحياناً بين جنرالات البنتاغون الذين يحددون نوعية وكم الأسلحة التي تحتاجها القوات المسلحة، ومديري شركات السلاح. ومن المعروف أن ميزانية البنتاغون من أكبر ميزانيات الدفاع في التاريخ. ولذلك نجد في الممارسة أن الجنرالات الذين كانوا أثناء الخدمة يحددون نوع وكم الأسلحة المطلوب إنتاجها من شركات القطاع الخاص، عادة ما ينضمون كمديرين في هذه الشركات بعد اعتزالهم الخدمة في القوات المسلحة!
هذا مجرد مثال لتشابك المصالح بين النخبة العسكرية والنخبة الصناعية.
ومما لا شك فيه أن مناخ الحرب الباردة أدى في الولايات المتحدة الأميركية إلى ارتفاع شأن المؤسسة العسكرية، والتي – في لحظة تاريخية ما – أقنعت الرئيس الأميركي ريغان بأهمية الاستثمار ببلايين الدولارات استعداداً “لحرب النجوم” كما قيل وقتها.
وهذا ما يؤكد أن التحالفات الجانبية بين أطراف المعادلة الثلاثية لنخبة القوة الأميركية، بالإضافة إلى الاشتراك في رؤية واحدة للعالم، والتي كانت من قبل معاداة الشيوعية، واليوم هي مواجهة الخطر الصيني، من شأنه أن يضفي التماسك على الأطراف المختلفة للقوة.
والسؤال هنا لماذا يتشابه أعضاء نخبة القوة في رؤيتهم للعالم؟ والإجابة من واقع البحوث الميدانية التي أجراها “داي” Dye أن 54% من كبار مديري الشركات، و42% من كبار السياسيين تعلموا في 12 جامعة من جامعات الصفوة من بينها جامعات ييل وهارفارد، وبرينستون وستانفورد. غير أنه خلال ممارستهم لأعمالهم ينشأون وفق تقاليد راسخة على تبني رؤى متشابهة للعالم.
وأيا يكن الأمر فيمكن القول إن أهمية نخبة القوة تكمن أساساً في أنها المسؤولة عن إصدار القرارات الكبرى في مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة.
ولكن هل معنى ذلك أن من يشغلون وظائف الشريحة الوسطى من نخبة القوة لا تأثير لهم على عملية صنع القرار؟
تجيب عن ذلك نتائج البحوث الميدانية بأن قوتهم النسبية تآكلت مع الزمن، وأصبح مثلهم مثل المقاولين السياسيين الذين يحرصون على تحقيق مصالحهم الخاصة من خلال تسويق أنفسهم في وسائل الإعلام وشبكات التلفزيون.
وهم – نتيجة لذلك – فقدوا القدرة على التعامل الفعال مع الموضوعات القومية والعالمية الكبرى.
ولا يبقى لدينا – حتى تكتمل الصورة – سوى الجماهير من بسطاء المواطنين القابعين في سفح الهرم والذي يحسون أنهم – في مجال الصراع – لا حول لهم ولا قوة! ومن هنا فقد تحولوا إلى متفرجين سلبيين لمسرحية ممارسة نخبة القوة الأميركية لسلطاتها غير المحدودة في السياسة والاقتصاد والاجتماع!
باحث مصري
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى