صفحات الناسمسعود عكو

النوفرة

null
مسعود عكو
بجانب الباب الغربي من مسجد بني أمية وفي بداية حارة القيمرية في دمشق القديمة، مقهى قديم ذو طراز دمشقي، كراسٍ من الزان وطاولات صغيرة، ونراجيل بشتى نكهات المعسل، شاي وقهوة وعصير وكابوتشينو ومشاريب أخرى لا أعرف اسمها، وحكواتي يحكي قصص قديمة في المساء، كل ذلك تجدها في مقهى النوفرة.
الحكواتي يأخذك إلى أزمنة غابرة، يقوم ويقعد يتمشى قليلاً يحاول بكل وسائل جسده التعبيرية تمثيل القصة التي يرويها للجالسين حوله، يشرب الشاي ويدخن النرجيلة، يصور مشاهد قصته بأروع العبارات وأدق التفاصيل، يجعل من يشاء بطلاً ويهزم أبطالاً كثر، في النهاية يغلق دفتي كتابه، ويومئ برأسه إعلاناً بنهاية حلقة اليوم.
نارة يا ولد، كاسة شاي، وقهوة سادة، ألفاظ تطير في سماء المقهى الملبد بدخان النرجيلة التي دأب زوارها التدخين بلا هوادة، طاولة زهر وشطرنج، وزوار من كل مكان، سوريون وأجانب، بينهن نساء جميلات، سمراوات وأخريات شقراوات كعصير الليمون الذي يقدمه الساقي، مز المذاق، الليمون طبعاً وليست النساء!
في البهو، صوت هادئ يخرج من مكان ما في السقف، إنها فيروز تغني “حبيتك تنسيت النوم”، جلست على كرسي وأمامي طاولة، دقائق واتجه نحوي أحد النادلين، وبأدب قال “شو بتشرب أستاذ؟” قلت بنفس سوية الصوت “شاي لو سمحت”، “على راسي”” كان رده بعد أن أدار ظهره لي متجهاً نحو داخل المقهى.
تأملت المكان في الوقت الذي يفصل بيني وبين قدوم كأس الشاي الذي طلبته من النادل، صباح دمشقي جميل، الجو حار قليلاً لكنه لطيف في الفيء، جدران المحلات المجاورة للمقهى تشهد على زمن قديم مر هنا وكتب أشياء كثيرة عليها، بصمات قادة وثوار وكل أبطال مسلسل باب الحارة، وكذلك العقيد أبو شهاب، بالرغم من طرد بسام الملا له في الجزء الرابع منه إلا أن أبو شهاب يظل عقيد الحارة وتاج رأسها، كما أن هناك أيضاً من كتب أول حرفين من اسمه ومن اسم من يحب كما أظن وبينهما قلب مشروط بسهم ينقط قطرات دم بقلم من شنيار أسود، المحال تبيع الكثير من الجلديات والفضيات والشرقيات، الحرير الطبيعي والمزيف، والعصير والمرطبات كما أن هناك مقهى أخر يقابل النوفرة، لكن لماذا يفضل الناس هذا المكان؟ أنا لا أعرف ولن أسال أحداً عن ذلك.
فتاة شقراء تجلس أمامي، أشبه بتلك الصور التي نراها على مجلات الموضة والأناقة، كل شيء فيها يشع، العيون الزرقاء والبشرة اللذيذة، الشعر شلال ذهبي مثل أشعة شمس ولدت للتو من رحم الفجر، وأكثر ما شدني للبصبصة عليها، وادٍ على جانبيه كرتي ثلج ناصعتين، كانا بارزين حي انفلت الزر الأعلى من القميص الشفاف الذي كانت ترتديه، إنها تدخن النرجيلة، بالرغم من أنه لم يخرج من فمها دخان، لكنها كانت سعيدة بذلك الشهيق الذي تسحبه من ذلك الخرطوم، أدركت فيما بعد بأن النار قد انطفئ من على هرم النرجيلة، لكن لم تنادي كما نفعل نحن، أو تدق برأس الخرطوم الحديدي الصينية الموجودة قرب الفخارة، ليرن كجرس للنرجيلة منادياً صاحب النار ليشعلها مرة أخرى، فيحترق المعسل وتبدأ الجميلة بتفريش غيمة من الدخان فوق رأسها.
نظراتي لم تكن لتنقطع لولا أن النادل اسقط كأس الشاي على طاولتي قائلاً “الشاي أستاذ” فقلت له “شكراً” ثم رجعت إلى البث الحي الذي أمامي، الجميلة تواصل تدخينها وشرب قهوة من فنجان أبيض.
بدأت اسأل نفسي، لماذا لا اذهب وأكلمها؟ لقد تعلمت القليل من الإنكليزية في المعهد البريطاني بدمشق، لماذا لا أذهب وأقوم بتمرين لغتي ومحادثتي؟ وهل ما زالت الكلمات الإنكليزية عالقة في ذاكرتي؟ أم أنها سقطت بفعل التقادم والنسيان الذي بدأ يركبني؟
بين مد وجذر وأخذ وعطاء، وأنا أتلفت من حولي، المقهى صباحاً لا يعج بالأناس كما المساء، فيه القليل قياساً إلى مساءاته التي بالكاد تجد كرسياً وأحياناً كثيرة لا، فتذهب إلى أماكن أخرى داخل المدينة القديمة، هناك المشروبات أغلى وتصبح حراماً أيضاً، إنها المنكرات. أما النوفرة فأسعارها أقرب لجيوبنا الصغيرة، بالرغم من أنه غالٍ قياساً لمقاهٍ أخرى في الشام.
هل أذهب أم لا؟ السؤال الذي بدأ عقلي بطرحه عليَّ، وأنا لا أجد له جواباً. أخاف من أن تصدني الفتاة وتقول لي “لا أريد أن أتكلم معك، لقد أتيت في هذا الصباح كي أفرغ ذاكرتي قليلاً، لست مستعدة للكلام”، أو مثلاً تقول لي “عيب عليك، شو أنتو مانكم شايفين بشر” أو تنادي النادل وصاحب المقهى وتقول ” هاد الشخص عم يزعجني” أكيد سأنال صفعات طيارة، وقد أسلم إلى شرطة السياحة، واتهم بأنني أقوم بأعمال تهدد السياحة في البلد واحكم من قبل القاضي بعدة سنوات، لأنني ضيعت ملايين الدولارات كادت أن تدخل إلى خزينة الدولة لولا أنني قمت بتلك الفعلة الشنيعة، كما ليس ببعيد أن اتهم بمعادة أهداف الثورة، أو وهن نفسية الأمة، ونشر أنباء كاذبة أو يمكن أن اتهم بمحاول اقتطاع جزء من أراض سوريا وإلحاقها بدول الجوار! ما حدا بيعرف؟ كل شي ممكن بهالبلد!!!
وأنا أقوم بتجميع كل كلماتي التي تعلمتها في المعهد، وأنظر أحياناً إلى قاموس عربي- إنكليزي في موبايلي النوكيا إن 73، فأحاول حفظ المزيد من المفردات التي أنوي استغلالها للحديث مع الفتاة الشقراء، وأتذكر بأنني يجب أن أكون لطيفاً في لغتي لكي لا أزعج ضيف البلد، الذين يدخلون العملة الصعبة، ويقومون بالسياحة إلى المناطق الأثرية الكثيرة في سوريا.
جاء النادل فأسرعت بسؤاله، “عفواً لو سمحت” أجابني “خير أستاذ” قلت “فيها مشكلة لو حكيت مع هاي البنت؟ أنا بدي احكي بالانكليزي شوية” نظر إلي بسخرية، وقال “ليش بتعرف تحكي أجنبي” قلت “نعم قليلاً” فقال “روح بس لا تزعجها بحكيك، روح بلكي تلقطها وتتجوزو”. ضحكت من كلامه وشكرته.
تركت كأس الشاي على الطاولة، وتقدمت باتجاه الشقراء الجميلة، بدأت عيناني تتأرجح عند اقترابي منها، لم اترك سنتيمتراً واحداً من جسدها ولم أتفحصه، كل شيء فيها كان جميلاً، وكأنها صورة ملتقطة بكاميرا ديجيتال يابانية أصلية، المسافة بدأت تقترب بيننا، وأنا أتلهف للكلام معها، فجأة رن هاتفها الخلوي، وقفت مكاني، تكلمت بلغة لم أفهم منها أي شيء، وضحكت طويلاً، ثم لاحظت وجودي قربها.
وهي تتكلم، نظرت إلي بابتسامة لا أعرف كيف أوصفها، لكني أظنها كانت ابتسامة سخرت مني بها، وتابعت حديثها على الموبايل، أما أنا فقد عدت أدراجي ولمحت بيدي للنادل فجاء إلي، قلت له “قديش الحساب؟” قال بسخرية لي “شو ما ظبطت معك؟” قلت “لا مو هيك القصة، بس الظاهر هي ما بتعرف تحكي إنكليزي” ضحك النادل وقال “هي يلي ما بتعرف، سبحان الله” أدخل مائة ليرة سورية في جيبه، وتركني.
خرجت من المقهى وأنا اسأل نفسي “يا ترى بأي لغة كانت عم تحكي، ألماني ولا هولندي ولا يمكن إيطالي أو اسباني، طيب ليش أنا ما استنيت لأحكي معها، شو رح تخرب الدنيا لو حكيت مع وحدة أجنبية؟؟؟ لا يا سيدي ما رح تخرب الدنيا، بس أنا الخروق والجبان. والله معك حق أيها النادل.. سبحان الله!”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى