صفحات ثقافية

عندما يلوي صاحب ‘باب الشمس’ عنق الكلمات

null
أمجد ناصر
كتب الياس خوري واحدة من أهم رواياته في موضوع اقتلاع الفلسطيني من أرضه ومحاولاته العجيبة في العودة اليها ولو متسللا. تلك هي ‘باب الشمس’ التي حوَّل فيها خوري ‘الحقيقة’ (أو الواقعة التاريخية) إلى عمل روائي فذ. وعندما أقول ‘الحقيقة’ فأنا أتحدث عن جانب من تلك الرواية الذي تردَّد أنه قام على أشرطة عديدة سجلها الكاتب مع لاجئين فلسطينيين في مخيمات بيروت، ولا أقصد الحقيقة المعروفة عن طرد الفلسطيني من أرضه.
رغم انطلاق رواية ‘باب الشمس’ من الحقيقي والواقعي (النكبة) إلا انها لا توضع، بالتأكيد، في خزانة الكتب المعنية، مباشرة، بتلك الحقيقة التي نعرفها. الحقيقة كما تتبدى في الكتابات التي أرّخت للنكبة من وجهة نظرنا. فهي ليست عملا بحثياً يرصد اقتلاع فلسطينيي الجليل من أرضهم ولا توثّق لذلك الاقتلاع العنيف، مع أنه يمكن لكثير من فلسطينيي المخيمات اللبنانية أن يجدوا صدى لحكاياتهم فيها. ذلك الصدى ليس سوى شبح الواقعة التاريخية وهو الذي جعل من ‘باب الشمس’ رواية تطلع من الحقيقة، الواقع، لتعانق التخييل.
***
في مقاله ‘ عن أبطال الروايات’ ( ‘القدس العربي’، 20 /12/ 2010) يرد الياس خوري على مقالة لي حول سؤال الحقيقة بين الرواية والسيرة الذاتية، فقد اعتبرت أن السيرة الذاتية مطالبة بتحري الحقيقة في سرد الحادثة وموقع الشخوص في داخلها، فيما ليس على الرواية أن تفعل، لأن الرواية تمتلك حقيقتها الخاصة (الفنية)، وأشرت في هذا السياق إلى الفرق بين الصدق الواقعي والصدق الفني.
كانت مناسبة تساؤلي ذاك كتاب الناشر والكاتب والمناضل السياسي فتحي البس ‘انثيال الذاكرة’. لم تكن المقالة عن الكتاب (الذي يستحق وقفة خاصة به) ولكن عما دار بيننا من حديث عن تفضيله جنساً أدبياً لوضع تجربته النضالية هو السيرة الذاتية على جنس آخر هو الرواية. اختيار فتحي البس للسيرة، وليس الرواية، واضح لديه كل الوضوح، فهو يرغب في تدوين تلك التجربة انطلاقاً من وقائعها وشخوصها. لا فرق هنا إن كان البس كتب ‘انثيال الذاكرة’ من مدونات وضعها من قبل (يوميات، مذكرات) أو اعتماداً على الوقائع كما استقرت في ذاكرته. المهم أن الأمر يتعلق بـ ‘وقائع’ وهذه تحيل الى الحقيقة وتقاس بها، فيما للرواية، كما يعرف الياس خوري، معيارها الخاص الذي تقاس به.
سؤال الحقيقة والخيال في العمل الأدبي ليس جديداً. إنه السؤال الذي أرَّق كتابا كثيرين، من بينهم ف. إس. نايبول (صاحب نوبل) الذي توقف عن كتابة الرواية ردحاً من الزمن، متنبئاً بموتها، متفرغاً الى كتابة ما يمكن أن أسميه ‘الريبورتاج الأدبي’ بدعوى علاقة الأخير بالحقيقة التي يغمغمها التخييل ويفشل في القبض عليها. كتبت عن هذا الموضوع أكثر من مرة ولا أرغب، الآن، في استعادة ذلك. ما يهمني في مقال الصديق الياس هو اقتطاع الكلام من سياقه، اجتزاؤه ليقول شيئاً لا خلاف عليه في نهاية المطاف. فأنا لم أعلي من شأن الحقيقة على حساب الخيال ولا فاضلت بين الاثنين. من السذاجة أن تقاس التجربة الإبداعية (الأدبية) بمدى قربها من ‘الحقيقة’ أو ابتعادها عنها، لأن معيار ‘الأدبية’ فني وجمالي بالدرجة الأولى. هذا، أيضاً، جوهر المطالعة التي قدمها مثقفون عرب في مواجهة التفتيش الديني والبوليسي للنصوص الأدبية.
***
يتساءل الياس خوري قائلا: ‘لا أدري ما علاقة الشهادة بأبطال الروايات؟ هل موت أبطال النضال الوطني يطردهم حكما من الرواية؟ هل استلهام تجاربهم وحيواتهم في عمل روائي هو اغماط لدمهم؟’.
الغريب أنني لم أطرح شيئا كهذا في مقالي السابق، فكل ما قلته ان فتحي البس اختار شكلا كتابيا قريبا من الشهادة على الحدث، أو الزمن، هو السيرة الذاتية. ما كتبه البس في ‘انثيال الذاكرة’ هو شهادة شخصية على زمن عاشه ووقائع شارك فيها أو كان قريبا منها، وكان دافعه الرئيسي ‘تسجيل’ الواقعة التاريخية كي لا تزول من الذاكرة، كي تبقى لمن يرغب في معرفة جانب من جوانب النضال الوطني الفلسطيني. بهذا المعنى يمكن الاستشهاد بكتاب البس في خصوص لحظة معينة من التاريخ الوطني الفلسطيني، بينما لا نستطيع ذلك مع رواية ‘باب الشمس’، كما لا نستطيع، أيضاً، مع ‘رجال في الشمس’، أو ‘المتشائل’، أو ‘البحث عن وليد مسعود’ أو ‘العشاق’. الفارق واضح طبعاً، ففي السيرة الذاتية، أو الشهادة، نحن أمام جنس كتابي مختلف تماماً عن الرواية حتى وإن استلهمتا الواقعة التاريخية نفسها. ما هو مطلوب من السيرة (أو الشهادة) ليس مطلوبا، بالضرورة، من الرواية، وهذا أيضا واضح ومعروف ولا يحتاج الى سجال.
***
داخلني انطباع، بعد قراءة مقال الياس خوري، أنه لم يقرأ مقالي كاملا. توقف عند فقرة او فقرتين وراح يدبّج هجمته المفاجئة. فلو ان الياس قرأ المقال كاملا للاحظ انني تحدثت في نهاية المقال عن الأشكال التي تتـــــخذها الحقـــــيقة التي تتجـــــزأ كي تتحد مرة أخرى، وتنفرد كيما تجـــتمع. فالرواية، رغم طابعها التخيــيلي، معنية بالكشف. فعماذا تكشف؟ أليس عن نوع ما من الحقائق الانسانية؟
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى