صفحات ثقافية

كيفَ لقصيدةٍ أن تكون غامضةً بعد الآن؟

null
نصر جميل شعث
أكتبُ إليكِ بحسّ طائرٍ دخَل الشجرةَ من بين قرني غزال، وبهبوبِ حمائمَ تصاحبُ مغادرة الضيوفِ الخفافِ الكرام. أكتب إليك أنا الهشّ كقشّة يبستْ لتلمعَ في عتمة مزرابٍ مهجور، يهربُ النملُ من وهجها، ويرى الأمرَ كلَّه طفلٌ يُمسكُ برغيفٍ يعرفُ كيف يُقسِّمُه بالعدل على أحلام من ماتوا جياعاً وراء قصائد الحبّ وأمام دكّانِ الأمل.  دكّانُ الأمل هل يلزم بابَه شعار؟!
أكتب إليكِ بإلتفاتةِ طائرٍ رأى السرابَ فجوةً بين رجْل ورجْل لمجنون يُمسكُ النهرَ بهذا الوقوف ويبول! طائر تَمرجح على سلك الهاتف وطار ثمّ حطّ شعابَ القدمِ فوق شعابِ القدم على رأس عصا مكنسة تحملُ رايةً نصبها ولد على خزّان المياه كي إذا صفَّقتْ في الريح تفتحْ حبيبته الشبّاكَ للتي تزبدُ مثل حصانٍ مكانه، للتي تحلبُ الريحُ ألوانَها المائية على شعلةٍ بيد خيال الحقل، على القبابِ الشبيهة بخوذ الجنود القدامى، على المُصلّين وهم يقلّبون في أحذيتهم المتشابهة في انقلابها فوق عتبات مسقوفة بانحناءات ظهورهم التي تستقيم وراء وجوههم الحزينةِ إذا أتوا المرايا، وعلى فيلق من النمل انطلقَ من هوّة الوصف تحت حجر بيتٍ مدمّر إلى قطرة من حليبٍ صناعيّ علقت في عين رضّاعةٍ نصبتها سيدّةٌ سمراءُ على الحجر المُشمسِ، ولم تجفّ القطرةُ في الظلّ الذي يسنح الآن كهدنةٍ رشيقة على درج مركبٍ يَعدّ عليهِ السائحون، صعوداً ونزولاً، ساعاتِ وصولهم إلى جزيرة النمل القليل.
نمل نمل نمل إلى فتاتِ مُربّعٍ من سمسم وبسكويتٍ علِق بشفتي مراهقة تركت مقعدَ الحديقة الصقيل، فاتحدَّ النملُ على فم الزجاجة المُسنّن! السدادة المقلوبة كوعاء لغيمةٍ يشربها غرابٌ وديع، السدادة المقلوبة لبصاق عجوزٍ شربَ الحياة؛ أسنانُها انغرستْ في نعل المراهقة التي عرَجت وضحكت ثم ركبت درّاجة الهواء الذي شمّ قميصي. حين ارتديتُ القميصَ مقلوباً، وحدَه زرّ الإحتياط أوهمني أن ارتدائيَ صحيح!
زجاجة العطر في يدي، بيدي الأخرى أغلقتُ على غطائها بابَ الزجاج. فمُها ليسَ مُسنّناً، فمُها عينٌ أدقّ من ثقبٍ في مطاطِ الرّضَّاعةِ المرن العَسليّ، ومن ثقب نهد غافٍ تحت يد لم تصله. فمها عينٌ أسرع من عين حبة عنب تنزّ، وبلا ضغطة إصبعين، إذا نزع سنّانِ عنقَها الذي لونُه مستقبلُ لونِها إذا صارت زبيبةً مرصوفة كإغفاءة النمل في جبينِ مًصلٍّ قديم.
بضغطةِ الإبهام على رأس زجاجة العطر يَخفّ الهواءُ يَحمل شغفَ النشيدِ ويردّ إلى واجهة البحيرة الغافية صوتَ زجاج محلّ ذهبِ مكسور بحُرعة ماء زائدةٍ عن غيابك الذي تحتلّه خمسُ حركاتٍ أشتاقها منك الآن:
انفعالُ شَعركِ اللامع في عينيّ كشجرة زيتون، نُهوضُ كتفك مع كلّ مُغازلة أقولُها، تزامنُ ضحكتكِ مع جرسِ الباب، إشراقةٌ من تاريخ زراعة الشجر في يديكِ، وإنعكاسُ لمبة السقف في ركبتك الصافيةِ كلسانِ ملعقةٍ، مقلوبة على رفّ الرخام!وتكفيني حبة من عقدكِ الأزرق لأسندَ بها جبلاً كوّنه ماءُ المحبة. أطوي ساعدي على قطرة الماء، فأرى تعريجةَ نهرٍ خافتٍ على العَضَلة القليلة. وكلّ صورة لناس يجلسون القرفصاء في محطة الليل أقلبها وأرسم في ظهرها صفوفَ قصب لتغطيةِ الزوايا. كلّ عقدة في حبل الستارة بأصابع مقصّفةِ الأظافر أحلّها. كلّ عقدة في سلك الهاتف الأرضيّ أحلّها. وكيفَ أحلّ عقدةً في هاتفٍ لا سلكي؟!
هذا الشغف هو في ماء لم ير فيه الشاربُ نفسه. هو في مرآة لم يرَ فيها الرائي عينيه وهو يَمسحُ البخارَ بأصابعَ تهدم، عفوَ خاطرها، نافلة الرماد على الطاولة جوار المنفضة. هو في مطرٍ يُحرّك بحيرةً لم تطأْها قدمٌ ولا مركبٌ ولا ظلٌّ حائر ولا حجر ولا شظية زجاج ولا سنّ خلعَها صوفيّ أضعفتْ صفوفَ فمِه حكّةُ المزمار! هو في حقلٍ رسمته طفلةٌ قبل أن يزرعَ أبوها الوادي قصباً. هو في شلالٍ يَمحو النقاط السود على مكعّبات نرد مازالتْ تسقط من أفواه طيور ظنّتها أوعيةَ حبوب.
شغفٌ كهذا يُقاسُ بسماء أوسعَ من وصفِها التماعةً تشطفُ نعاسَ الضحى عن عينيك. كم سماء سأحصي في عينيك؟! وكيف لقصيدة أن تكون غامضةً بعد الآن؟
شغفٌ كهذا يُـنبيءُ باطنَ كفّكِ بالسلام… ضمّي اليدَ عليه؛ سيطير عصفورُ الصباح – وأنتِ ترتّبين في المرآة ياقة قميصٍ جعّدَه الغَسيل- طيرانـُه مِن يدٍ لأخرى هديّةٌ أخفّ من كرامةٍ تُسمعني الآنَ صوتَ خصلةٍ تتباعدُ عن خصلة في شعرك المجنون!
ومازال الثلج يسقط.. كأنّ شعراءنا الصامتين في ذمّة الله أصيبوا بهشاشة عظّام تندف الآن على السرو، على رؤوس المارّة، على أكتافهم، على ياقاتِهم الصوف، وعلى بخارِ كلامهم العاديّ. لا صوت لندف الهشاشة، ولا نواة من ركبةِ شاعر مستثنىً تسقط على أذن عامل منْجرة يقطّع الأخشاب بوقت الكهرباء. العِظامُ تغطّي هذه الجبالَ والغيمُ داكنٌ وواقفٌ محلّ الدعاء، هو لا يُصيبُ الثلجَ على العشب والشجر وقرميد البيوت بلونه الذي  ينقضّ على قمرٍ يستهلكه العشّاق!
بجبهتي الشتوية كموقد جبليّ أحجبُ الآن انعكاس نافذة الليل على باب الثلاجة الصقيل، وبيدي التي تربّت على سطح الماء؛ أشيرُ إلى غزالةٍ لا تنشغل بالوقوف في زمنِ ضحكتك الذَّهَبِ. الذهبُ ليسَ له ماضٍ، والصمتُ حاضر شفتيكِ المنكشفة عن لؤلؤٍ  يَحبس لسانَكِ المجدافْ. شفتاكِ قاربٌ صنعْتـُه، في التوّ، من نصفٍ رغيفٍ ساخنٍ شققتُ إطباقته برؤوس أصابعي لأرشّ الزعتر في جداريه الداخليين الشبيهين بتضاريسِ ليْفةٍ علّقتها الأمّ في عين الشمس لتشقّها في العرس الكبير.
الموجُ في صفّي والغيمُ في يديّ وبراعمُ النخلِ أشواكٌ.. فعلى السماء أن تظلّ بعيدةً عنّي لأسألَ هذا الحبّ: كم رصاصة طائشة في الجوّ؟ وكم مِفصلاً في يدكِ البعيدة استجابَ لفرقعة الأصابع في ليل بوزن ضوءِ الذاكرة الكثّ؟ كلّ إصبع غصنٌ، فإياكِ أن تُنقصُ عادتُكِ ماءَ اليدين! والرشاقةُ ليدكِ التي تلتوي الآن لتسأل ضلوع الريح في شجرة عالية تعبث بضوء الطريق.. تعبث ولا تمحو صمتكَ المعبودَ في أوراق غرسةٍ يحرّكها لمعان عينيك. لا تشهقي ضاربة على صندوق صدركِ بيد ستؤلمها الزاوية، ولا تُشهدي غزلان الجيران عن سرّ المشي الخفيف كإصبعين يكرجان على جبل من عودٍ نائم على أوتارِه في قصيدة النثر.
تعثرتُ بالماء فجريتُ صافياً من كلّ ما تصبو إليه غزالة. ولم ألتفتْ لسهمٍ خرجَ مرحاً من كتفي الخفيضةِ تحت الذنوب. كتفي عظمتُها البارزة سدّة بئر حكّها السهمُ بذيلهِ وجرى دون ملامِحِه إلى رأس غزالة لا تصبو إليّ. وكلما تعثّرتُ بالماء صفوتُ لأضحكْ. أعطني الماءَ احتياطاً لأظلّ أضحكْ!
أقترحُ الماءَ وسواساً على الحفاةِ العراةِ المرحينَ كبديهة الزئبق فوق السهم ذاته وهو يجري في أذنٍ معبّأة بالأغاني إلى حصانٍ سُمع صهيلُه هذا الليل في سنّ قلم رصاص تاجُه الذهبيّ محشوّ بممحاةٍ مقضومةٍ في عتمةٍ كاملةٍ لا يرجو فيها العاشقُ الحقّ قمراً يَتحسّسُ منه جِلدُ حبيبته النائمة، ولا يزور نهراً مصاباً بكدمةٍ من طمأنينةِ ضوءِ غرفة الجار العاليةْ! أما وردة النهر ففي لسانٍ قطعته الأغاني وخلّته ربطةَ نارٍ في شَعر إمرأة المغنّي.
فلعلّةٍ لا أفسّرها رغم هروبي من ذاكرة النار، أرى الحياة في واجهة القصيدة ناراً فوق تأكيدي أن الحبّ ماء، أن الحبّ ظلّ كامن مركزه في روح الشقيّ السعيد، أنّ الحبّ جلبة أبعد من اتكاء العشّاق على قمر وحيد ليضيء اختلاط مشاعرهم بالطين!
أحبّك تحتَ الماء، وهذا لا يعني أنّ الغيومَ والآبار أمينةٌ. أخشى من الماء بقدر ما منه أغار. أكثر ما يحرق أحلامي كعاشق للنار أن يحتلّك ماءٌ فلا أسمع منكِ إلا سقوط الحصى وطقوس صحراويين وحّدوا عيونهم في ركبتيكِ، وراحوا يسمونها عينين تأسرُ زمن الحديقةِ. أحبّكِ في الحديقة، وهذا لا يعني أن أسوّرَ حصّتي من الهواء والطير والشجر باسمِ قصائد رتّبتها في عزلة الليل على مقاعدِ الناس.
هل ألبسُ لأكرّركِ بعد أنْ كتبكِ عليّ الماء؟  هذا ابتداؤك في الممرّ عدوى غيّرتْ حجمَ الممرّ ولونَه ورائحة الأغاني القديمة فيه. اسمُكِ صافٍ وأنيقٌ كالعدل في الأمنيات. لمعةٌ واحدةٌ من صوتكِ تزهو بالتكرار على ملايين من أغلفة كتبٍ تزنُ ماء نهر صغير ولا تساوي الطيرَ وزوّارَ الطبيعةِ في عين واحدةٍ تزهو بالكحلِ كحكاية البلدِ التي شكلُ انتهائها أغنيةٌ يُردّدها فمُك على الجبل. وشكل ابتدائها حدث خفيفٌ كتعرّق لمبة السقف من صُعودِ بُخارِ إلقائي قصيدةً في وصف نهدكِ هذا الصباح. وشكل ابتدائها جهدٌ وقائيّ بسيطٌ اسمعني، وأنا أضع إصبعي في أذني لأجفّفَ الماءَ، إيقاعَ عصفورٍ في عين الشمس ينظر علّه يبكي ويشرب دمعَه الساخن القليل. وشكلُ اكتمالِها إلقاءُ نظرةٍ على عمّال المنجرة الطيّبين دونما مبّرر. وشكلها في الخاطرِ الفضفاض حدسٌ بعودةِ النار إلى قدّاحة جفلتْ في ليلِ المدخّن فأثارت حنقَ إنسانٍ قديم فيه!
خفّة أقوال الليل في رئتيّ سأعطيها شجرةً يُعرّيها في مدخل القلبِ خريفٌ يُسقط الشعراءَ من غصون الكلام، ويهزّني فأنطق باختصار خفيف: أحبك وراء الهواء ولأجله كذلك، حيثُ لا يمرّ شارعٌ من التاريخ في لحظة تأهبي للإعتراف. سأبيّنُ لكِ هذا بضحكة صائبة في الهدوء المجرّد والكيان المجرّد والعزف المجرّد من عظام الموتى، من روايات رديئة في الحبّ وخياناته، ومن فتاتِ اليتامي وتلصّص العابرين فوق قمصان كثيرة.
في عينيّ أنتِ، على جناح تاريخ من الرشاقة تمشين على ظلّ جسر قديم تقفين تعدّين العابرين فوق النهر بأسمائهم وأشيائهم الجديدة؛ يحملون ساعاتهم المستهلكة من سرعة الوقت، ومن زيارات ِالعيون التي إذا اختبأتْ خلف نظّاراتها بكتْ وابتسمت وحشدتْ سماءً في نظرتها الواحدة!
وكلما بدا المُطلقُ عالياً كانَ الهبوط. أهو الحبّ؟ وماذا أفعلُ حينَ الشجرةُ التي شبكْتُ اسمَكِ في أعلى براعمها؛ تُغيّرُ نموَّها باتجاه حفرةٍ عالية تسع ولا تسع رهبة الناس الطيّبين؟ كلامُنا الدائمُ كصوتٍ المؤذِّن عن هَديّةٍ يَـنصبُها جمالُ الليل على عتبةٍ مغسولةٍ بمطرٍ يَسحلُ عن القرميد؛ هو الفخّ الذي يصطادنا، الآن، في هذه الرهبة المُعبّأة بأحلام مبرّرة تتحقّق رغمَ قصرها. سأقول والمطلقُ يَهبط بنا إلى التجربة: إنّ الشجرةَ تسجدُ، واسمكِ في رأس حكمتها هو فردوسُ القرارِ البعيد!
وحيث تخجلين من ضيفٍ ثقيلٍ قطعَ بانتظاره قهوتِكِ وقتاً ثميناً من لقاءِ حبيبته أحبكِ. وحيث تحبسينَ عصفوراً وحيداً في النفَس لتختبري بشفتيكِ الحريرَ وراء الزجاج أحبّك. وحيث تحبسينَ عصفوراً في أغنية يردّدها الناس أحبّك! أنا لا أحبسُ هذا العصفورَ في القصيدة لأدخلَ قلبك من هذا الباب. أنا عصفورُ  المفاجأةِ جئتُ من شجرةٍ سبقتني لتحضرَ فيك! جئتُ من كلام الناس عن السماء والجوع، ألتقطُ ما سقط من خبزةٍ بلّلها لسانُ الطفل وفتفتها زعلاً منكِ أنتِ التي لم تذهبي إلى الحديقة لألمٍ مفاجيء في عظمة كاحلك.

ملاحظة: هذا النص هو الجزء الأول من نصّ طويل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى