صفحات مختارة

سؤال الترابط بين الديموقراطية والتنمية

خالد غزال *
لم يتوقف النقاش حتى اليوم في الأدب الاقتصادي والسياسي وفي المؤتمرات، خصوصاً تلك التي تنظمها الأمم المتحدة، حول التنمية وعلاقتها بالديموقراطية، ومدى الحاجة الى الترابط بين العمليتين، أو الى اشتراط الواحدة للأخرى. يكتسب النقاش اهمية أكبر عندما يدق ابواب البلدان النامية، ومنها مجتمعاتنا العربية، في تقييم مشاريع التنمية التي جرى أو يجري تنفيذها، وأسباب الفشل التي منيت بها معظمها حتى اليوم. يتوسع النقاش ليطاول حاجة التنمية في مجتمعات متخلفة الى حد كبير من الديكتاتورية والقوة لتغيير المفاهيم والعادات السائدة بما يكفل فك الحجر عن مشاريع النمو. فهل حقاً لا تتطلب التنمية مساراً ديموقراطياً؟ وهل يستوجب التقدم الاقتصادي نظاماً ديكتاتورياً؟ وأين الخطأ والالتباس في المفاهيم التي تتسبب في هذه الخلطة بين النمو والتنمية؟
ينطلق أصحاب الرؤية عن ان التنمية لا تشترط وجود الديموقراطية من التجارب التنموية التي مرت بها بلدان متعددة في أوروبا وآسيا وأميركا، منذ القرن الثامن عشر حتى اليوم. استوجب التقدم الاقتصادي خلال القرنين الماضيين حجماً كبيراً من استخدام القوة لتأمين التراكم الرأسمالي وتنمية قوى الانتاج في الشكل الضخم الذي رافق الثورة الصناعية والزراعية. لم تكن تلك الأنظمة السياسية القائمة بحاجة آنذاك الى تحقيق الديموقراطية بمعناها السياسي والاجتماعي لتنجز عملية التحول الاقتصادي هذه. يستعير خبراء عرب ينتمون الى مؤسسات اقليمية هذه النماذج ليدللوا على صحة النظرة الداعية الى الفصل بين التنمية والديموقراطية، وتطرح هذه النظرية في مؤتمرات اقتصادية إقليمية ودولية.
يقوم الخطأ في هذه النظرة على الخلط الحاصل بين مفهوم التنمية بمعناها السياسي والاقتصادي والثقافي الشامل، وبين النمو الاقتصادي الذي يتطلب تراكماً وتثويراً لقوى الانتاج في وصفها القاطرة لعمليات النمو. تنجم عن هذا الخلط في المفهومين نتائج سلبية في تطور المجتمع. فلو عدنا الى عمليات التراكم الرأسمالي التي تمت في القرون الثلاثة السابقة، فإنها بالتأكيد أمّنت تقدماً مذهلاً على صعيد نمو قوى الانتاج كانت الاساس في اقامة الدول الرأسمالية، الامر نفسه ينطبق على بلدان جنوب شرق آسيا والصين، ومعها بعض الدول العربية، حيث حققت نسباً مرتفعة في النمو الاقتصادي لا يزال يتصاعد في معظمها حتى اليوم. لا يساوي هذا النمو التنمية البشرية بمعناها الواسع، فهذا النمو لم ينعكس في شكل إيجابي على مصالح غالبية السكان في هذه البلدان المشار اليها سابقاً وراهناً. بل ترافق التراكم مع افقار لفئات واسعة من السكان وتفاوت في الدخل وزيادة التمييز بين الفئات الاجتماعية، وهو ما يتناقض مع مقولة التنمية. ان ما جرى هو عبارة عن نمو اقتصادي وتقني وليس عملية تنمية.
تفتح هذه النقطة مباشرة على مفهوم التنمية البشرية، بعد ان باتت همّاً فعلياً يرتبط التقدم في كل بلد بمدى تحولها الى عملية شاملة. لم تكن النظرة البعيدة الى مفهوم التنمية منفصلة عن مجمل التقدم الحاصل في مجتمعات حققت حداً هائلاً من التقدم الاقتصادي والتقني، لكنها اكتشفت ان هذا التقدم ظل مترافقاً مع اختلالات تمس الشريحة الأوسع من السكان. توسعت النظرة الى التنمية مع التوسع في مفهوم حقوق الإنسان والمواطن بمعناها الشامل، بما يجعل التنمية عملية اجتماعية واقتصادية وثقافية وسياسية. نص “الاعلان العالمي لحقوق الإنسان” الصادر عام 1948 بأنه “لكل شخص الحق في مستوى من المعيشة كاف للمحافظة على الصحة والرفاهية له ولأسرته، ويتضمن ذلك التغذية والملبس والمسكن والعناية الطبية وكذلك الخدمات الاجتماعية اللازمة، وله الحق في تأمين معيشته في حالات البطالة والمرض والعجز والترمل والشيخوخة وغير ذلك من فقدان وسائل العيش نتيجة لظروف خارجة عن إرادته…”. وفي السياق نفسه نص إعلان الامم المتحدة حول “الحق في التنمية” الصادر عام 1986 على وصف التنمية بأنها “عملية متكاملة ذات أبعاد اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية.. تمهد لإعمال حقوق الانسان وحرياته الاساسية”. اضافة لذلك يزخر الادب الاقتصادي بالمقولات والمفاهيم التي تميز بين النمو والتنمية، بحيث ترفض اختزال التنمية بالنمو، لكنها تعتبر ان التنمية لا وجود لها من دون النمو الاقتصادي الذي يقف في مقدم الشروط التنموية.
يفتح هذا التمييز على موضوعة الديموقراطية ومدى صلتها بالتنمية والعلاقة المشروطة في ما بينهما. عندما يتجاوز تحديد التنمية معناها الاقتصادي والتقني المرموز اليه بتطوير قوى الانتاج، ويجري التعاطي معها كعملية شاملة، فإن الموضوع يفتح مباشرة على شروط تستوجبها هذه التنمية في كل مجتمع من المجتمعات. من أجل ان تمارس التنمية هذا الدور، فانها تحتاج الى نظام اقتصادي يقوم على عدالة في التوزيع بما يحد من التفاوت الاجتماعي، ويحقق المساواة أمام القانون بين جميع المواطنين، ويسمح بتكافؤ الفرص ومنع التمييز العرقي أو الطائفي أو الاثني، ويحقق المشاركة الواسعة في القرارات والمشاريع المنفذة بما يسمح بانخراط أوسع الكتل الاجتماعية في تحقيق مشاريع التنمية، وفي إعطاء المرأة حققوها السياسية والمدنية واشراكها في جميع المجالات الهادفة الى انجاز التنمية، وفي استقلالية المجتمع المدني وحقه في التدخل والرقابة والنقد، ثم في التعددية السياسية وصيانة الحريات على جميع المستويات والحق في قيام أحزاب سياسية وكفالة حرية الرأي والتعبير… هذه المقولات التي تشترطها عملية التنمية في معناها الشامل هي في جوهرها مبادئ ومفاهيم يقوم عليها النظام الديموقراطي.
يبقى هناك تساؤل حول ما إذا كانت التنمية مشروطة بتحقيق الديموقراطية؟ لا يقوم الأمر على انتظار قضية لأخرى، فمسار التنمية يسرّع المسار الديموقراطي، كما ان تسارع وتيرة الديموقراطية تؤدي مباشرة الى زيادة وتيرة التنمية الشاملة. وكل نقاش يدور حول تأجيل الديموقراطية الى حين تحقيق التنمية هو نقاش ينحرف عن الموضوع الجوهري ويصب عملياً في تأبيد الاستبداد والتمايز الاجتماعي، وهو أمر عرفته البلدان العربية جيداً في فترات النهوض التي ترافقت مع أدب سياسي واسع يدعو الى تنحية المطالب بتحقيق الديموقراطية الى حين تأمين التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة، فلم تكسب هذه البلدان تنمية، كما لم تتحقق لها الديموقراطية.
ليس مبالغة القول إن التنمية البشرية الشاملة في العالم العربي هي حاجة راهنة ومستقبلية ملحة، وإنها بواقعها وشروطها ليست أقل من مشروع نهضوي شامل جميع المستويات تحتاجه المجتمعات العربية جميعها.

* كاتب لبناني
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى