منهل السراج

الحلقة الخامسة لرواية “كما ينبغي لنهر”

null
منهل السراج

بيوت حارة فطمة في الضفة الأولى أكثر رشاقة وحداثة من بيوت الضفة الثانية، ترتدي نساؤها، على الموضة، التنورات وجوارب النايلون والأحذية ذات الكعب العالي والجزادين معلقة بالزند مثل مارلين مونرو. أما غطاء الرأس فمنديل شفاف، شفاف “حاطّة منديل بالاسم، سمك الحمرة على شفايفها هيك، إعمل هف، هف.. يطير المنديل”. أما الرجال فيعقدون ربطات عنق ويرتدون جوارب وأحذية برباطات وبناطيل وقمصاناً منشاة بأزرار أكمام منفصلة.
أما أهل الضفة الثانية فالنساء، على الغالب، بملاءات سوداء سميكة مثل الملحفة، تنّوراتهن زمّ عريضة مضيّعة للمعالم وأحذيتهن بكعب قصير يساعد على الحركة والتسوق وزيارة الجيران وتفقد الأحوال. أما الرجال فيرتدون دونما تكلف جلابيات عريضة قديمة وجديدة لافرق إلا يوم الجمعة فيعتنون بارتداء جاكيت فوقها، يسمون هذا اللباس، طقم عربي. يخرّج بالبند الذي يصنعه أبو فطمة في الضفة الأولى، يكسرون* أحذيتهم من أول تجريب لها عند البائع، لأن هذا أدعى لراحة المشي والعمل.
ذات يوم، ليلاً أو نهاراً، صعدت ضفة النهر الثانية إلى البيوت التي كانت متطاولة، أسقفها قبب تعلوها أهلّة أو أسقفها من قرميد، نوافذها متقاربة وشرفاتها صغيرة وخجولة، لكنها مثل درج فطمة شفافة منحنية، كثيرة ومترابطة وقريبة. هناك كان شموخ البيوت كتلاً حجرية كتيمة راسخة، تتخللها نوافذ ضيقة وعالية. في الطبقة الأولى إسطبلات الخيل، حين كان الفرسان يعرفون كيف تُروّض الخيول وكيف يعتلونها، يغنون معيّرين وزير الفرنسيين بحاله، يغنون للصبية بثقة الرجولة وتوق عال للأنوثة المتخفية وراء النوافذ.
هناك، بعد الجسر الصغير، كانت الشرفات تتقدم البناء لتطل على النهر، تكاد أن تلتقي شرفة فطمة طالبة عفو النهر، الذي لا تستطيع تجاوزه فهو، رغم هدوئه، كان يوماً يفور فوراناً شديداً مخيفاً.
كأن الشمس تشرق من أجل هذه البيوت فقط، تضيء الواجهات، ثم ترتد إلى الشرفات المقابلة، فتشكل لوحات حيرت فناني الضفتين الذين تباروا في تصويرها، لكن عبثاً. كان من يسكن هذه البيوت يدعو الناس أن يصدقوا أن شمسه مختلفة في شروقها وغروبها، فالشمس تشرق عليها أولاً، بشعاع مضيئ من دون حرارة، ترمي بضفيرتها باكراً لتلمس الخد بضربة خفيفة، توقظه، وتتبختر في كل زوايا البيت، وقبل المغيب ترحل قاصدة التأخر.
هناك كان بيت أهل لميا المجنونة، التي لم تكن مجنونة، محشوراً بين بيوت كبيرة، لم يكن يبدو ناتئاً، هم أهل حارة واحدة، الأبواب كلها مفتوحة، فلا فرق إن كانت أسقف البيوت قرميدية مزينة من الداخل بطبقات خشبية معقدة في زخرفتها وفخامتها، وبين سقف “سادة”. لا فرق بين أرض مرمرية وأرض إسمنتية سوداء تلمع بعد الغسل عصراً. لا فرق بين خياط وبين صاحب ضيعة، ربما كانت هناك فروق من نوع آخر، أما اليوم وبعد أن هُدمتْ كلها وصارت دارسة خواء فقد تذكروها. تذكروا جمالها فقط.
أمر رجال أبو شامة ببناء مركز “الخلية الذكية” للاتصالات مكان تلك البيوت التي دخلوا حاراتها بالدبابات وهدموها بالطائرات وأن ينصب أمام البناء الجديد، على عمود عال، لوحة كهربائية هائلة تحمل إعلانات ضوئية متناوبة تحتل النهر حين تنعكس فيه فترسم مساحات زرقاء وحمراء وخضراء تزيغ النظر.

يقول قاطنو الضفة الأولى، ضفة فطمة، إن لوحة إعلان بناء الخلية الذكية تجلب الكآبة لهم، فهي تحجب القمر والضوء أيضاً. قال فارس، حين اشتكت فطمة حزينة من تعلق لميس بالخلية الذكية للاتصالات:
ـ لميس لا تعبأ بها، لا تراها. هي وسيلتها فقط للاتصال بالعالم والتعرف على ماتريد.
ـ لكنها لا تتصور جمال البيوت قبل الهدم.
ـ أنت تريدين إعادة تربية الجميع.
أضاف فارس:
ـ أبوشامة بعيد، أدار ظهره.. هكذا تكون القيادة. ربما بعد انتصاره نسي مدينتنا ونسينا.

عندما رأى فارس فطمة للمرة الأولى، رآها عند ضفة النهر تبكي بعويل مرعب، تغسل ساقيها:
ـ أهذا دمي أم دم أعمامي أم أبناء أعمامي؟.
جذبها نحوه ناهيها عن الصراخ. كانت تتصاعد من الحارات نتيجة القصف الشديد موجات سوداء، يقطعها هدير الطائرات المحملة بأنواع المتفجرات. رفعت رأسها مذعورة:
ـ احترق بيت لميا وتشرّد أهلي كل في اتجاه، وجدت نفسي وحيدة عند النهر، البيت الكبير فارغ، غرسوا حرابهم في تراب الحديقة، كأنني رأيتهم يطعنون النخلة، أصاب جدتي الخرس والعمى ثم اختفت، أم الحب احتضنت الأطفال وهربت بهم، أمي ركضت خلف أبي عندما أخذوه كي يسألوه عن  نذير، أختي ليلى..  أتكون مع أم الحب؟ أخي أحمد أخذوه مبلل الثياب ببوله، الدنيا برد.
أخذ فارس يهدئها:
ـ كفي عن الصراخ، يجب أن تنجي بنفسك وننجو، هرب أولادي مع أمهم قبلي، تأخرت كي ألملم لوحاتي، هم لن يسرقوها، أو يهتموا بها، لكن ربما يمزقونها، كما فعلوا ببعضها، طعنوها أمامي بحرابهم.
انصاعت للركض معه عبر الطرق الخلفية، كانت تشاهد في طريقها اللاهث بقايا أعضاء بشرية مبعثرة، معدة ملتصقة على جدار، قلباً مرمياً هناك، ذراعاً لا تعرف صاحبها، بنطال “بيجامة” فيه ساقان:
ـ ربما تكون بقايا جثة أحد أولاد عمي.
تتذكر هطول الرصاص عليهم وتساقط الجثث على بعضها. كان حظها جيداً أن جثتها الحية لم تتأثر بالماء المغلي الذي سكبه أحد رجال أبو شامة على القتلى كي يتأكد من موتهم. كان إبريقاً كحلي اللون كبيراً وطويلاً موجوداً منذ دهر فوق مدفأة غرفة الجلوس، فيه منذ دهر ماء مغلي لوضوء الجدة. وكان مفيداً ماؤه الساخن في اختبار الموت من الحياة. فالجثة التي تأوهت من نار الإبريق نالت نصيبها من الرصاص الجديد. أما فطمة التي رصت عينيها وكتمت أنفاسها وأصرّت على البقاء حية فقد كانت نار الإبريق برداً ولسعة ولعنة لاتنسى.
وسط البيوت التي تتهدم حولهما، وصلا إلى صخرتين هائلتين أبتا إلا أن تصمدا، قالت فطمة وهي تتقيأ وتلهث:
ـ أرجوك، أريد أن أسند ظهري بين هاتين الصخرتين.
ـ لا وقت سوف يصيبنا القصف.
لكنها تركته ودخلت بينهما، لم تستطع عيناها رؤية الظل بعد امتلائهما بالغبار الكثيف، تهاوت على الأرض، مغمى عليها، استيقظت لترى أمامها كومة هائلة من الجثث، صرخت مرة أخرى، شدّها فارس ناهيها كي تكف. لكن أنيناً انطلق من تلة الجثث جعلها تصيح مرة أخرى:
ـ يوجد أحياء يجب إنقاذهم.
أجابها كاذباً:
ـ إنه صوت القطط. سحبها وهو يقطر عرقاً، دموعاً، رعباً.
خرجا من المدينة ركضاً على الأقدام. أخذا كل أنواع وسائل المواصلات، كي يصلا إلى أقرب ضيعة، وعندما أمسك فارس بيدها وهي تهبط من الطرطيرة   قال:
ـ يدك ساخنة جداً.
أجابته وهي ترتجف:
ـ من أنت؟ ما اسمك؟.
وجدا في الضيعة بعض أهل المدينة، ممن استطاع أن يهرب مثلهم. قضيا بضع ليال في ازدحام الضيعة يأكلان اللقيمات التي تهيأت لهما من المساعدات كي يدفعا البرد والجوع والتعب إلى أن اطمأنا إلى انسحاب أبو شامة ورجاله من الحارة مؤدين المهمة التي جاؤوا من أجلها، الانتقام وتلقين المدينة دروساً لاتنسى.
قبّلت فطمة أهل البيت الذين أوت عندهم ولم تتذكر أحداً منهم فقد قضت فترة هروبها تهذي:
ـ معدة من كانت ملتصقة على الجدار؟ ساق من كانت مرمية بجانب الباب؟ وتلك الساعد الصغيرة التي ترتدي كم ثوب، تشبثت بساعد كبيرة، أي صغيرة كانت صاحبتها؟. كلاّبة مغروزة في رقبة، مؤكد أن صاحبها قد عُذّب بشدة. الأنين ينطلق من أكوام الجثث، أنقذوا الأحياء من بين الأموات..
قبل أن يصلا المدخل الأول للمدينة شاهدا جبلاً من ركام يتحد مع الفضاء في بياض مغبر. رأت الضفة الثانية، أرض خواء، أكوام الأسقف والأرضيات، الجدران والشرفات والحدائق، الشجر والأسرّة والصحون، الأوراق والحقائب ولباس الأطفال وقمصان النساء النايلونية، وجلابيات الرجال. صاحت فطمة:
ـ ثم ماذا بعد؟.
غطت وجهها بكفيها حين رأت دكاكين الحارة مزدحمة بالجثث التي لم يصل إليها سائق التركس بعد. تعب التركس كثيراً خلال الأيام الماضية في نقل الجثث وتغطيتها بقاماش الخام العسكري. كان الهواء يطير زوايا القماش، فيطل رأس أو قدم أو كتف، متابعاً الاستماع إلى إذاعة أبو شامة التي تبث خبر زيارة ابنة أخيه المدللة إلى المدارس وتوزيعها الورود على التلاميذ في مدينتها، بذكرى عيد ميلاد عمها أبو شامة.
أبقى رجال أبو شامة على جدار واحد من كل هذه البيوت، هو الجدار الغربي من بيت لميا. أجابها فارس:
ـ تركوه كي يسجلوا نجاحاتهم ويلهوا. يستندون عليه من الطرفين حين يتعبون ويملون من القتل، يبوّلون عليه. ربما يشبعونه بولاً، شتائم، رصاصاً، يشبعونه لطخات تحمل شكل أكفهم الحمراء.
ـ  لكن كيف يتضايقون من لميا؟ من يتضايق من لميا؟.
ـ ليست لميا المقصودة.
كانوا يا ما كانوا، كانوا يركضون من الضفة الأولى إلى الثانية، قاطعين الجسر الذي لم يكن مسوراً بالحديد، بل بأحجار القناطر، يصلون إلى الحارة الرفيعة الطويلة المعتمة المخيفة للأطفال في الشتاء، خصوصاً صوت الطاحونة المرافق، الذي يجلب النعاس للكبار.
كان عاصم يركض، في الصيف، قاطعاً الجسر عائداً من دكان معلّمه المنجّد، مسافة المائتي متر في ثوان، إلى أن يتلقى نور الجسر الصغير، عندها يتمشى على مهله. يخطر في باله أحياناً أن ينكس في النهر نكسة مع بقية الأطفال، يأخذ “زوم” ثم يمضي إلى البيت كي ينال من أمه قبلة عجلى ويجلس ليأكل لقمتها، تلك التي تعتبره رجلها.
ـ فطمة أنا تعبان.. هل أحضرت معك ماء؟ أحس بالعطش.
قال فارس بفم مر وجاف وراح يردد موالاً.
“كنت شجرة على الماي          جابوني لشيل الماي”.
استمعت فطمة وهي تنشج متأملة الخراب، الفراغ والغبار، من دون أن يغادرها أنين الأحياء المنبعث من كومة الأموات بين الصخرتين.
شاهدت لميا لأول مرة بعد أن جنت، تذرع الجسر، مهرولة، بين الضفتين، رافعة كفيها إلى السماء مهدّدة أو راجية. غطاء رأسها سقط على كتفيها، شعرها مشعث، وثوبها ممزق عند الصدر.
ـ ألا ترى معي أن الطمي قد زاد؟.

بانتظار انتهاء المئة عام، حسب رؤيا البصارة، ظلّت الأزقة مزدحمة بالنساء المتشحات بالسواد. على أكفهن أكياس طعام ثقيلة للأفواه المنتظرة، يتعثرن بجلابيبهن كل صباح، بين توبيخ البائع وصراخ السائق فيما تحتار أيديهن في الإمساك بطفل وبتعبئة الأغراض أو بتهدئة تلك الأصوات الخشنة، بابتسامة استرضاء خجولة، ليس فيها من الأنوثة شيء، لكن فيها كل الذل. تلك الابتسامة التي تجعل الرجال يشيحون بوجوههم مللاً، إمعاناً في إهانتهن.
تغيرت الحارة، فالاغتراب طبع كل حجر غادر مكانه وبات تحت رحمة رجال أبو شامة. أما النهر الذي كان يحتضن شباب الحارة مهما كان الارتفاع الذي يرمون أنفسهم منه فقد بات يرسل روائح غريبة.

تفقدت فطمة أحواض مزروعاتها، نزعت ورقة صفراء يابسة هنا وغصناً مريضاً هناك، لملمت الأوراق الساقطة ثم دفنتها تحت التراب:
“أفضل سماد لها”.
سمعت حركة خلف الباب، ظنت أنها لميا:
“تراها تريد أن تأكل؟ تشرب؟ تقضي حاجة؟” لكنها تبينت أن الحركة، حوار بين رجلين:
ـ منذ كم من الوقت لم تر فطمة يا حاج عمر؟.
ـ أزورها كلما انتصف الشهر العربي، أتذكر يا عاصم؟ عندما كانت ” تتعربش ” على الشجر أسرع منا كلينا، كنا نخجل من جرأتها. سرح عمر ثم أضاف: فطمة حظها قليل.
ـ هي التي تحمّل الأمور أكثر مما تحتمل.
ـ فطمة غير كل النساء.
ـ وحدتها الطويلة جعلتنا نراها غير كل البشر، أظن أنها تحتاج أن ننظر إليها كأم فقط.
ـ لا، أنت مخطئ يا عاصم، فطمة لا تكتفي بالبشر.
ـ يا حاج عمر أنت تكفر.
ـ أستغفر الله.
ـ أظن أن أخاها أحمد سيعود مع من سيعود، هكذا سمعت.
ـ أرجو ذلك، لكن ما أخبار طلابك الجدد؟.
ـ أنا قلق، فالطلاب فضوليون كثيرو الأسئلة، وأنا لا أستطيع إلا أن أجيبهم.
ـ أجبهم.
ـ هناك أسئلة لا يمكن الإجابة عنها، وإلا فسوف أصبح بعلم الغيب، لكن أيضاً لا أستطيع أن أكذب.
دخل عمر مرة ثانية في وسواسه:
ـ لن تبعث يا حاج عمر.
صعدت الدرج كي تحضر غطاء رأسها وترتدي معطفها متوقعة أن يطرقا الباب، لكنهما غادرا قبل عودتها.

يقولون إن مولد أبو شامة كان قبل “الثلجة” ببضع سنوات. استطاعوا تحديد عمره من شكل رقبته، حين لطمه أبوه وطرده. يومها أقسم أنه لن يعود إلا بانياً لأمه قصراً لا ينسى. في تلك الليلة صارح صديقه وهو لم يتجاوز الثامنة عشرة أنه سيحكم البلاد.
على التبن كان مولده، لازمه طعم الملوحة الرطبة، بينما أهله يلحسون بقايا المعلبات الفارغة. كان جميع الأطفال في حارته يفتحون أكفهم الصغيرة عند توزيع الطعام، إلا هو، كان يرفع حرج جلابيته ويفتحه آخذاً أكبر حصة.
أكثر ما يغضبه إذعان أهل بلده للفقر. يقضون يومهم متجمعين أمام الحفر الثمانية مالئين أيديهم بالحصى اللازمة للعبة “المنقلة”، تعلو أصواتهم في خلاف حول خانة، أو غش أحدهم بإزاحة حصاته، بينما تقرقر بطونهم من الجوع المزمن، أومن الدود النشط.
لعل أم الصافي، قريبة أبو شامة، هي سبب الهجوم. أحضرها الجد ابن البيك صغيرة جداً كي تعتني بالعم العاجز، ترتب غرفته وسريره، تفرغ مبولته، تضع له المساند على الكرسي، وتستبدلها ليلاً بمخدة السرير، عمليات طويلة معقدة لكنها ضرورية. تحمّلت الكثير من  صخبه وصراخه.
ـ ما سبب عجز عمي محمود؟.
ـ أصيب في ساقه يوماً أثناء عودته من السينما، التهبت وبعد أيام اسودت، مما اضطر أطباء ذلك الوقت إلى قطعها وظل يتحرك على كرسيه مع كرسي آخر إضافي، يتنقل بينهما، واضعاً مساند كثيرة وراء ظهره، وعلى المقعد.
كان يحب الملح الزائد في الطعام تماماً كما يحب الحلويات. شكّل مدرسة للصبيان سماها “عنوان النجاح”،  درّب أولاد الحارة فيها على التجويد في القراءة وعلّمهم الأناشيد والموال، وهيأهم مثلما رغب أخوه نذير. كان لا يحب اللغات الأخرى وبعفويته اتفق مع نذير فنال رضاه ومباركته، شكّل فريقاً للعب كرة القدم، علمهم باستخدام لسانه وعصاه. أما الفتيات فقد كن يهرعن إلى البيت لارتداء الأثواب المستورة عندما يسمعن صرير كرسيه عائداً إلى البيت، كان لا يطيق رؤية أصابع أقدام إحداهن، فهذا موضوع يشغله. أشرف بنفسه على مراقبة خروج النساء من البيت. كن يتسلين كثيراً باستغفاله والخروج إلى السينما أو إلى السوق. كان لا يكف يردد: همُّ البنات للممات، وعندما يبدأ بوعظهن لا ينتهي قبل ساعتين، يجمعهن حوله ويبدأ الحديث بصوت عال جداً، ثم يخفضه مع خفض رأسه إلى أن تتلاشى الكلمات الأخيرة، وعندما تنطلق الضحكات المكبوتة، يتنبه فجأة وتعلو وتيرة الصوت مرة أخرى. كانت تسليته إثارة مجنون الحارة عندما يصرخ: “بدّي أمك بالحمام”  أو”بدّي أمك على السطوح”، حينها يضحك ملء فمه رافعاً طرف جلابيته الأمامي بيده اليمنى، جاعلاً منها مروحة لساقه الوحيدة. لغرفته رائحة “صنان” كانت بسبب نسيان أم الصافي مبولته ملآنة.
ظل محمود العاجز يضربها بعكازه صارخاً:
ـ بهيمة ملح، بهيمة ماء، بهيمة لا تمشي أمامي أثناء الصـــلاة..
حتى استطاعت أن تعتليه يوماً، معلنة حملها بالصافي. كان يوم ولدت ابنها هو يوم عرسها الحقيقي فقد أمرت الجدة بإحضار الشيخ كي يعقد زواجها من العاجز وتحــول الجمــــيع من منــاداتها: “بهيمة”، إلى مناداتها أم الصافي. صار لها دور مثل بقية النسوة في الطبخ وإطعام الأعمام والأولاد، لكنها لم تستطع أن تغيّر شيئاً من عاداتها التي  فطرت عليها.
قالت أم فطمة باستعلاء:
ـ قلب أم الصافي فقير، تختار، حين يكون دورها بالمطبخ، شوربة العدس بالزيت والبرغل المسلوق، وعندما تعد المائدة تضع عدد الملاعق بنصف عدد الموجودين قائلة: لكل اثنين ملعقة واحدة، كي تخفف عن نفسها عبء الجلي .
لم تكن أم الصافي تعرف أصول الصلاة. كانت تحاول إيجاد أي حجة عند موعد نداء أبو رحمون. كانت تحس من نظرة العم محمود أنه يسألها:
ـ متوضئة؟.
ترخي عينيها في الأرض وتدّعي أنها لم تنتبه. إلى أن جاءت ظهيرة كان الجميع في قيلولتهم، نادتها الجدة أن تقف أمام البحرة، لقنتها أصول الوضوء ثم ناولتها طقم صلاة جديداً، علّمتها بصبر صلاة الظهر ثم في يوم ثان علّمتها صلاة العصر وبعد عدة أيام باتت تمد سجادتها في الصف الأخير خلف الفتيات الصغيرات وترفع كفيها إلى رأسها ، تقول الجدة: لا ترفعي يديك هكذا كمن ينوح. فتصطنع خشوعاً متمتمة بصوت عال.
قالت أم فطمة رافضة مشاركة أم الصافي لهن في الصلاة:
ـ تبدو بأصابع قدميها المشوهتين من تحت التنورة البيضاء، وبكفيها المتراكبين على صدرها وبوجهها غير الخاشع، كنبتة مزروعة في وسط أرض الدار رغماً عن الجميع.
امتعضت أم الحب وقالت:
ـ وأنا أيضاً نبتة غريبة.
كانت أم الصافي تقضي صلاتها وهي تعطس، فما إن تضع الغطاء الأبيض وتمد السجادة الصغيرة وترفع كفيها قائلة: نويت أن أصلي فرض..، حتى تنتابها نوبة من العطاس المتكرر الذي قد يبلغ خمسين عطسة فتمسح بغطائها الأبيض مخاطها كي تؤكد نيتها بعدم قطع صلاتها، وهكذا لا تنتهي حتى يكون صدرها قد تبلل بالكامل.
قالت أم فطمة:
ـ سبب هجوم أبو شامة هو عمه، حين اشترى قماش جلابية من الحارة وكان العم جميل هو الذي باعه القماش، مدّه عليه كي يتأكد من الطول، وعندما انحنى الرجل، سحب جميل القماش إلى أسفل غامزاً أخوته، فقضى الرجل العيد بجلابية لا تغطي قصبة رجله.
رأي أبو فطمة، أنه سواء كان السبب قريبة أبو شامة زوجة العاجز أم غباء عم أبو شامة صاحب الجلابية القصيرة، أم سخرية أخوته وبطرهم وغرورهم فقد كان الهجوم أعنف بما لا يقاس.
أما السبب الحقيقي للهجوم فلعله نذير، نذير الذي احتل أعلى غرفة في المنزل، وقد كان المفضل عند الجدة، يخافه الجمــيع. فعــندما يعود إلى البيت تنخفض أصوات الأطفال ويتراكضون إلى غرفهم. يستيقظ في الخامسة صباحاً يتوضأ ويصلي الفجر، يقرأ القرآن بصرامة غير خاشعة، ثم يتوجه إلى الشرفة حيث نصب حبلاً ثخيناً في السقف يتسلقه بسرعة حتى يلامس السقف ويهبط، يعيد الكرّة عدة مرات، رياضة بدنية لا بد منها.
حدث مرة أن نسوا قيلولة نذير، كان غداؤهم على السطح في الربيع متعة لا تنسى، فبانتظار العجة والبطاطا، خطّ الأطفال الخانات على الأرض بالطبشور إيذاناً بلعبة ” الصبّابة ”  وما إن علا صوت أحدهم “حشيتو دودة”  لأن اللاعب داس على الخط، حتى استيقظ نذير من قيلولته غاضباً، وأمر أن ينزل الأطفال إلى القبو خالعين ثيابهم، مستلقين على المفارش العارية للأسرّة الحديدية بعقاب طويل، نفّذه الأطفال بكل أمانة. عندما أُفرج عنهم عادوا إلى أمهاتهم باكين حاملين بقعاً حمراء على خدودهم وأجسامهم الطرية بتأثير الأسلاك المضفورة للأسرّة الحديدية.
كانوا يستمتعون في مراقبته أثناء طعامه أو أثناء عمله أو قراءته، فقشرة البرتقال تخرج من بين أصابعه قطعة واحدة، كأن البرتقالة لم تمس. يضع أشياءه في الخزانة بهيئة تجعلهم يخشون تشويهها بأنفاسهم فيكتشف تطفّلهم. أما غرفته فقد كانت عارية الجدران إلا من لوحة طرِّزت “بالصرمة”   بآية قرآنية: “إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه”. أما مكتبته فمليئة بكتب مزخرفة، منقوش اسمه عليها من الأسفل لتعبر عن ملكيته لها. كان بعض النساء والأطفال يظنون أنه مؤلفها.
من علٍ يتقن فن الحديث والإقناع. إن أخطأ أحدهم فلا مغفرة ولا نسيان، سوف يخضع لعقاب هادئ مذل من السخرية، وربما يخرج بلقب يطلقه نذير عليه، فيحمله طيلة عمره، لقب أحد الأعمام “الجق” وآخر “كوساية”، وغيره “مسودة الصورة”، جميل “النسونجي” وعبد الحكيم ” كشاش الحمام”. أما فطمة فلها ألقاب عديدة: “البستانية، يهود خيبر..”، وليلى “الشوكولاتة”.
اعتقد نذير بالمذهب السائد وحفظه بعناية، مداخله ومخارجه، حجج الدفاع عنه ووسائل التملص من المآزق التي لا بد وأن تحملها كل عقيدة، لم يكلفه هذا سوى وضعه كفنه على رأسه من أجل قول كلمة الحق التي يدّعي، عمامة بيضاء كبيرة يثبتها بمهارة. كانت أم الحب تقول:
ـ كفنه على كيفه وكلمة الحق على كيفه .. والدنيا مصالح.
يعود نذير حيناً للتراث وحيناً يستشهد بنظرية حديثة، قال مخلص مربي الأجيال الذي ظن أن العم نذير سوف يرسل له كي يعلن توبته وراء محراب الجامع. فهو يدرّس الفلسفة ويحرض الطلاب على التفكير بعيداً عن الأطر الجاهزة:
ـ عندما تنفذ الحجج لدى نذير فإنه يصوغ نظريته الخاصة، بلا خجل، فالجميع مقتنع مسبقاً، لهذا لم يحتج إلى كبير عناء في السيطرة بمبدئه، لأنهم مبهورون به وبعالمه.
كان نذير يرسل الأعمام إلى أي فرد لا يروق له في المدينة، يأمره بالمثول، أمام الجميع. يعلن توبته وراء المحراب وعودته إلى صراط نذير، فأبوشامة لم يصل المدينة بعد، حتى يجبر الناس أيضاً على التوبة، والعودة إلى صراط أبو شامة. من يتعاون مع أبو شامة من قريب أو من بعيد، أو من يخالف نذير بالعقيدة والسلوك، سوف يستيقظ صباح الجمعة ليجد مظروفاً مغلقاً مرمياً من فوق باب بيته، مكتوب فيه:
ـ اسع للتوبة قبل أن يفوتك الميعاد.
سيقضي الصباح باكياً في سريره كي لا يراه أولاده، وعندما تحين صلاة الجمعة سيتوضأ ويتجه إلى الجامع المذكور في ذيل الورقة، يؤدي الصلاة مع الجماعة، وبعد انتهاء الخطبة والأدعية يتجه منكساً رأسه وسط نظراتهم المذلة ليقف وراء المحراب قائلاً:
ـ إني أتوب ثلاث مرات.
يدخل بيته ولا يخرج إلا لعمله حاملاً لقب “التائب”.
يفضل نذير نفسه على الجميع في طعامه الذي يطبخ خصيصاً له وكأس الليمون الذي ينتظره بعد الاستيقاظ، وكذلك “سفرة” الطعام التي توضع بحيث يكون الصنف الأول والأهم مقابلاً له وحده وصحن الفاكهة الطازجة والخبز المسخن، كل هذا بمباركة الجدة ورضاها الصامت. قام بتغيير أثاث البيت بحيث يصبح مناسباً لعقيدته وراحته وظروفه. أما ثيابه فقد كانت دائماً مغسولة ومكوية بحدة جعلت فطمة تظن، في انبهارها بها، أن قماشها من المعدن، فتدّعي حجة إحضار منديل لعمها كي تطويه وتضعه في جيبه وتلمس صلابته.
في ذلك العام الذي حج فيه، لم يُسمَح للأطفال بارتداء ثياب العيد الكبير، كانت مبرراتهم أن العيد يكون بعودة الحاج من مكة. فقبل أيام من وصوله نُصبت المصابيح في الحارة دروباً، جيئة وذهاباً، شُكّلت عريشة من أغصان السرو، تخللتها الأعلام حاملة عبارات المباركة.
دخل الحاج البيت مع ذبح الخروفين، بين أصوات الطبل وقطع الراحة المتناثرة، مرتدياً عقالاً أبيض.
قالت أم الحب:
ـ كان يوماً مشهوداً عوّض الأطفال عن أراجيح العيد.
لم تُفتح الهدايا حتى الصباح الثالث لوصوله، حسب العادة، فانطلقت رائحة البخور والصابون المعطر، كانت السُّبحات الملونة مكومة في زاوية الحقيبة الأولى، وباقي المساحة مخصصة للجلابيات والهدايا الأخرى.
حصل كل طفل على منظار، وبضعة أفلام دائرية مقسمة إلى أهلّة، تحمل لقطات للأماكن المقدسة، مكة، الكعبة، جبل عرفات والمدينة. شغلت اللعبة الكبار أكثر من الصغار. أما النساء فكان نصيبهن قطعاً قماشية من الشيفون والمخمل والحرير وأخفافاً ومناديل مقصبة، وغير ذلك من الهدايا التي سببت خلافات كثيرة. نظرت كل منهن إلى هدية الأخرى في إحساس أزلي بالغبن والغيرة، غير مقتنعة بنصيبها، لم ينتبه أحد إلى أن حصة أم الحب لم تكن أكثر من كيس تمر صغير وزعته بعد ذلك على الأطفال كي يرضوا.
قيل:
ـ إن الأسباب المباشرة، وغير المباشرة المذكورة عن هجوم أبو شامة هي أسباب سطحية، غير صحيحة.. ربما تواطأ العم نذير مع أبو شامة، وهذا تفسير بعيد، أوربما كان الأمر سوء تدبير من العم نذير وهذا تفسير قريب.

“ترى إن صارحتهم بمرضي هل سيخففون عني؟. لكن ما هو ذنبهم؟.”
فكرت بلميس:
“البنت صغيرة، يجب أن تفرح، لديها حدس يكشِف ويفضح”.
كانت تتحدث إلى نفسها وهي تنظر في المرآة ماسحة خديها بأصابعها:
“لم تعد تجدي كمادات الشاي والزهورات في التخفيف من هذه التجعيدات.. ترى كيف سيكون ألم المرض؟ كيف هو الموت؟.
نظرت حولها:
“من سيعتني بكل شيء؟ كيف سأفارق لميس، البنت متعلقة بالبيت. أما لميا فمن سيتذكر طعامها؟”
تنبهت:
“منذ أكثر من عشرة أيام لم أسخن الحمام لها، الدنيا حر وعرق، يجب أن تستحم”.
أطلّت من الباب الكبير فوجدتها مستندة إلى المصطبة تدوّر لسانها في فمها، وجهها دبق وثوبها متسخ، أظافرها سميكة سوداء:
ـ لميا، لاتغيبي، يجب أن تستحمي.
ـ فطمة.. روحي نامي.
ـ أقول لك لا تغيبي يجب أن تستحمي.
ـ كان الأستاذ عاصم الأجدب والحاج عمر المجنون يقفان هنا، قالا لي إن ثيابي متسخة.
نظرت في حرج ثوبها ونفضت فتات خبز يابس. قالت:
ـ لماذا لم تلدي ولداً؟ “أنوسة” ابني صار عمره عشرين، أما “سحورة” فقد تدللت على العرسان حتى قبلت الزواج وسافرت و..
تركتها فطمة آسفة وأغلقت الباب:
“المسكينة.. تظن أن أولادها أحياء”.

في الصباح وقفت أم الصافي في أعلى الدرج، كانت أصابع قدميها المشوهة تبرز من حديد الدرابزين للعيون التي فغرت لرؤيتها تطل من عل بثبات. أعلنت بصوت واضح بلا تأتأة أو ارتباك، رغبتها في تقسيم الميراث. كان العاجز يسبّح ويتمتم مدّعياً الطرش، وقد استبدل العصا بسبحة تتدلى من أصابعه، تكاد بطولها أن تلامس الأرض.
في الصباح التالي، كان الطقس حاراً جداً، النخلة هادئة والبحرة ترسل نافورة ضعيفة بقدر الماء الذي يصل إليها. سمعوا صرير كرسي العاجز. لم يتحرك أحد من مكانه، حتى الفتيات اللواتي اعتدن الهروب منه لم يكترثن لقدومه. قالت أم الحب:
ـ أصبح الجميع أكثر تسامحاً ويأساً فالحزن والغياب يغيران العادات.
كل ما فعلته أم الصافي صباح البارحة ليس بأهمية ما جاء محمود به.
طلب من مطيعة أن تتزوج عبد الحكيم كشاش الحمام، ومن سميحة أن تتزوج العم جميل، فالأخ يجب أن يلمّ لحم أخيه، حتى وإن كان متزوجاً، الله أمر بالسترة، مطيعة لعبد الحكيم وسميحة لجميل.
عبد الحكيم الذي سوف يتزوج مطيعة يحب تربية الحمام فعندما كانت الجدة تراه حاملاً العصا مربوط فيها خرقة تقول: “رش ذرة وقش خرى وسمعة وسخة بين الناس”. ما يميز عبد الحكيم هو حركته السريعة ويده الخفيفة التي ترشق الأشياء، حتى لقمة الطعام كان يرميها في فمه من مسافة بعيدة، وهو على خلاف دائم مع جميل بسبب السطح، جميل يحب التلصص على الجارات:
ـ أنا جميل، ألا أسمح لهن برؤية جمالي؟.
أما عبد الحكيم، فهمّه مختلف. كان يجلس القرفصــاء لساعات أمام الطيور يراقبها، حركاتها، طعامها، فضلاتها، مشاويرها، حتى تلاقحها كان يتابعه ملتذاً بنزقها موسعاً من عينه الوقحة. يوم “زرّع”  الطير على نافذة الجارة أم عمر، قذفه عبد الحكيم بحصاة صغيرة كسرت الزجاج، فراحت أم عمر تشتم وتصرخ. يومها أعلنت الجدة إغلاق السطح بباب حديدي أبقت مفتاحه في جيبها، مانعة ابنيها الطائشين عبد الحكيم كشاش الحمام، وجميل النسونجي من ممارسة عاداتهما، كذلك حُرم الأولاد من متع كثيرة، منها أن يغمسوا إصبعهم في صينية مربى المشمش المغطاة بقماش من الشاش الأبيض، المثبت بملاقط الغسيل، حرموا أيضاً متعة مد أصابعهم بين خيطان كيس الجوز، ليأكلوه أخضر طرياً.
أُجبر عبد الحكيم على نقل بيت الحمام بكل “كراكيبه” إلى سطح غرفة الغسيل حيث لا درج، مما اضطره لاستخدام السلم في الصعود وفي الهبوط، شاتماً في كل درجة:
ـ يا جميل يا نسونجي.
وجميل النسونجي إن افتقدته، فستجده على السطح، أوعلى المغسلة يحلق ذقنه ويغني. لم يعترض أحد على إغلاق السطح، فهذا مخجل، لكنه لم يعدم الوسيلة، فقد حول برج مراقبته من السطح إلى شباك غرفة الضيوف.
يسليهم استعداده اليومي للخروج عصراً، إذ يقف عند المغسلة تاركاً الماء ينبعث من الصنبور خيطاً. يضحك في المرآة متحدثاً مع نفسه بصوت عال، أو مغنياً: “بترحلك مشوار.. قلت لها ياريت”. يقول “ياريت” من قلب مجروح، أو يردد:
“يا طالعة عالدرج وشايلة القفة
شعرك سناسل دهب لفة على لفة
وحق الخالق ورمضان والعيد والوقفة
ما حليلي البوس إلا قطف على الشفة”
كانت الفتيات يتحلّقن حوله، فيسألهن:
ـ أي الخدين أجمل، الجهة اليمنى أم اليسرى؟.
وهل وجهه ضاحكاً أجمل أم مقطباً؟ فتجيبه ابنة عم فطمة:
ـ لولا أنك عمي “لحبيتك”.
تقولها وتركض، فيركلها بقدمه على مؤخرتها ويضحك:
ـ صاير لك أوراك “وليك”.
كان عندما يتحدث إلى امرأة يستخدم الأحرف المؤنثة، كمن يود أن يحتضن صاحبتها، تراه يكسر جفنيه المحمرين سهراً وعشقاً ويمد راحتيه الأنثويتين مع ابتسامة يستجمع فيها كل سحره، متشجعاً بابتسامة أم الحب المؤنبة بحنان. رغم احتجاج الجارة أم عمر على تلصص جميل، فقد رأوا ابنتها تلوّح له من نافذة حمّامهم.
أصبحت أم الصافي سيدة البيت الكبير، خلّصت الأرامل أخفافهن المقصبة، منعتهن من ارتداء أحذية تظهر جمال أقدامهن، بطبيعة الحال فرغت أذرعهن من الذهب وتغضنت من الهم والانتظار. قالت أم الحب وهي تمسح كفي الجدة:
ـ وجوه الصبايا التي كانت تنوّر، تهدّلت وصارت بلون الفقر، والعيون الخضراء والزرقاء والعسلية والسوداء، ما الفائدة من لونها؟ صارت بعد أن نفدت دموعها كماء النهر في لونه وطعمه.

اختلفت الأقوال حول اختفاء نذير من الحارة، فمنهم من قال إنه خرج من الحارة على دراجة نارية وكان يعلك مسكة، صدره مكشوف عن سلسلة طويلة، ربما أصابته رصاصة طائشة، ومنهم من قال إن نذيراً خرج متنكراً بزي بدوي، ومنهم من قال إنه رجع من هروبه جثة، ودفنته الجدة في الحديقة مخبئة صدمتها، فحل محل “حوض الأبو تم”. أياً كانت الروايات فالكل متفق على أن عمامة رأسه البيضاء والتي هي رمز جماعته، ظلت في البيت الكبير ولم يعثر عليها أحد.

ذات مساء لملمت النساء فيه الأساور، هدايا صباح أعراسهن، و”كردان”  أول صبي ولدن، وما تبقى في صررهن من ليرات ذهبية، ارتدين السواد واتجهن باكراً، سرباً واحداً إلى قصر أبو شامة ملتصقات ببعضهن بخطوة واحدة وباتجاه واحد، شفاه مرتجفة، جفون محمرة، يحاولن نسيان النقمة وإتقان أساليب الرجاء والتذلل، من تقبيل اليد القذرة إلى ترداد قصائد المدائح.
أخذت مطيعة تروي لحراس أبو شامة، لكي تسهل المرور، نوادر النسوة المرافقات، تلك النوادر التي  تزيد من خيلاء ونشوة الحراس. راحت النسوة يمعن في رسم ابتسامة البله، كي يساعدنها، فالمهمة شاقة والكرامة مؤجلة، والهدف معرفة مصير أزواج وأولاد وأخوة لفّهم الغياب والغموض.
انتظرن أمام البوابة الأولى ساعات وأمام الثانية ساعات. كانت أشكال الحراس تزداد شدة وصرامة وطمعاً، فيزداد خوف الأرامل ويأسهن وفراغ ما بحوزتهن، إلى أن وصلن غرفة كبيرة عارية من الأثاث، كان القلق والإنهاك في أوجه، طار الحماس وحل اليأس.
دخل رجال أبو شامة إلى الصالة الكبيرة يتفحصن أشكالهن. كان ريق النساء قد جف تماماً، فاكتفين بدموع صامتة ثم طردن خائبات.
في آخر الليل عدن سرباً بخطوة واحدة ضائعة وبطيئة، دخلن مدينتهن المهدمة، وتوجهن إلى بقايا بيوتهن من دون أن ينبسن بحرف، ثم وبوقت واحد أغلقن الأبواب.

في الصباح هز الأركان صوت مطيعة تسقط على الأرض وتمسح وجهها بقميص ابنها المفقود، تبكي وتركض إلى المصطبة التي تصطف عليها الأحذية تقبّلها وتصرخ بعويل مرعب، تلصق وجهها في الجدار وتقبّله:
“يا حبيب أمك، اشتهيتك تمرض يا قلبي لأخدمك، اشتهيت جبلك كاسة ماء، كان مشتهي الباطرش وأنا أجلته ليوم تاني، ما في يوم تاني يا عين أمك”.
ثم هربت إلى برية القبور.
عندما وصلت برية القبور، كان الحارس مازال نائماً، فأكثر زوار القبور يأتون عصر الخميس. أما أن تأتي هذه المرأة، فجر الاثنين،كي تحفر بأظافرها قبراً، فهو خارج التوقع.
امتلأ حضنها وفمها بالتراب، ابتلعته أيضاً. كوّنت تجويفاً بأصابعها قدر ما استطاعت، فتحت حقيبة ابنها الذي جاء ليلة واحدة يأكل لقمتها. أخرجت منها نوتة المادة التي كان ينوي قراءتها في يوم الإجازة. أخرجت جوارب ومريول الطب، وأشياء كانت تحتاج لمساتها الضرورية جداً، غسيل وكي ورتي.. وجرعة حنان، صفّتها بعناية بالغة في القبر، ثم غيرت ترتيبها عدة مرات وعندما اعتمدت الترتيب الأخير أخذت تبكي بجنون، وهي تنثر قبضة التراب الأولى، كما يفعلون عادة بعد إنزال الميت الغالي. كوّمت التراب كي يرتفع قليلاً عن الأرض، سقته، ثم قرأت الفاتحة.
صار لديها قبر تزوره عصر الخميس، تغرز عيدان الآس الخضراء وتربط على كل عود شريطة حمراء وصفراء وخضراء:
“في هذا اليوم لولم يغب، لكان يوم تخرجه من كلية الطب يقبر أمه”. تربط شريطة صفراء.
“وفي مثل هذا اليوم كان سيُسحب للجيش”. تعقد شريطة بيضاء.
“كان سيجهز عيادة في الضفة الثانية مكان بيت لميا، يعطيها أجراً، ويشغلها ممرضة شاطرة”. شريطة حمراء وزرقاء. “خطب وتزوج”. شريطة زهرية وسماوية. “أنجب ولداً وبنتاً”. شرائط خضراء وصفراء. “بلغ ابنه السادسة ودخل المدرسة، يقبش سته”.
“زوّج ابنته، بنت مرباية ومطيعة يا عين ستها”.
عاش طالب الطب المفقود، بنوطة دراسته وقميصه، بعمر أمه وأحلامها وعيدان آسها وشرائطها الملونة الجديدة كل خميس. ليست أمه فقط من رصد مستقبله في فقدانه، بل شاركها الكثير من أهل الحارة. لم ينفكوا ينادونها، أم الدكتور، وهم متيقنون من موته مع من قتل عند جدار المقبرة العتيقة.

ألبس أبوشامة رجاله ثياباً موحدة اللون والشكل، مرسوماً عليها شعاره، التالولة. اتخذوا مكاتب لهم وسط الحارة، في بيوت من غابوا موتاً أو اختفاء. اغتربت البيوت عن ساكنيها الجدد، ظلّت أبوابها المغلقة ترفض من يقطنها بصمت، ترفض أيضاً سياراتهم الحديثة المدججة بإطاراتها الضخمة السوداء.
يقولون إن أحد رجال أبو شامة الذي تزدحم على صدره نياشين وأوسمة، يجلس عند البحرة التي تتوسط المدينة، محيطاً نفسه بأنواع الزهور المختلفة، يبتسم بنعومة وعذوبة، لا يمانع أن يشارك في رقصة أو حفلة، ماء، زهور، وجوه حسنة. اختفى يوماً. قيل إنه ذهب إلى حديقة حيوان مليئة بالنمور، تجاوز الأسوار، مأخوذاً بمؤخرة إحدى العابرات، فباغته أحد النمور والتهمه.
لم يستطيعوا تحديد النمر الذي أكله، كي يحاكموه إلا في اليوم الثاني حين وجدوا الأوسمة والنياشين في فضلات النمر المسكين. كثرت مثل هذه الحكايات على رجال أبو شامة. كان أهل الحارة يتداولونها همساً.
كان هؤلاء الرجال يوزعون على الأرامل ابتسامات الظفر تارة والاشتهاء تارة أخرى فيما كن يهرولن عند رؤيتهم. فحادثة سيارة ابنة خالة فطمة جعلتهن في حذر شديد.
أُوقفت عند حاجز لرجال أبو شامة. كانت بنت خالة فطمة وأخوها وقريبة لهما. اقترب الحارس من المقعد الخلفي مدعياً القيام بمهمته في التفتيش الاعتيادي، قرص الصبية من صدرها، وتراجع كمن لم يفعل شيئاً. سكتت الفتاة تماماً، لكن ما إن تجاوزت الحاجز حتى بصقت من النافذة بوجه غاضب، فما كان منه إلا أن أطلق رشاشه على إطارات السيارة وأنزل من فيها منهالاً عليهم رفساً وضرباً.

سمعت فطمة صوت الباب الخارجي يفتح بأصابع لميس، وصوت قدميها وهي تنزل القبو بقفزات رشيقة، طوّقت خالتها وقبّلت كتفها:
ـ خالتي لدي خبر سيفرحك.
لم تنظر بعد في وجه خالتها المتعب.
قالت:
ـ أهل الحارة يتزاحمون عند مدخل المدينة القبلي، يقولون إنهم أطلقوا سراح بعض الرجال، خالتي، طبعاً من فقدوا قبل يوم الجمعة الذي تتحدثون عنه.
حدس فاجأها:
ـ أيعود أخوها أحمد؟.
هاجمها الشؤم، أين هم الآن؟ لو انهم يعودون مع بعض من عاد، سوف تحتمل عدم توازنهم بعد هذا الغياب الطويل.
تدرك أنهم سيعودون، نصف مخبولين، مثل كل من عاد.
بائع سودة الخروف المشوية “فيصل”، يجر عربته ماضياً بسرعة أمام البيت الكبير ثم يستقر به الموقف عند الجسر الصغير. يبيع السندويتشات من دون كلمة واحدة، كان أكثر شباب الحارة شقاوة، وصار أكثرهم شروداً. اقتربت الكلاب من عربته مشتهية الشواء. حاول تناول حجر من الطريق العتيق، كي يهددها به، فوجد الحجر ملتصقاً بالطريق. أطلق شتيمته التي صارت شهيرة:
ـ الله يلعن هيك حارة، كلاب فلتانة وأحجار مربوطة.

حاول مرة في أيام شقاوته أن يرشو آذن المدرسة بقنينة عرق خبأها بين كتبه. أراد مغادرة المدرسة مبكراً ليلحق انصراف مدرسة البنات، لكن القنينة سقطت منه عندما همّ بإخراجها فانتشرت رائحتها حتى اخترقت نافذة غرفة الموجه. سرعان ما أرسل هذا يستدعي أباه قائلاً:
ـ اليوم ابنك يرشو آذن المدرسة بقنينة عرق، غداً يحضر له “شرموطة”.
بذل الأب كل جهد كي يهذب ابنه الطائش، ظن مع أم فيصل أن الولد ناجح لا محالة، فقد كان يأتي بعد كل مادة راقصاً على الجانبين يفقش بأصابعه:
ـ تمام، تمام.. ، إلا في الرياضيات، جاء حزيناً بسبب ضياع بضع علامات، سهواً، قال مؤكداً إن العلامة ستكون بين الخمسين والستين. لكن النتيجة التي حصل أبوه عليها، بالواسطة، قبل موعدها الرسمي كانت في جميع المواد 46 علامة من 260. دخل الأب البيت يقلّد ابنه راقصاً ويقول:
ـ تمام، تمام.. !
ثم هجم عليه:
ـ تمام يا ابن الكلب؟.
سبب غياب فيصل الراسب في البكالوريا، أنه باع راديو دراجة، وبضع علب من جبنة البقرة الضاحكة لأحد العابرين، لم يتوقع أن الضريبة ستكون استدعاءه لشرب فنجان قهوة هناك، لأن هذا العابر ذكر في اعترافه الدقيق والتفصيلي جداً، من الهواء الذي تنفسه في عمره حتى آخر كلمة تفوه بها، أنه اشترى من فيصل الطائش علبة جبنة، وراديو صينياً تعطّل منذ الليلة الأولى.
لذلك مكث فيصل ستة عشرة عاماً.
بعد عودته أصبح أكثر الرجال صمتاً، نسي الشقاوة وأيام الشباب، كره ذكر القهوة . قال الأستاذ عاصم:
ـ فيصل ذنبه أكبر بكثير من غيره، فهناك من أخذ لأنهم رأوا خط يده على نوتة دراسية لأحد المقبوض عليهم، وبعد بضع صفعات، تذكر المعذَّب صاحبَ الخط، فأُحضر الأخير، غاب عندهم عشرين عاماً. وهناك من غاب خمسة عشرة عاماً، لأنه كتب اسم شخص على دفتر هواتفه من دون كنية، فلما سألوه عن الاسم، نسي المناسبة التي سجل فيها اسم  صاحب الهاتف، فاعتبر أنه يستخدم الرموز. هناك من قضى ستة عشرة عاماً، وفي كل يوم يقول له حراسه ألا يقلق، فلا يوجد عليه شيء سوى ان اسمه مثل اسم والد أحد المغضوب عليهم، وذلك يكبره سناً. ثم هل أنسى الفتاة ضاربة الآلة الكاتبة في صحيفة المدينة؟ أخطأت بحرف واحد من اسم أبو شامة وكتبت الطاء بدلاً عن الشين “أبوطامة”، ولم تلحق أن تصحّحها لأنها ضُربت حتى نسيت اسمها؟.
أضاف فارس ساهماً:
ـ أما من لم يعودوا فقد بات نادراً أن يذكروا.

عند مدخل المدينة الأول المحسن، غرسات صغيرة موزعة على طرفي الأتوستراد، وفي وسطه، جديدة لكنها جافة وبطيئة النمو، مغبرة وكسولة. يمكث الناس الليل والنهار عندها، في أيام البرد يشعلون النار، يتحلقون في صمت وانتظار وصبر، وفي كل الفصول ينتظرون.
تنتشر الشائعات أن هناك دفعة من الرجال عائدة من مجهولها، يتركون ما بأيديهم، ويهرعون إلى هناك، ينتظرون عودة الابن أو الأب أو الأخ أو القريب، أهل المدينة أقارب، الجميع يقرب الجميع. أوينتظرون عودة صديق خطف من صديقه في غفلة منه. كانوا يتناوبون في مهمة انتظار عودة الغائب أو المفقود، بأمل ضعيف وخوف على أمه المشتاقة لوجه ابنها، أو على زوجته المنتظرة عودته كي يخفف عنها وحدتها، وتعبها في تربية أولادهما، أوابنته الصبية التواقة لرؤيته كي تكون معجبة بأبيها، قضت الابتدائية والإعدادية والثانوية تسألها معلماتها عن أبيها، فتجيب بصوت خفيض: غائب، مفقود. لم تكن تحتاج لكلمات أكثر، فالجميع مصاب بالغياب والفقدان، لذا تقسم العائلة الواحدة بعضها إلى فرق للانتظار، تؤدي مناوبات ليلية ونهارية، تعود الفرقة الأولى وليس لديها أي خبر لصاحبة البيت المنتظرة عودة الغائب، فيؤجَّل الأمل إلى اليوم الثاني.
فجأة من بعيد يشق ضوء الباص الكبير برد الليل وسواده، فيتدافعون إلى الحافة الأولى، يتجمعون قاطعين جزءاً من الشارع. قبل أن يتوقف الباص تماماً، يهجمون هجمة واحدة على الأبواب والنوافذ، تعلو النداءات، أصوات رجال ورجاء نساء وأطفال ينادون متوقعين وصول: بابا.
يردد المنتظرون أسماء غائبيهم التي غالباً ماتكون بكنية واحدة فيعيد تردادها السائق ومعاونه والركاب المسافرون في الباص، يعيدون الأسماء المناداة بتوسل لله وقدره ولكن.. من بين مئة عائلة تنتظر، تحظى عائلتان بغائبهما، وتغادران معتذرتين متمنيتين بحرارة عودة بقية الغائبين.

وضعت فطمة كأس الماء بجوار رأسها، قرأت في كتاب حتى غفت. كانت تترجّع في رأسها أغاني الموضة التي تفرض وجودها عليها قنوات التلفزيون.
“رأت أنها عاهرة، تحاول مساعدة عاهرة عجوز للهرب من الإقامة الجبرية، خمسين عاماً، في  بيت العاهرات. أمسكتها من يدها المرتجفة ونزلت الدرج الضيق العالي، تعثرت معها كثيراً وكانت العجوز لا تكف عن ذكر مأساتها في البيت الذي قدمت فيه شباب لحمها ولم تجن إلا النكران والقسوة والوحدة. تحدثت بفم مرتجف قاذفة أنفاساً قذرة، أما فطمة فكانت تحاول  نجدتها خائفة من أن يباغتها أحد ويعيدها”
نامت تلك الليلة، ولم تقرر بعد:
“هل تخبر أحداً من أقاربها، أم تترك الأمر للمصادفة؟ ما الذي يجديها من إخبارهم  بخبث مرضها؟”.
كابوس العهر لم ينسها الورم الخبيث. كانت أنفاسها ترتد إلى وجهها وتلفح جبينها. تلطم أنفها برائحة طعمها مرّ. حاولت أن تدير ظهرها، وتستأنف نومها.  لكن الكوابيس عاودتها مرة أخرى ورأت خلايا رقبتها تتكاثر عند نحرها وتتضاحك ثم تتقافز مثل حبات البوشار، رأت أن رقبتها انتفخت، واصابع قدميها تحوّلتا إلى كتل مشوهة، الإبهام متطاولة منحنية، والأصابع المجاورة تلتف على بعضها قطعاً لحمية غير متمايزة. علت أصوات أعمامها يغنون “نخ الجمل ما شالها”. فتحت عينيها لترى الجربوع مستلقياً على كرسي طاولة زينتها. أحست أنه ينظر إليها مباشرة، كأنه ينتظر يقظتها، التفت إليها وجعل ظهره للمرآة، عينان لامعتان وقوائم قصيرة:
“متى تموتين وترتاحين؟ أتدرين؟ ستموتين عاجلاً أوآجلاً”.
صوته خشن مموه. هكذا تخيلته يقول جملته ويقفز عن الكرسي برشاقة وعدم تكلف. لوح بقائمته الأمامية لها ممازحاً. ودعها كزائر أجنبي ثم رفع غطاء بالوعة الممر وانطلق كمن يعرف طريقه تماماً.
أغفت ثانية.. وعندما صحت رأت نفسها عارية من ثيابها، جلدها جلد نمر مبقع سميك يشبه غطاء سريرها وخلايا الورم تتناثر على البقع مثل حراشف السمك.
بحثت عن الجربوع باعتيادية في الزوايا، على ظهر الخزانة، على قبضة الباب، تحت الوسادة، على مفتاح مصباح الكهرباء، لم تجده.
كحالمة، سمعت صخباً غير مألوف يبدأ عند الباب الكبير، ثم ينتقل إلى أرض الدار.
رغم الدوار قفزت إلى عتبة الدرج الحجري.
من خلال الرؤوس المزدحمة استطاعت أن تتبين رأساً يبدو كآوونة   صغيرة تتخلل سطحها الناعم شعيرات نابتة. إنه أحمد أخوها، رأت هذه الشعيرات كزغب أفراخ طيور حديقتها. قطعت الدرجات:
ـ والله.. وحق الله.. أخي أحمد.
قبّلته من كتفيه، وتمرغت بصدره مرددة:
ـ الحمد لله، الحمد لله.
جاءتها أصواتهم مهنئة دفعة واحدة.
قال عبد الحكيم:
ـ عندما وصل ابن أخي أحمد لم أتذكر إلا فرحتك بعودته.
ردد العم جميل بدوره:
ـ ستجدين السلوى مع أحمد.
قال الأستاذ عاصم:
ـ سنتولى تدريسه وتعليمه ما فاته.
أما الحاج عمر:
ـ المهم أن لا تنسى عباداتك يا أحمد.
تمسكت لميا ببقجتها.
غادروا جميعاً، بعد أن أشبعوا العائد أسئلة من دون انتظار لجواب. كانوا مدركين أنه الوحيد الذي سيعود، لأنه لم يؤخذ يوم الجمعة، وكانوا مدركين أيضاً أنه لن يتكلم عن أي ذكرى، لأنه خائف.
ـ خائف؟ مهووس من الفزع، مذعور، نحن لا نجرؤ، كما أن شكله لم يكن يشبه شكل أهل الأرض.
سألته أخته:
ـ هل تريد أن تنام  قبلاً أم تغتسل؟.
ـ فطمة أريد أن أفطر في القبو.
ـ “خيو”، اغتسل ريثما أحضر لك الفطور، أجابت تطمئنه.
قلَت له بعض قلوبات الدجاج، حضّرت له الشاي، المكدوس والزيتون والجبنة واللبن المصفى جيداً والخبز الطازج، همّت إليه تسأله إن كان محتاجاً إلى من يساعده في ارتداء بيجامته التي أخرجتها من صندوق الجدة.
ـ ألم تجدي غير هذه البيجامة، لقد أخذوني وكنت مرتدياً مثلها.
ـ أخذوا الجميع وهم لابسون مثلها.
لم يكن يرفع رأسه مطلقاً، لا يفتح عينيه، يقول كلمته ويسارع إلى خفض وجهه، راصاً يديه الممدودتين إلى جنبه. نظرت إليه يتناول فطوره ببطء ثم بسرعة، يأكل فتات الخبز الذي يسقط منه، بأصابع صفراء ناتئة العظام، يصمت طويلاً، هزيل:
“هزيل.. يكاد يتكسر على كرسيه. لِمَ لم أفرح لعودته؟”
ـ قال ابن عمك إنه سيخضعك لعلاج فيزيائي يمكّنك من تحريك عظامك المتيبسة.
ـ كدت أنسى طعم اللبن المصفى، لكن لبن أم الحب كان أطيب، هل ماتوا جميعاً؟.
أجابت فطمة بأسى:
ـ نعم.
ـ  ماتت أم الحب؟.
ـ فركت البحرة “بسيف” الألمنيوم، واتجهت إلى الصنبور الملاصق للباب الكبير، لفّت الخرطوم عليه، غسلت وجهها ويديها وقدميها، جلست بخفها البلاستيكي على حوض “الهوى الناعم” وماتت. هكذا ودعتنا، مثلما جاءتنا لأول مرة بنتاً صغيرة جلست منتظرة مشورة الجد للجدة في استقبالها. وزع أهل الحارة ورقة النعي كبيرة مكتوب فيها أسماء أعمامك وأبنائهم وأسماؤكم جميعاً كأبناء للمرحومة.
نام أحمد في غرفة نذير الشرقية القبلية التي تتيح لساكنها أن يبدأ يومه أنى شاء، شرقاً أو غرباً، ينهيه أيضاً أنى شاء. جلس على حافة السرير، حائراً، كيف ينام على هذا الفراش الصوفي المنجد جيداً، والذي يشبه موج البحر؟ إنه يومه الأول، يريد المسكين أن ينام غير عابئ بالبطولة التي أصروا أن يلحقوها به. استلقى على طرف السرير، ربما غفا.

منهل السراج
مجموعة قصصية بعنوان “تخطي الجسر” 1997. فازت قصصها بأكثر من جائزة.
ورواية بعنوان “كما ينبغي لنهر” فازت بالمركز الثالث عن دائرة الثقافة بالشارقة لعام 2002 كانت منعت من النشر في سوريا عام 2000.
رواية بعنوان “جورة حوا” صدرت عن دار المدى عام 2005.
رواية بعنوان “على صدري” صدرت عن دار قدمس دمشق 2007.
مقالات عديدة في الصحف والمواقع العربية

خاص – صفحات سورية –
باذن خاص من الكاتبة منهل السراج
للكتابة الى الكاتبة مباشرة
Sarraj15@hotmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى