حسين الشيخرفيق شاميصفحات الحوار

مداخلات حول الأبجدية والحب: حسين الشيخ يحاور رفيق شامي حول روايته الجديدة “سر الخطاط الدفين”

null
مقدمة
ليس غرض هذا الحوار الذي أجريته مع رفيق شامي الحديث مع مبدع رواية عن أمور نظرية في بناء الخط واللغة. وبالتأكيد لم أقصد سماع أجوبة جاهزة عن أسئلة لا تزال قيد البحث والتنقيب. هل من الضروري أن يجيب روائي على أسئلة نظرية جداً صعبة عن الأخطار المحيطة باللغة؟
لا أريد من جهة أخرى إرهاق القارئ بمتاهات لغوية وخطية ونحن الفرحون بظهور أول رواية في تاريخ الرواية العربية ( في الوطن والمهجر والمنفى) تختار الخط موضوعا لأحداثها. وتحظى رواية رفيق شامي هذه باحترام النقاد ومحبة القراء في ألمانيا، سويسرا والنمسا وقد ظهرت خلال تسعة أشهر بثماني طبعات ضخمة. رفيق شامي أنهى قبل أسبوع في نهاية أيار 2009 رحلة طويلة عبر 90 مدينة لتقديم هذه الرواية للجمهور وللحوار معه حول ما تطرحه قصته. وسيبدأ رفيق شامي الجزء الثاني لرحلته في أيلول القادم ويستمر حتى نهاية السنة.
” سر الخطاط الدفين” حدث يشابه في إحدى غاياته قرع الأجراس لنستيقظ ونبدأ حواراً جميلاً ، شاقاً وشيقاً حول وضع أبجديتنا.. لكل هذا ورغم التردد  وإمتلاء جدول أعمال كاتبنا تحدثت معه ولأشهر طويلة عبر الإنترت…وكل ما أرجوه لهذه الرواية أن تترجم بدقة وجمال وشاعرية إلى اللغة العربية التي يعشقها رفيق شامي
حسين الشيخ

حسين الشيخ: أنهيت روايتك الأخيرة التي صدرت في الخريف الماضي بعنوان “سر الخطاط الدفين” هناك سر وهو مدفون، هل تعد القارئ بالاثارة، هل تعده برواية بوليسية يبحث فيها القارئ عن حبكة تودي به الى المتعة؟

رفيق شامي:روايتي الأخيرة “الوجه المظلم للحب” كانت رواية حب تاريخية جنائية عائلية. أما رواية “سر الخطاط الدفين” فليس فيها إثارة الكشف عن القاتل. القاتل حميد فارسي يسلم نفسه بنفسه. السر يحمله هذا الخطاط الشهير والعبقري في قلبه وعقله وهو خطة تامة لتطوير الخط والأبجدية العربية وهذا السر سيقوده إلى متاهة لا يخرج منها إلا في سجن القلعة حيث يستطيع وبكل هدوء أن يفهم ما الذي حصل معه ويباشر من جديد بتطوير خططه على هذا الضوء.

حسين الشيخ: ولماذا السجن؟ لأسباب سياسية؟

رفيق شامي: ظاهريا لا، إذا كنا نفهم السياسة كتلك الفعالية التي تقوم بها مجموعات منظمة للوصول إلى السلطة. فالخطاط يُسجن لأنه قتل من ظنه عشيقا لزوجته دون أن يدري أن زوجته التي فرت ليس لها أية علاقة بزير النساء هذا. أما إذا اخذنا الثقافة بمجملها وبعمقها الذي يصل إلى كل ما نقوم به يومياً ( فالثقافة ليست الكتب والموسيقى والأفلام بل كل تصرف من الأكل والشرب إلى التعامل مع الآخر) فإن حميد فارسي هذا المحافظ إلى حدود الرجعية والثائر على تجمد الأبجدية إلى حدود التهور والجشع هو نفسه الذي سيقوم بخطوة ثقافية سياسية عجزت عنها الأحزاب والمجامع الأدبية برمتها. هكذا هو الإنسان معقد التركيب إلى حدود مذهلة. الخطاط حميد سيثير حقد شريحة كاملة من اعداء أي تقدم ثقافي وسيُدفع عبر خطة أعداؤه الذكية إلى إرتكاب جريمة قتل ليلقى عذابه الأكبر في السجن. الجهة الدافعة والمعادية له ولكل ما هو ثوري هم سلفيون جدد يعملون فوق وتحت الأرض. وهم نسخة للحكام والسجون القروسطية والمجهزة بذات الوقت بالكومبيوتر والجوال.
وبنفس الوقت تحكي الرواية قصة إنسان لم ينعم بلحظة إرتواء حب لا في طفولته ولا في شبابه. أبوه قاسي وأمه جنت لأنها فقدت إبنها المفضل فهمي وصارت لقمة سائغة للمشعوذين. تزوج حميد مرتين ومارس الجنس مع نساء عدة لكنه أبداً لم ينعم بحب. عشق حتى الثمالة لفترات قصيرة لكن عشقه ظل من طرف واحد  و إنكفأ لينتج بعدها سادية تجاه إمرأته. هذا بالذات أبعد زوجته عنه وهي التي كانت ترغبه في البداية فعشقت صعلوقاً يعمل كأجير عند زوجها.

حسين الشيخ: انها قصة حب أخرى اذن، بعد “الوجه المظلم للحب”، قصص الحب المستحيلة والصعبة تجمع الروايتين، انها بشكل أو بأخر متشابهتان وكأنك منذور لرصد ذلك الجانب, وكأنك تقرن الحب بالتحدي، انها علاقة حب محكومة بالموت، في مجتمع غير متسامح، وكأنك تريد الثأر من شيء ما، هل خضت تجربة حب كانت محكومة بالاستحالة أو بالفشل، احكي لنا عن روايتك هذه؟

رفيق شامي: الحب من أكثر القوى المؤثرة على نشوء الرواية. أعتقد أيضاً أن الحب هو مبتدع اللغة. هو الذي يحرك في الإنسان رغبة جامحة للبوح للآخر بشيء. هو أول ما يسمعه الطفل من أمه الحانية عليه. الحيوان لا يحب. قد يرغب ويفرح ويصدر مجموعة متكاملة من الأصوات (لدى الحيتان والدلفين والقرود بالغة التعقيد) تفي بما يحتاجه وتكرر نفسها منذ الأبد دون زيادة أو نقصان. أما اللغة فشيء آخر.
أعود لسؤالك. الحب اليسير والسهل المنال لا يثير إهتمام أحد سوى الذين ينعمون به أما الحب المعقد سواء كان في النهاية مستحيلا أم لا فهو يمتلك قدرة كبيرة على حمل الرواية إلى نهايتها دون أن تفقد مصداقيتها. الحب هو تحد كما تقول وأكثر من ذلك. إنه أعجوبة ونحن لا نشعر بها لسبب تكرارها. الولادة أعجوبة كذلك لكنها ولتكرارها مليارات المرات تبدو وكأنها بديهية. عندما شرح لي عالم أخصائي الأخطار التي تحيط بالجنين حتى لحظة ولادته أصبت بدوار. أليس الحب أعجوبة؟ أن يلتقي غريبان وسط زحام الحياة وهما محاطان بالاف البشر منذ ولادتهم ويحبون شخصا معينا بالذات ويألفونه ويثقون به – وهو الغريب – بعد حين أكثر من أبيهم وأمهم!
رواياتي لا تعنى بالثأر من أي شيء. أنا أعقل من أن أظن أن رواية  تؤثر بقدر بعوضة على أعداء الحب. أحاول فقط ولفضوليتي الوصول إلى جواب عن سؤال أطرحه في البداية. أحد أسئلتي في هذه الرواية كان حول الإغتراب الذي يحصل بين الزوج والزوجة. وصلت إلى أحد الأجوبة (هناك بالطبع إمكانيات كثيرة) الرجل يزداد هروبا متعمقا إلى حدود مذهلة في عمله غائصا مفتشا عن جذور الخط واللغة. والإمرأة؟؟ نورا، بطلة هذه الرواية، تحاول بكل الوسائل أن تتحمل الملل والشلل والإحباط الذي أحاط بها وهي الإمرأة المتعلمة والمتقنة لفن الخياطة. تصل إلى حائط في نهاية الطريق. وفجأة يظهر لها هذا الأجير الصعلوك بكل ما فيه (ابطالي بمجملهم لا علاقة لهم بعمر الشريف أو روبرت ردفورد). تعشقه وفي تلك اللحظة يتصدع الحائط وترى عبر الشق أفقاً بعيداً.
تسألني إن خضت أنا هكذا تجربة؟ بالتأكيد مثل 95% من شباننا. إذن أنا أعر ف هذه الصنعة فأنا لا أكتب عن شيء لا أعرفه.

حسين الشيخ: روايتك تبدأ بخبر هروب إمرأة وتعود في الفصل الثاني لتدخل في طفولتين (طفولة المرأة الهاربة وطفولة الرجل عشيقها).هي مسلمة من أسرة مثقفة وهو صعلوك من الحي المسيحي  يعمل صانعاً لدى زوجها الخطاط الشهير، وكأنك تلامس مساحات محرمة في تراثنا، تقاليدنا، مسيحي ومسلمة، رجل عازب وامرأة متزوجة، رجل يخون معلمه في الخط، ما الذي تريد قوله؟

رفيق شامي: هناك أسباب وأسباب لهذا الإختيار. أغلب الخطاطين الشهيرين الذين عرفتهم في دمشق كانوا مسلمين. هناك جار لي خطاط مسيحي لكنني تعلمت لثلاث عطل صيفية الخط عند خطاط شهير صديق لوالدي رحمه الله. كان الخطاط غنيا وبخيلا وكنت أجيره الذي يقوم بكل ما قام فيه لاحقا بطل روايتي… اللهم سوى المغامرة الرائعة التي خاضها هذا الصعلوك مع زوجة الخطاط. اما تفاصيل يوميات الخطاطين فلقد عشتها عن قرب مما مكنني الآن إلى جانب الكتب أن أصف كل شيء بدقة… من جهة أخرى الصعلوك هذا يقطن في حوش للفقراء المسيحيين يقع في نهاية حي العبارة الذي أمضيت فيه 25 سنة دون أن أخطو خطوة واحدة لداخل الحوش. سألت نفسي بإستمرار لماذا ؟ كان الحوش وكأنه قرية من عالم آخر عصفت بها الريح فحطت في حينا بفقرها وأطفالها وكلابها الهزيلة. حاولت عند كتابة الرواية أن أصور تلك الأسباب التي تقف حائلا بيننا وبين أقرب الناس.
بالنسبة للمساحات المحرمة لا يمكن لكاتب أو كاتبة رواية أن يأخذها بعين الإعتبار لأنك بذلك ستبقى في ممر ضيق محاط بأسلاك الممنوعات الشائكة ومساحات المحرمات. من الأسهل السؤال في بلادنا عن المسموح فهو قليل. من هنا حسنة المنفى الفريدة من نوعها وهي تحريرك من كل هذا الأصفاد لتكتب رواية بما تحتاجه الرواية وهو كثير بحد ذاته أما إذا أضفت إلى ذلك أثقال الممنوعات في منطقتنا فإن كتابة رواية ممتازة تحت هذه الظروف يقارب الأعجوبة. وأنا أدين بالكثير للديمقراطية والحرية التي أنعم بها أثناء الكتابة. ما أردته من هذه الرواية هو أن تعالج من جهة أولى مشكلة الحروف العربية ومن جهة ثانية مشكلة العزلة وفقدان الإرتواء بالحب ( أو حتى الحرمان منه نهائياً) بإسلوب شيق لا أكثر ولا أقل.

حسين الشيخ: اخترت لروايتك زمنا (ربيع 1954 حتى ربيع 1958)، ماالذي دعاك لاختيار هذا الزمن؟

رفيق شامي: أردت على عكس رواياتي السابقة هذه المرة كتابة رواية بدون سياسة. السبب الأول لهذا القرار هو  إرهاق شديد حل بي عند فصول العذاب في السجون في روايتي الأخيرة “الوجه المظلم للحب” والتي صدرت عام 2004 وترجمت إلى عشر لغات رغم حجمها الضخم. أردت كتابة موضوع جميل وكنت من البداية – لأن اللغة شغلي الدائم – واثقا أن الصراع حول أبجدية متجددة فيه تعقيد كافي وسياسي بما فيه الكفاية ومن الخطأ إقحام وضع ديكتاتوري يتطلب توجها وثقلا آخر… فتشت عن الزمن المناسب ووجدته: إنها الفترة الديمقراطية الأطول في تاريخ سوريا منذ سقوط الشيشكلي في عام 1954 وحتى إعلان الوحدة في شباط 1958. في هذه الفترة تدور أحداث الرواية. وفي هذه الفترة المضطربة لم يكن هناك سجين واحد سياسي. هذا مكنني من تركيز الإهتمام كاملا على فحوى الرواية في اللغة والحب. إختيار الزمن عامل هام جدا لخلق جو مناسب لأحداث الرواية.

حسين الشيخ: كتبت روايتك الجديدة عن دمشق أيضا التي قلت أنك: ” كل أمسية كنت أجلس قبالة صورة صغيرة لدارنا في دمشق وأحتسي الشاي مع الذكريات” بعد هذا العمر الطويل في المنفى تعود لتكتب عن دمشق، وكأنها المدينة التي تسكن روحك دون المدن الأخرى سواء في ألمانيا أو في رحلاتك الأخرى، لماذا دمشق، ماهي علاقتك مع هذه المدينة الساحرة؟

رفيق شامي: إنها علاقة هوس لعاشق حجبت عنه حبيبته التي أعطته الكثير. عندما أصدرت دار النشر التي أعمل معها منذ سنين إحتفالا بعيد ميلادي الستين (في عام 2006) كتابا يحتوي أهم مقالاتي عن الأدب والسياسة عبر ثلاثين سنة طلبت مني أن أعطيهم عنوان للكتاب فأجبتهم: في القلب دمشق وهكذا صدر الكتاب بهذا العنوان.
كل رواياتي تلعب أحداثها بين قطبين: معلولا القرية الآرامية الجميلة في جبال القلمون ودمشق أجمل مدن الأرض.
وصدقت في تحديدك دمشق تسكن روحي وتراني في كل رواياتي وبمجموعها أغني لها. وأنا أعرف دمشق حياُ فحياً إذ إمتلكت وبسن مبكرة دراجة كنت أطوف يومياً في شوارع وأحياء وحارات دمشق وأحاول حفظ خاصياتها. كنت أحيانا أقف بدراجتي وسط حارة ضيقة وأتنصت لموسيقاها وأتنشق عبيرها. لكل حي موسيقاه ورائحته.. حينا مثلا كانت رائحته معطرة بالياسمين واليانسون إذ توسطه مخزن كبير لليانسون وموسيقاه تختلف حسب ساعات النهار والمواسم المسيحية.

حسين الشيخ: هل يمكن أن نتصور أنك تعيد كتابة سيرتك الذاتية في هذه الرواية، كيف يصبغ الحنين كتاباتك، وماالذي يفعله بروحك؟

رفيق شامي: هناك آراء متضاربة جدا حول كون الرواية، أية رواية، جزء من السيرة الذاتية أم لا. أنا أعتقد أن رواياتي تحتوي على أية حال أجزاء كثيرة مني لكنها بالتأكيد ليست في شخص البطل فنفس الكاتب فسيفساء يفجرها أثناء الكتابة فتتساقط أحجارها وتدخل في عقلية ونفس أبطاله. ويختلف حجم القطعة التي ترسو في نفس بطل او بطلة ما بإختلاف الرواية. سيرتي الذاتية لا أنوي كتابتها فلقد أراحتني كاتبة ألمانية بأخذها هذا العمل الشاق على عاتقها وهي تجري معي منذ سنين مقابلات وحواراً حول الأدب والحياة وأنا أضع وثائقي تحت تصرفها. أصدرت هذه الكاتبة بمناسبة عيد ميلادي الستين سيرة ذاتية أولى وتعمل بجد لتصدر السيرة بصورة أكثر تفصيلا في المستقبل.
الحنين خطير جدا على كتابة الرواية (بعكس حسنه المنقطع النظير في الشعر) فهو يعمي بصرك عن السلبيات الموجودة في كل ما تحن إليه. ينثر لك تبر فوق التراب ويرش عطر زهر الليمون ( ماء زهر كما يسمى في دمشق) فوق رائحة المجارير وزيت قلي الفلافل. لا بالعكس عندما أكتب أتحول لطبيب جراح أحاول وبكل هدوء الإحاطة بمشكلة المريض لإنقاذه، لمصور فوتوغرافي يحاول تثبيت ما تراه عيناه. والكتابة هي أحد الطرق لإرواء الحنين وأنا أظن أيضا أنها أحد أنجع الطرق لمداواة مرض الحنين في المنفى لكنه دواء غريب ما أن تكتب وتنتهي حتى يزداد حنينك لأنك تستخرج من أعماق الذاكرة تفاصيلا جميلة وقبيحة لم تدري قبل الكتابة مدى تأثيرها على نفسك. أحيانا أتوقف لأيام عن الكتابة لأن أمي رحمها الله التي أصفها في الرواية تحضر بكل طيبتها وحتى بكلماتها الأخيرة على الهاتف وأكاد أموت حزناً عند ذكراها. أو أنني أضحك لساعات بعد صياغة ذاكرة من طفولتي وتحسين بنيانها كتابة كطرفة فالأحداث الروائية أجمل وأكثر إيثارا من الحقيقة وهذا هو دور الفن.

حسين الشيخ: أنت كما أذكر كنت تعمل خطاطا في دمشق، وعاشقك في الرواية الجديدة خطاطا أيضا، ألا ترى أنه هناك تشابها بينكما، كيف أثرت تجربة الخط العربي لديك في هذه الرواية وأنت تعرف أسرار الخط العربي وجمالياته، كيف انعكس كل ذلك على قصة العشق؟ هل الخط رباط وثيق كالحبل السري لم تستطع قطعه بينك وبين الوطن الأم؟

رفيق شامي: مارست فن الخط بعد تمرسي لدى الخطاط الشهير كما ذكرت لك لسنين كهاوي لكني لم أصل لحد الإبداع. وعندما ارى خطك الجميل وخط الصديق عصمت أميرالاي فإني أعتبر خطي خربشة أو كما يقال في دمشق”تعدي على المصلحة”. عصمت أميرالاي صمم كل الخطوط العربية داخل الرواية فلقد أقنعت الناشر أن رواية عن الخط العربي ومحبته لا يمكن حتى ولو صدرت بالألمانية أو الصينية إلا أن تحتوي على خطوط عربية تعطي القارئ حتى الذي يجهل اللغة فكرة عن الجمال الآخاذ لهذا الخط. إقتنع الناشر وأوكل عصمت بتصميم كل ماهو ضروري فخرجت الرواية كعمل فني.
التشابه بيني وبين الخطاط والصعلوك عاشق زوجته (رغم الفوارق الأخرى الكبيرة إلى حدود التضاد بيني وبين هذين الشخصين) هو محبة الخط العربي والإدراك العميق لأثر الخط على النفس كما وإدراك مواطن ضعف الخط واللغة العربية التي على عكس وهم السلفيين ليست مقدسة ومن صنع الله فهذا غرور وعنصرية تشبه إلى حد بعيد هلوسة أن شعباً ما هو شعب الله المختار . اللغة العربية هي كباقي لغات العالم من صنع البشر وهي لذلك غير تامة تطورت بإستمرار ومحكومة بالتطور وإلا ماتت. وليست الرواية سوى أحد تعابير الحب للخط.
من جهة ثانية كتابة الرواية هذه والبحث والتمحيص في كل نواحي اللغة والخط سمحا لي بالإقتراب ولأول مرة في حياتي إلى هذا الحد من جذور الخط واللغة. دهشت جداً ولم أصدق بعض الأحيان ما وجدته (مثلا دور السفاح الدموي الحجاج بن يوسف الثقفي في تطوير الحروف العربية) وهذا أجبرني المرة تلو الأخرى أن أتمهل في إصدار أحكامي وصياغة أفكار أبطالي عن الخط العربي.
اللغة لهما علاقة بصوت الأم وكل ما له علاقة بالأم يحتل مكانا كبيرا في قلبي. والأبجدية العربية، حفيدة الآرامية التاريخية، هي أبجدية صوتية على عكس كل ما سبقها من إشارات وصور ( مثلا الهيروغليفية) وهنا يكمن سر الإختراع الفذ للفينيقيين. الأبجدية هذه تستطيع بعدد قليل من الحروف أن تصور عالما واقعيا وخياليا تستطيع التعبير على عكس الصور عن أعقد الأفكار النظرية والحالات النفسية وعقدها التي لا يمكن لصورة أن تعبر عنها ببساطة.
ثم يأتيك أحدهم متجاهلا التاريخ ومحتقرا شعوب الأرض برمتها ليحاضر عليك أن اللغة العربية فريدة وإلهية إلى ما هنالك من خزعبلات.

حسين الشيخ: وإلى أين يقود هذا الإعتقاد بألوهية اللغة؟

رفيق شامي: إلى مطبات كبيرة. لغتنا العربية توقفت منذ أكثر من ألف سنة عن التطور. بعضهم يفتخر ب200 مرادف لكلمة لحية و50 أو 100 للنبيذ ومئات المرادفات لكلمة جمل. لكن ماذا عن الأوكسجين والهايدروجين وماذا عن التلفزيون والكومبيوتر؟ يقدر العلماء اللغويون الألمان أن عدد مصطلحات الفيزياء يبلغ  60000، الكيمياء 100000 ،الطب حوالي 200000، علم النبات 350000 وفي علم الحيوان مليون مصطلح وإسم علمي. هذه كلها تحتاج لترجمة منظمة لنلحق بركاب العلم. ونحن اليوم  مجبرون أكثر من أي يوم مضى إن كنا ننوي بناء مجتمعا حرا  ديمقراطيا على الرد على كل إقتراحات أسباب التأخر وعلاجها وللأسف لا يرد على هكذا وصفات إستعمارية سوى إسلاميون بشكل كاريكاتوري عنصري.
لنأخذ مثالا آخرا: أكثر من ألف سنة مضت وأبجديتنا تحتوي على حرف لا ( ولا تزال كتب كثيرة في الخط واللغة تعتمد حتى هذه اللحظة هذه الأبجدية وحتى مواقع إنترنت) وأنا من الجيل الذي تعلم أبجدية ب29 حرف ولا تزال هذه الأبجدية تعلم في كثير من البلدان العربية مع العلم الأكيد أن لا ليست حرفا بل كلمة ( ما يسمى أداة نفي) من حرفين الألف واللام الواردان سلفا في الأبجدية. ألا يدهشك هذا الجيش الجرار الذي كان يشهر سكاكين النقد عديمة الرحمة ضد من تسول له نفسه أو تزل قدمه فيكتب مفعولا به بدل فاعل ويصمت دهرا عن هكذا خلل في صلب اللغة . أليس غريبا عجيباً أن نتشاجر حول قافية ليست على ما يرام أو بحرا شعريا غرق شاعر فيه. وننام دهرا على أبجدية خاطئة. رحم الله أبا ذر الغفاري الذي نبه النبي العربي دون وجل أن حروف الأبجدية 28 وليس 29 لكن النبي العربي كما تقول الروايات أصر أن الأحرف العربية عددها 29.
خذ مثال ثالث: الأحرف العربية لا تزال منذ أكثر من 100 عام موضع جدل. وإلى يومنا هذا لم تبدأ دولة واحدة بالسير في طريق تطوير هذه الحروف لتساير لغتنا العصر ولتدافع عن مركزها كلغة عالمية ليس بقوة البترول بل بديناميكيتها وقدرتها على إحتواء كافة الأصوات والتعبير عنها بدقة. ليس على المرء أن يكون خبيرا لغويا ليكتشف مواطن ضعف الأبجدية. يكفيه حبها ليعرف ما الذي تفتقر إليه فحب اللغة لا يعمي البصيرة كعشقها. وبإختصار شديد: الأحرف العربية إخترعها الإنسان وطورها من الأصول الفينيقة مرورا بالآرامية. وهي ليست مقدسة ومن يدعي أن لغة أو ابجدية ما مقدسة فهو إما أمي جاهل أو كاذب ومرائي محتال يعرف الحقيقة ويخفيها. وهذا الذي ينادي بقدسية اللغة حتى عام 2008 يساهم في قتل وتحنيط اللغة سواسية أكان ذلك بمعرفة أو بغير معرفة. اللغة العربية وأحرفها تطورت والأحرف التي كتب بها القرآن في القرن السابع هي غير تلك التي نقرأها اليوم. كانت الأحرف مثلا كلها بدون نقط وكان يصعب قراءة ليس القرآن فحسب بل أي نص بشكل واضح (مما دعى الكثيرين للقول أن القرآن يمكن قراءته على عدة أوجه). عندما أدخلت النقط على 15 حرفاً في العصر الأموي إزداد وضوح اللغة وحدة ودقة الكلمة. وهذا أيضا قام به بشر. وقد نسخ القرآن بالأحرف الجديدة. واليوم يستطيع كل تلميذ في الصف الرابع قراءة أي كتاب دون أن يخطأ.
إذن لا داعي لكل هذه الكذب المتعالي عن قدسية لغة ما..

لغتنا اليوم عاجزة عن اللحاق بالتقدم وتبدو مشوهة حتى في موسيقاها للعين ومشوشة كتابة وقراءة إذا نظرنا إلى أي صفحة علمية، فلسفية, إقتصادية…إلخ… نكتب / ونقرأ من اليمين إلى اليسار ثم يأتي قوس ونكتب / نقرأ إسم بالأحرف اللاتينية من الشمال لليمين ونغلق القوس لنكتب / ونقرأ من اليمين للشمال.
السبب: لايمكن بالأحرف الحالية كتابة أي كلمة بشكل صحيح إذا إحتوت على عدد من الأصوات التي لا تمتكك لغتنا أحرفا للتعبير عنها.  مثلا

(P,W,E,O).

لمعالجة هذا القصور وبنفس الوقت للرد على متطلبات العصر كان هناك عدة محاولات لابد من الحديث عنها حتى لا نعود للمرة الألف إكتشاف أمريكا أو إختراع ملح الطعام.
سأحاول تعداد كل المحاولات دون أخذ أي مؤامرات بعين الإعتبار التي يعتبرها البعض سبب رفضهم. الأفضل أن ننظر لكل إقتراح بدو أحكام مسبقة ونحلل تأثيره السلبي والإيجابي:
1. إستبدال العربية الفصحى باللهجة العامية المحلية أو بلهجة عامية منتشرة ( مثلا المصرية السينمائية لأن في مصر كثير من اللهجات). هذا الإقتراح قديم قدم الإستشراق و لا يزال البعض إلى يومنا هذا يطرحه وهو غير صالح إطلاقاً لأنه لايمكن لضيق طيف الكلمات العامية التعبير عن المسائل المعقدة التي يطرحها العصر بتبسيط يؤذي فهمها. أضف إلى ذلك أن في كل بلد لهجات وعاميات تختلف أحيانا من قرية إلى قرية.
2. إستبدال الأحرف العربية بالأحرف اللاتينية: وهو طريقة قديمة جداً إستعملت في إسبانيا بعد طرد العرب ممن أرادوا كتابة العربية بتستر فإستعملوا الأحرف اللاتينية. وهذه الكتابة تشبه إلى حد كبير لغة الإنترنت والرسائل الإلكترونية على الجوال (س.م.س.) مثلا أن تكتب بدل كيف حالك؟

kif halak.
في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين سادت فكرة هيمنة الثقافة الأوروربية على العالم ورافقها وهم إرتباط التقدم بما يشبه القدرية باللاتينية (اليابانيين حطموا هذه الخرافة والصينيين يضحكون اليوم ملأ شدقيهم لهكذا نكت قديمة بالية). في البلاد العربية دعى مستشرقون عدة مثل ماسينيون

Massignon

( الذي قام بعدة أبحاث رائعة عن الصوفيين لكنه أيضا كان أسير  فكر قادته الإستعماري)

و فولرز
Vollers

و ويلمور
Willmore

وتحت وقعة زلزال أتاتورك الذي قام بأول وآخر تجربة عالمية بتبديل الأحرف العربية باللاتينية في نهاية العشرينيات( رسمياً منذ عام 1928) وخلال فترة لم تتجاوز السنة ( ولقرار أتاتورك إلى جانب رغبته باللحاق بأوروربا أسباب أخرى تاريخية) رأى بعض المفكرين العرب ان تبديل الحروف العربية كفيل بتأهيلنا للصعود إلى قطار التقدم ومنهم  عبد العزيز فهمي، عثمان صبري، أحمد جلبي و أنيس فريحة وأخيرا وليس آخرا الشاعر الكبير سعيد عقل.
هذا الفكر مقلد منتحل وبالتالي ليس مؤهلا لأن يقدم أي شيء جديد تحتاجه اللغة للثورة على القديم فيها. وكون الأتراك تمكنوا من الإستغناء عن الحرف العربي لا يعني أننا نحن العرب بإمكاننا ذلك دون خسارة فادحة ودون تقويض أحد أهم أعمدة مبنى ( لكي لا أقول صرح) ثقافتنا وهو لغتنا. الحرف العربي لم ينبثق من عمق جذور الثقافة التركية بل أتى من الإحتلال العربي (وهذا أحد الأسباب العميقة في نفس أتاتورك وقيادة حركته). بينما الحرف العربي رافق كل يوم من أيام الحضارة العربية بكافة مراحل تطوره. إنه جزء منا فكيف نريد ببتر جزء حيوي منا أن نصبح أسرع في تقدمنا؟
لكن الأهم من ذلك أن هكذا تبديل يعني ضمنا مساس القرآن وهو الكتاب المقدس لأكثر من مليار إنسان. لا حاجة إذن إلى التفتيش عن مؤامرات بل الإقتراح بحد ذاته ليس قابلا للحياة. وأسأل بكل أدب كل الدعاة والطبالين لسعيد عقل والذين يأخذون أي مبرر ذرعا ليبرروا به سبب تخلف العرب وليضعوا  في الحرف اللاتيني كل سحر التقدم: لما إستطاع اليابانيون والصينيون والإسرائيليون من التقدم ومرافقة موكب الحضارة دون أن يستعملوا الحرف اللاتيني؟
3. هناك إقتراحات بتبديل شكل الحروف وتركيزها ( أي إختصار عدد الحروف) كان أذكى هذه الإقتراحات ما قدمه الخطاط والشاعر العراقي محمد سعيد الصكار. وقد سمى أبجديته “الأبجدية المركزة” وأعطى أحرفه ( 17 حرفا) شكلا واحدا بغض النظر عن مكان تواجد الحرف في الكلمة. ورغم كون الصكار من المقربين لطارق عزيز (وزير الإعلام ورئيس تحرير جريدة الثورة البعثية آنذاك والتي ترأس الصكار القسم الفني فيها) فشل في إيصال أبجديته للناس ناهيك عن تجربتها. أقزام البعث سروا في البداية أيما سرور أن يخرجوا للعالم بإختراع أبجدية…ثم لم يلبثوا أن جبنوا كعادتهم أمام  مواجهة العالم الإسلامي وبدل أن يصمتوا على جبنهم وأميتهم لاحقوا الصكار متهمين إياه بأبشع التهم رغم تذلفه لهم بقصائده القومية ورغم شفاعة العديد من المقربين لصدام حسين  له من أمثال عبد الرحمن منيف وتوفيق صالح وعبد الوهاب الكيالي..وأتهم الصكار زورا أنه يخطط لتهديم الثقافة العربية…إلى ما هنالك من شتائم تكال لكل من يحاول أن يحرك الثابت. ولسخرية الدهر يعود الصكار بعد سقوط صدام حسين إلى العراق ويؤكد أن حرف لا بالتأكيد حرف مقدس.
رغم إقتراب الصقار من الحل إلا أنه أخطأ فلا يمكن لأبجدية جديدة بأحرف أقل أن تتسع لكل طيف الأصوات العالمية. من جهة أخرى يتطلب هذا الإقتراح كتابة جديدة للقرآن وإقناع مليار إنسان بالتخلي عن الأبجدية القديمة وتعلم الجديدة وهذا يصعب خاصة لدى شعوب لا تتكلم في يومها العربية إلا عند الصلاة. وبالتالي ستصبح هناك عدة أبجديات عربية وتصبح الفوضى أول من يقوض اللغة العربية ويجعلها عرضة للإهمال.

ما الحل إذن؟
الأبجدية العربية جميلة كما هي بأحرفها ولا حاجة لمس القرآن أو إقناع مليار إنسان بأبجدية جديدة. الضروري والممكن ببساطة هو إضافة أربع إلى خمس أحرف لتصبح لغتنا قادرة على لفظ أغلب أصوات الأرض. وبالتالي يمكننا كتابة كل الكتب من اليمين إلى الشمال ودون أي حاجة لأحرف لاتينية. وبالتالي يمكننا نقل أي علم أو فلسفةإلى لغتنا دون تشويش. هذه هي الخطوة الأولى التي عليها أن تسبق الخطوة الثانية بترجمة كل كتب العلم والفلسفة كما فعل العرب عندما نهضوا ليلحقوا بآخر التطورات وليساهموا مع الإنسانية فنا وعلما وفلسفة.
ليس من الضروري تقليد حروف الإيرانيين. بل إنه من المهم أن يقوم خطاطون عرب بإبتكار صورة واضحة لهذه الأحرف الجديدة. وليس على من يحرص على الدين أن يخشى الضرر. هذه الإضافة قامت بها شعوب مسلمة غير عربية ولم تصبح أقل أو أكثر تدينا من المسلمين العرب.
بالمناسبة لا ينقص العرب المال للقيام بهذه الخطوة فدخل يوم واحد من البترول يكفي لتطوير الأبجدية وترجمة كافة المصطلحات العالمية وأهم الكتب من كل لغات العالم. ما ينقصنا هو الحرية والديمقراطية.

حسين الشيخ: خطاط صيني قال ذات يوم: عندما تكون الفكرة بنهاية الفرشاة، فلا داعي للذهاب إلى نهاية الفكرة، لكن عاشقك ذهب اليها، وهو يعرف استحالتها، وكتب رسائل عشق؟
رفيق شامي: صحيح، لأن العاشق لا يملك حكمة الصيني فقلب العاشق دليله, أظن أن لحظة العشق تصيغ شخصية الإنسان من جديد ليس دائما للأفضل لكنها قد تقلب شخصيته رأسا على عقب وهذا ما يدهش إن لم نقل يرعب محيطه الذي ما تعودوه بهذه الشخصية أو التصرف. أنا لا أعتقد أن العاشق يمضي وقتا طويلا كالمهندس أو العالم الستراتيجي ليفكر بعقلانية امكانية أو إستحالة هدفه. هناك أبحاث شيقة جدا عن العشق واللغة من إبن حزم “طوق الحمامة” وحتى الكاتبة التونسية الجريئة والذكية رجاء بن سلامة وكتابها “لعشق والكتابة” كما وكتيب صادق جلال العظم “في الحب والحب العذري”.
حسين الشيخ: هناك مرحلتان في العمل الفني بمجال الخط : المرحلة الاولى وهي لحظة الخط حيث تعبر الخطوط وحركاتها عن الأحاسيس والانفعالات. وهي لحظة معقدة لا يمكن التكلم عنها، إذ تمتزج هذه الأحاسيس بالذاكرة وتمتد نحو جذور بعيدة وعميقة في النفس البشرية، والمرحلة الثانية هي في الحوار مع النفس قبل وبعد الخط :  من أين أتينا والى أين نذهب ؟ كيف أجاب خطاطك على هذه الأسئلة؟

رفيق شامي: رغم عدم إمكانية الحديث بدقة عن المرحلة الأولى فقد شغلت حيزا كبيرا من إهتمامي. كنت أسأل نفسي لماذا تشعر النفس بجمالية الخط الذي يتبع قاعدة ما أخترعت في القرن التاسع أو العاشر؟ ما هي الأوتار السرية في نفسنا التي تداعبها الخطوط فنسمع موسيقى في داخلنا؟ هل لذلك علاقة بالكون المنظم بدقة رهيبة والجميل عبر هذا النظام؟
الخطاط الفذ في روايتي يلهث لفترة طويلة وراء أحداث حياته، ينجز خطوط بكميات هائلة، يؤسس مدرسة للخطاطين، يراقب إخراج الكتب المدرسية بتوكيل من الوزير ولا يعي ما يدور حوله.. وفي خضم هذه المعمعة يقتل زير نساء شهير ولكون مدير السجن من عشاق خطه يمنحه وهو الحاكم المطلق في سجن القلعة الدمشقي زنزانة جميلة ويبتزه أسبوعيا ليكتب له هذا الخطاط حكم وآيات يهديها المدير لأصدقائه وعشيقاته. في هذه الزنزانة التي ستتحول شيئا فشيئا إلى ورشة يبدأ الخطاط عبر السكون الذي أحاط به بالتفكير ويحاول الإجابة على بعض الأسئلة ويكتشف أمور وأسرار حول الخط والمجتمع.

حسين الشيخ: لابد من تعلم الحوار مع الحروف، فهناك حروف متفتحة ديناميكية كالورود وأخرى متقلصة ومنغلقة كالبراعم … حروف تنظر للأعلى بفخر. وأخرى تحني رأسها خجولة. إنها عالم قائم بذاته
رفيق شامي:  صحيح هناك أيضا أحرف تلف وتدور وأخرى مستقيمة. بعضها صغير وذو شأن عظيم كالهمزة وأخرى كبيرة. هناك أحرف ودودة لبعضها وأخرى لا تطيق جوار بعض أترابها. وهناك ستة أحرف لا تريد إعطاء يدها للحرف الواقف على يسارها ( أ،د،ذ،ر،ز،و) وكأنها تأنف من مسه كما يأنف بعض الإسلامويين المتحجرين من لمس يد مسيحي. وأكثر ما يلفت النظر عند تأمل الأحرف الأبجدية هو تشكيلها لمجموعات أو قبائل شديدة التشابه. ع غ / دذ/ رز / ح ج خ/  ص ض ظ ط / س ش /ف ق/ ب ت ث ن / ك ل./ وأما الألف فهي حالة خاصة وفريدة ويمكن تأويل ذلك بطريقتين. فالألف من جهة أولى تقف شهمة مستقيمة العود شامخة الرأس تقود الأحرف وراءها كطابور وأحيانا تراها ملتوية كالثعبان منحطة تساوي آخر الأحرف في كيانها وهو حرف الياء فقيرة عنه بنقطتين. كما ويمكن تأويل ذلك أن الألف قائدة ثورية للحروف تقف في مقدمتهم عند الكفاح ولا تتكبر عن مشاركة آخر الأحرف مصيره والتماهي معه.

حسين الشيخ: من الضروري الذهاب للمحبرة باستمرار للاستزادة من الحبر والاستفادة لأخذ النفس أيضا. فكما قال القدماء إن الخطاط يحبس نفسه عند خط كل حركة . وحبس النفس هو ضرورة لإعطاء الحرية للحركة … ولمنح الحياة والقوة لها. وعند حبس النفس لا يتزود الجسم وخصوصا الدماغ بالأوكسجين . لذلك أن التوقف باستمرار والعودة للمحبرة يصبح أيضا ً ضرورة للتزود بالأوكسجين. أو أن الأمر أعمق من العملية الفيزيولوجية؟

رفيق شامي: التخطيط عملية تقترب من الطقس. بعض الخطاطين يمزج عطراً خاصاً ( ماء ورد أو زهر) مع الحبر لأنه يبلغ عبر هذا العبير الخاص قمة الإبداع. كان معلمي مثلا يصلي ركعتين قبل مباشرته بتخطيط لوحة هامة. تنظيم النفس الذي تذكره له وقع موسيقي بين حجب وإنفراج كحركة الأكورديون. خذ مسألة الحبر مثلاً كان هناك خطاطون لا يكتبون إلا بالحبر الأسود بينما تنزع الخطاطات للألوان. خطاط الرواية العبقري مثلا لا يباشر بالتخطيط إلا بعد أن يعتني بجسمه وهندامه وكأنه ذاهب لملاقاة حبيبة وكانت ورشته أنظف من صيدلية. وكان يعالج يديه يومياً لتصل أصابعه مرنة وجلده ناعم يحلق فوق الورق كالفراشة.

حسين الشيخ: كيف كان عاشقك يتزود بالاوكسجين؟ بالعشق، وبالنظر الى عشيقته؟ اذن كان عاشقك خطاطا رديئا؟

رفيق شامي: كن رحيماً شيئاً ما مع العشاق يا صاحبي. الصعلوك عشيق نورا يصبح في نهاية الرواية خطاطاً عادياً جدا. ويعيش في مدينة ثانية مع حبيبته بأوراق مزورة وهناك في الحي المسيحي من تلك المدينة يخسر شيئاً فشيئاً إسمه المميز ويصبح “زوج الخياطة” إذ أن نورا تأسر ألباب الجيرة بذكائها ودماثة أخلاقها. كما وبراعتها كخياطة.

حسين الشيخ: صممت دفترا جميلا حول الخط العربي طبعته دار النشر بطبعة 100 ألف ووزعته كدعاية على بائعي وتجار الكتب، هل هذا بمثابة تحريض القارئ على شراء الرواية مالذي تريده من هذه الوسيلة الجديدة والتي ستكون مرفقة مع الرواية، أليس هذا تشتيتا للقارئ عن الرواية، وكأنك تريد الاستيلاء عليه جماليا أولا، ومن ثم حين يقرأ روايتك يكون قد وقع بالفعل تحت سحر وجمال الخط العربي، هل هي وسيلة لمساعدة القارئ على تتبع قصة عشق الحرف والانثى معا؟

رفيق شامي: الدعاية أمر لا بد منه إن اردت إيصال ما تنتج لقرائك. في بلد كألمانيا يصدر فيها سنويا 80.000 كتاب جديد وتعرض أي مكتبة أو بائع للكتب حوالي 300000 كتاب. هذه هي الشروط التي يعمل كل كاتب تحتها بإيجابيتها (محبة الشعب الألماني للكتاب) وسلبيتها ( غمر السوق بمئات آلاف الكتب).
على دار النشر إذن أن تفكر بأسلوب يبرز الكتاب وسط الزحام. هناك آلاف الطرق وليست صفحات الدعاية في المجلات التي كانت في الماضي فعالة جدا اليوم بذات شأن. فكم تتوقف أنت كقارئ أمام صفحات الدعاية حتى في مجلات محترمة؟ أنا أقلبها حتى دون أن أرى محتواها. دور النشر تتكارم بحنكة متى رصدت إمكانية أن يتبوأ الكتاب مكاناً جيدا في قائمة أفضل الكتب أو أكثرها إنتشاراً. فنجاحها بكتاب واحد يؤثر إيجابيا على كل برنامجها.. أحيانا يرسلون هدايا للعاملين أو زينة للواجهات أو يدعون أصحاب المكتبات لحفل عشاء ساهر…إلخ
دار النشر التي أصدرت روايتي عندها قررت أن تصدر بكرم وحنكة في آن واحد إلى جانب الرواية كتيب صغير بحوالي 50 صفحة بالغ الأناقة يوزع بطبعة 100.000 مجانا على دور بيع الكتب والمكتبات والصحف ويحتوي الكتيب ثلاث مقالات أبحاث لي حول الخط العربي أولها عن دور العبقري الخالد إبن مقلة ( الذي أعتبره بعد تفكير طويل ليوناردو دافنشي العرب) والذي قال عنه أبو حيان التوحيدي:” إنه نبي الخط، أٌفرغ الخط في يده كما أٌوحي للنحل في تسديس بيوته”.
لقد حاك مؤرخي القصور أكاذيب وأكاذيب عن سبب نهاية إبن مقلة التعيسة مقطوع اليد واللسان. وأنا حاولت إعادة كتابة تاريخ هذه المرحلة وسيرة هذا الرجل بإختصار لرد الإعتبار له وبرأيي على كل مدينة عربية أن تزين أجمل مبنى لديها وتمنحه لمدرسة إبن مقلة للخط…. هكذا نبني صرح عباقرتنا أمام الدنيا. وليس بتزوير سيرتهم بعد قطع ألسنتهم ويدهم.
في المقال الثاني أعالج موسيقى الخط العربي وهي موسيقى عينية يتمتع بها كل من يرى الخط العربي الجميل حتى دون فهم فحواه لكونه لا يفهم العربية أو لكون اللوحة معقدة جداً يصعب على القارئ العادي سبر غورها وفك طلاسمها ضائعا في غابات أحرفها. المقال الثالث يعالج مشاكل الخط واللغة العربية والإمكانيات التي طرحت وتطرح لحلها. هذه المقالات الثلاث هدفها تعريف أكبر عدد ممكن من القراء على جمال الخط العربي. وقد قام الخطاط عصمت أميرالاي بتصميم خطوط جميلة جدا أصبح الكتيب عبرها هدية فنية تفتخر دار النشر بها وقد حدثني مدير الدار أنه قرأ الدفتر بعناية وتعلم بعض الأسماء والفروق بين خط الثلث والديواني والكوفي كما وأعجبه إبن مقلة وعندما دعي لحفل عشاء لدى وزير الثقافة إستطاع أن “يتبهور” على أحد المستشرقين المدعوين بما تعلمه من الدفتر فدهش المستشرق وسأله إذا كان قد درس اللغة العربية.
هذا الكتيب له ضرورة قصوة لأنني أول كاتب عربي يأخذ موضوع الخط العربي وجماله كما وأزمة اللغة العربية كموضوع رواية. وهذا في بلد لا يعرف شيئاً عن اللغة العربية. وأملي أن يساعد هذا الكتيب وروايتي بتقريب الثقافة العربية بوجهها المنير من القراء بعد أن أشبعتهم أنظمتنا صوراً بشعة عن وجهها المظلم كثقافة إضطهاد وتدمير للذات.

ملاحظة أخيرة من الروائي رفيق شامي

الكاتب رفيق شامي يعلن أن ما قدمته روايته ومداخلته هنا ليس إلا مساهمة صغيرة يرجو لها أن تغتني بمداخلات مفيدة من عشاق اللغة والحرف لتصبح صوتا قويا يصل صداه إلى عقول وقلوب الكثيرين إذ دون هؤلاء لا يمكن تحريك أية مبادرة. ويعتقد بكامل قناعته أنه لا يمكن لمجتمع إصلاح طريقه إلى المستقبل دون إصلاح لغته أهم ركائز الفكر.
بما أن حسين الشيخ والصفحات كانا معا السباقين للحوار فيا حبذا لو كان الحوار سيستمر على الصفحات وقد يكون من المفيد جدا إذا بلغ الحوار درجة من النضج وقدم مساهمات جريئة وعملية لإصلاح اللغة أن يصدر الحوار على شكل كتاب يصل إلى قرائه والمعنيين بهواجس اللغة التي يحبون.

خاص – صفحات سورية –
اعادة النشر او الاقتباس يتمان بالتواصل مع الكاتب وصفحات سورية تحديدا

تعتذر صفحات سورية من الكاتب رفيق شامي والقراء، عن بعض الاخطاء التي وردت في الحوار، وتقدم لقرائها نسخة واضحة للغاية بصيغة البي دي اف والتي يستطيع قرائنا تحميلها الى كمبيوترااتهم والاحتفاظ بها، وطباعتها ان ارادوا طباعة أنيقة.

حمل نسخة الحوار من الرابط التالي

حوار صفحات سورية مع رفيق شامي

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. رواية اسرار الخطاط لم تترجم بعد واريد ان اعلم هل سوف يلتقى الزوج والزوجة فى نهاية الرواية وما هو رد الفعل وهل ستعلم الزوجة بما حدث لزوجها وهل سيعلم هو بما حدث لها وقد قال الاستاذ رفيق شامى ان العشيق سوف يعرف بزوج الخياطة فهل سوف يغير من نورا وهو الذى قد خان معلمة وهل ستندم نورا لانها هربت مع عشيقها ولا يعنينى اذا كان مسيحى او اى دين فانا لا افكر بهذة الطريقة .يقول الاستاذ رفيق شامى ان الزوج سيتغير فهل ستعلم الزوجة هذا التغير .ان الاستاذ رفيق قد انتقد الزوج لانة متشدد وانا معة فى ذللك ولكن هل انتقد الزوجة اريد ان اعلم لاننى لاننى عند قراءة بعض الروايات ارى ان الكتاب يطيرون فرحا عندما يخون الزوج او الزوجة اذا كانت الخيانة عن حب وهذا امر غريب وانا لا احكم على الادب او الفن من منطلق اخلاقى ولا احكم على شى لم اطلع علية انا استفسر فانا امام زوج سوف يتغير فهل التغير هذا سوف يشمل باقى الشخصيات بمشاعرهم لان نورا احبت فى ظروف معينة وخانت زوجها فى ظروف معينة فاذا تغيرت الظروف فهل سوف يتغير الحب والعشيق هل سوف يغير لانة بدا يعرف بزوج الخياطة .
    اسئلة كثيرة اسئلها لاننى اتلهف لقراءة الرواية واريد ان اعلم متى ستترجم وارجو معرفة البريد الالكترونى الاستاذ رفيق شامى وشكرا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى