الدور التركي في المنطقةحسين العوداتصفحات العالم

العثمانيون القدامى والعثمانيون الجدد

حسين العودات
تكرر ذكر العثمانيين وخلافة العثمانيين على لسان أكثر من سياسي تركي، وبإشارات إيجابية صريحة، على عكس ما مارسته السياسة التركية خلال ثمانين عاماً منذ إعلان الجمهورية عام 1924.
لقد لفت الانتباه تذكير رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، للحكومة الإسرائيلية بعد عدوانها الهمجي على غزة بأنهم (أي الأتراك) أحفاد العثمانيين، بما يعني أربعمئة عام من وجود الإمبراطورية العثمانية في البلدان العربية، وتبعية الشعوب العربية إليها كرعايا للسلطنة العثمانية (حتى لو كانت هذه الشعوب مستعمرة)، وهذا ما يرتب التزامات كبيرة على الحكومة التركية الحالية (حسب منطوق هذه التصريحات) تجاه العرب وقضاياهم.
كما لفتت الانتباه تصريحات وزير الخارجية التركية أحمد داوود أوغلو، في ورشة العمل الداخلية لحزب العدالة والتنمية قبل أسبوعين، والتي نقلها مراسل صحيفة «يني شفق» أرهان سيفين (وقد عدل وزير الخارجية بعضها فيما بعد دون أن تفقد مغزاها).
وقال فيها «نحن أصحاب إرث باق من العثمانيين، يقولون عنا إننا عثمانيون جدداً.. نعم نحن عثمانيون جدد، ويتحتم علينا الاهتمام بالدول التي في منطقتنا، حتى أننا ننفتح على شمال إفريقيا» (وكان يعني الجزء الإفريقي السابق من الممتلكات العثمانية). وقد لاقت هذه التصريحات انتقادات من وسائل الإعلام في أكثر من مكان، متهمة الحكومة التركية بالطموح الإمبراطوري.
ولئلا نقع في خضم بحر المبالغات الكلامية، واقتناص التأويل والتفسيرات السلبية التي يتصيدها البعض، نقول إن السياق العام لتصريحات أردوغان وأوغلو، لم يكن يوحي ولا يلمح لمطامح إمبراطورية لدى السياسيين الأتراك الحاليين، ولا يتبنى استراتيجية السلطنة العثمانية، وإنما كانت تأكيدات لعدم الرغبة في القطع مع إرث ثقافي وديني طويل، وعلاقات غائصة في أعماق التاريخ، ورفض التخلي عن الجوانب الإيجابية من العلاقات التركية العربية في الماضي.
أقام العثمانيون القدامى إمبراطورية مترامية الأطراف على غرار الإمبراطوريات العظمى القديمة، كالإمبراطورية الهللينية (الإسكندر المقدوني) أو الرومانية أو الفارسية أو الفرعونية، وامتدت أراضي الإمبراطورية العثمانية من النمسا وهنغاريا والبلقان وشرق أوروبا، إلى غرب آسيا (جميع البلدان العربية الآسيوية تقريباً) وشمال إفريقيا (البلدان العربية الإفريقية).
وذلك خلال القرون الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر من الألفية الماضية، وأسقطت خلال ذلك الإمبراطورية البيزنطية بعد أن احتلت القسطنطينية عام 1453، وإن تراجع النفوذ العثماني عن البلدان الأوروبية مرغماً فيما بعد، إلا أنه بقي في البلدان العربية حتى الحرب العالمية الأولى.
كان نظام الإمبراطورية العثمانية السياسي في فتراتها المتأخرة، نظاماً استبدادياً متخلفاً، يقوم على القمع والقهر وعدم احترام حقوق الشعوب التابعة، وكان جوهره الرشاوى والفساد والالتزام (بيع الوظائف والمناصب) وتسيير الدولة بدون دستور ولا قانون.
وكان نظامها الاقتصادي والاجتماعي نظاماً إقطاعياً، أفسح المجال لنهب البلاد والعباد من قبل فئة محدودة من الحكام ومن يحيط بهم، فانتشر الفقر والجوع والأمية والأمراض وغيرها، هذا فضلاً عن اضطهاد الشعوب المحكومة من القوميات والأديان الأخرى.
ولم تنفع الإصلاحات التي نص عليها خط شريف كولخانة (1839)، ولا خط شريف همايون (1857)، وأصبح فساد الدولة وضعفها أقوى من أية محاولة إصلاح قام بها أفراد أو تيارات سياسية، وضعفت الدولة وأطلق عليها الأوروبيون «الرجل المريض» وما لبثت، بسبب هذا الانحلال ورفض الإصلاح، أن انهارت وتلاشت لصالح الدول الاستعمارية الأوروبية.
ثم تحولت إلى جمهورية عام 1923، وتولى أتاتورك قيادتها عام 1924 بعد أن ألغى الخلافة وعزل الخليفة الأخير (محمد السادس)، وبدأ يطبق سياسة جديدة ـ باسم العلمانية ـ تجبّ التراث الثقافي والاجتماعي التركي، وتقطع مع الماضي، وتحارب التقاليد والقيم (حسنها وسيئها)، وتحاول إبعاد تركيا عن مجالها الحيوي العربي والآسيوي، بما في ذلك وسط آسيا التركي.
أما في عصرنا، فإن «العثمانيين الجدد» (؟!) يكرسون تأسيس دولة تحترم الحرية وحقوق الإنسان وتحارب الفساد، وتتبنى الديمقراطية وتداول السلطة، وتبني علاقاتها مع جيرانها على أسس الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية (عكس ما كان عليه الأمر أيام العثمانيين القدامى).
وهم لا يفهمون الحداثة على أنها قطع مع الماضي، (كما يفهمها الليبراليون الجدد)، بل يفتخرون بالتراكم الثقافي الذي تحقق تاريخياً في ثقافتهم بسبب تشابكه مع ثقافات الشعوب المجاورة، وبسبب العلاقات التاريخية والدينية التي تأسست خلال قرون، ولا يرونه سبّة في تاريخهم، كما كان يراه أتاتورك وورثته من العسكر ومن الليبراليين المزعومين.
ويرى العثمانيون الجدد في قطع علاقاتهم الثقافية والإنسانية مع مجالهم الحيوي، خطيئة كبرى في حق بلادهم وشعبهم، ويعتقدون أن اشتراط الأوروبيين عليهم سلخ جلودهم المشرقية والإسلامية وثقافتهم المتراكمة وتقاليدهم (بخيرها وشرها) لدخولهم «النعيم الأوروبي»، هو اشتراط غير عادل ومخالف لمنطق التاريخ ولمصالح الشعب التركي، ويتعذر تطبيقه، رغم رغبتهم الجادة وشغفهم بالانتساب إلى المنظومة الأوروبية.
من الواضح، من خلال مراقبة ممارسات الساسة الأتراك وبرامج حكومتهم، أنهم يدركون جيداً السياسات الغاشمة والاستعمارية والاستبدادية لبعض أجدادهم العثمانيين القدامى، وأنهم يعملون بمسؤولية عالية لتحاشيها وعدم الوقوع في الأخطاء التي وقعت فيها، على أنهم يخشون القطع مع الماضي باسم الحداثة، ويرفضون إدانة تاريخهم كله دون تمييز بين سلبياته وإيجابياته.
وعلى هذا فإن فهم تصريحاتهم على غير هذا النحو، فيه شيء من سوء الفهم، إن لم يكن من الظلم لهم ولمواقفهم السياسية.
البيان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى