صبحي حديديصفحات سورية

إسرائيل في الـ 60: تبادل المواقع بين الحاخام والعلماني والجنرال

null


صبحي حديدي

دخل العالم في العام الجديد 2008، ودخل يهود العالم في الذكري الستين لإنشاء الدولة العبرية، وأمّا الدولة ذاتها فقد أبت أن تقارب العقد السادس دون ملمح جديد يدلّ علي الركائز الإرهابية التي كانت في أساس زرعها بقوّة السلاح والمذابح الجماعية والأرض المحروقة والمحو الطبوغرافي والديموغرافي والتهجير.

وهكذا، أسفر الصراع الراهن علي الاستئثار بالكعكة الأمنية ـ السياسية التي يمثّلها حصار غزّة، بين رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت ووزير دفاعه رئيس الوزراء الأسبق وزعيم حزب العمّال إيهود باراك، عن إعادة الغزّاويين القهقري إلي عصر الشمعة، أي العصور الوسطي أو عصور الظلام، علي مرأي ومسمع من العالم الحرّ إياه، خالق عصور الأنوار والأضواء والكهرباء!

وفي الذكري الخمسين، اليوبيل الفضّي في التعبير الآخر الإحتفالي، أدرك يهود العالم أنّ يوبيل إسرائيل اتخذ وجهة عجيبة لم يسبق لأية أمّة أن واجهتها في إحياء مناسباتها الكبري: أنّ محاكمة الإنسانية في الحفل، وليس البتة دعوة الإنسانية إليه، هو السمة الأبرز في احتفال اليهودي بالدولة التي يخال أنها دولته وحده (تماماً كما ذكّرنا الرئيس الأمريكي جورج بوش مؤخراً، من منصة مطار بن غوريون، بعد دقائق أعقبت وَطْأه الأرض). وفي هذا الصدد كان جورج شتاينر، المفكر اليهودي متعدد الجنسيات، قد فلسف مبررات عزوف الدولة العبرية عن دعوة العالم إلي مشاركتها في الاحتفاء بأعياد ميلادها. ذلك لأن إسرائيل تعرف علي وجه الدقة ما الذي كان العالم يفعله حين طُورد اليهود حتي حافة الموت علي امتداد العقود الأولي من القرن العشرين، في شوارع فيينا، وفي خنادق البلطيق وسالونيكا حيث تكدست جثث اليهود وكفّنت بالجير المطهر فقط، وفي الغيتوات هنا وهناك، ثم في أوشفتز وما أعقبها من فصول الهولوكوست. وكان شتاينر في عداد حفنة جدّ قليلة من المفكرين اليهود الذين اتخذوا من الذكري الخمسين موقفاً جديراً بالإنتباه، مختلفاً لا ريب، وربما طريفاً أيضاً. ذلك لأنّ اليهودي في تعريف شتاينر هو ذاك الذي سيعجز أبداً (لاحظوا نبرة الإطلاق: أبداً) عن ممارسة التعذيب، وعن دفن الأحياء، وعن منع الكتب… أياً كانت الأسباب والموجبات. ثمة، في نظر شتاينر، إرث أخلاقي عريق يحول دون قيام اليهودي بأيّ من هذه الممارسات الثلاث. فاليهود قبيلة الأنبياء، ورثة الكوارث، وأهل المآسي؛ وهم دُفنوا أحياء علي امتداد التاريخ، ولا يعقل أن يدفنوا سواهم؛ واليهودي يقيم في بيت النصّ، أصلاً، وليس له أن يمنع الكتاب. فيما بعد، ومع ولادة الإنتفاضة الفلسطينية الأولي وافتضاح حقائق الممارسات الإسرائيلية في قمعها علي نحو يفقأ حتي الأعين حسيرة البصر، اعترف شتاينر بأنّ إسرائيل مارست التعذيب، ودفنت الفلسطينيين أحياء، ومنعت الكتب. وقبل أن ينخرط الرجل في حزن عميق معلَن، كتب ينعي الثمن الباهظ الذي تدفعه اليهودية في انتقالها من طور المعجزة السوداء لحفظ النوع والبقاء، إلي المعجزة الدموية لدولة تعيش بحدّ السيف وحده.

ولكي تتكدّس الحقائق الدالة علي الركائز الإرهابية لهذه الدولة، كانت إسرائيل قد ودّعت العام الذي سبق اليوبيل الفضيّ بتقرير سرّي أعدته المخابرات الداخلية الإسرائيلية (الـ شين بيت )، بناءً علي طلب رسمي من أعلي جهاز قضائي في الدولة العبرية، اعترفت فيه باللجوء إلي العديد من الطرائق المحرمة وأساليب التعذيب أثناء استجواب المعتقلين الفلسطينيين. ورغم أنّ المحكمة العليا تسمح للأجهزة الأمنية الإسرائيلية باستخدام التعذيب مع الفلسطينيين المرتبطين بشبكات إرهابية ، فإنّ هذه الممارسات تجاوزت الحدود كما يبدو، واضطرت المحكمة إلي طلب تقرير مفصّل عن أساليب التعذيب غير الشرعية ! اليوم، هاهي إسرائيل تستقبل عام الذكري الستّين بتقرير فينوغراد، الذي يفصّل القول ـ وإنْ في الحدّ الأدني كما يلوح، حفاظاً علي هيبة الجيش الإسرائيلي! ـ في بربرية ما ارتكب هذا الجيش ضدّ لبنان والشعب اللبناني أثناء حرب تموز (يوليو) 2006.

وفي فتح ملفّات التاريخ، كانت الدولة العبرية قد ودّعت العام 1998 بافتضاح الحكاية التالية: بعد ساعات معدودات من استيلاء القوات الإسرائيلية علي القدس القديمة في حزيران (يونيو) عام 1967، حثّ كبير حاخامات الجيش الإسرائيلي آنذاك، شلومو غورين، علي تدمير قبّة الصخرة وتقويض المسجد الأقصي. وفي حوار، كانت صحيفة هآرتز قد أجرته صيف تلك السنة مع الجنرال المتقاعد عوزي ناركيس (قائد الوحدات الإسرائيلية التي استولت علي القدس سنة 1967)، ونشرته بعد أن تحقق شرط الجنرال في تأجيل النشر حتي ما بعد وفاة جميع الأشخاص الذين تطالهم الوقائع (وكان هو نفسه قد توفي ساعتئذ)، أكد ناركيس أنّ الحوار التالي دار يوم 7 حزيران (يونيو) 1967 في ساحة المسجد الأقصي:

ـ الحاخام شلومو غورين: الآن هو الوقت المناسب لوضع 100 كغ من الموادّ الناسفة، وتدمير مسجد عمر، وتخليصنا منه مرّة وإلي الأبد.

ـ الجنرال عوزي ناركيس: كفي أيها الحاخام!

ـ الحاخام: ولكن يا عوزي اسمك سوف يدخل التاريخ من أوسع أبوابه!

ـ الجنرال: اسمي دخل لتوّه في كتب التاريخ الخاصة بأورشليم.

ـ الحاخام: أنت لا تدرك المغزي الهائل لهذا الفعل. هذه فرصة يتوجب اغتنامها الآن بالذات. غداً سوف تفوت الفرصة نهائياً.

ـ الجنرال: إذا لم تكفّ عن هذا الكلام فسوف أصدر أمراً باعتقالك.

وتقول بقية الحكاية إنّ هذا الحوار تناهي إلي أسماع الجنرال موشيه ديان، وزير الدفاع آنذاك، وأنه لم يتخذ أيّ إجراء رادع بحقّ الحاخام، بل سمح له أن يلقي خطبة لاهبة أمام عدد كبير من الضباط قال فيها بالحرف: إنها لمأساة أن تكون إسرائيل قد تلكأت في تدمير مسجد عمر . أمّا اليوم، في سنة الذكري الستين وفي سياق فتح ملفّات مماثلة من تاريخ الدولة العبرية، يعترف إيلان بابيه، أحد أفضل المؤرّخين الإسرائيليين وأشدّهم نزاهة وشجاعة، أنّ المرء يتحسّر علي الماضي حين كان في وسع الباحث الإسرائيلي أن يعيد قراءة مستند تاريخي ما، بطرائق موضوعية، دون أن تُرفع في وجهه تهمة الخيانة العظمي.

وأخيراً، كان وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق يتسحاق مردخاي قد استقبل عام الذكري الخمسين بوضع حجر الأساس لمشروع إسكاني جديد تضمّن توسيع مستوطنة بيت ـ إيل شمال القدس، علي مرمي حجر من رام الله. وقال الوزير (الذي كان يحظي بصفة المعتدل في الإدارة الأمريكية!) إنّ أبناء بيت ـ إيل لهم الحقّ في تشييد البيوت هنا، تماماً مثل حقّ أبناء نيويورك وباريس وتل أبيب . ولأنّ التدشين جاء بمناسبة مقتل اثنين من المستوطنين، قال مردخاي: ليعلم القتلة ومَنْ أرسلوهم أننا سوف لن نكتفي بمطاردتهم وعقابهم فحسب، بل سوف نواجههم أيضاً بمزيد من البناء . اليوم، تكاد مشاريع التوسيع الإستيطاني لا تُلقي بمؤتمر أنابوليس إلي مزبلة التاريخ فحسب، بل تعيد تصنيفه أكذوبة جديدة في ركام أكاذيب ما يُسمّي عملية السلام الإسرائيلية ـ الفلسطينية. بهذا الطراز من الوقائع تبدأ الدولة العبرية عقودها، بل سنواتها وأسابيعها وأيامها، فتربط الماضي بالحاضر والمستقبل، وعلي أسس مثل هذه التي تفرزها تلك الوقائع ترتد الأعوام علي أعقابها نحو العقود الأولي من القرن. وعلي سبيل المثال، في تلك العقود، ومع وصول الحاخام أفراهام إسحق كوك من ليتوانيا، كانت التيارات الدينية المتشددة تبدي الكثير من الإحتقار لهؤلاء العرب البداة الذين يحتلون أرض الميعاد التي خصّ بها الربّ إسرائيل وحدها من دون الأمم. ولكنها كانت تُبدي احتقاراً، ربما بالقدر ذاته، لأولئك الصهاينة العلمانيين ، الذين يأكلون لحم الخنزير، ويستبدلون التوراة برطانة عقائدية ليبرالية أو اشتراكية ليست ولن تكون أقلّ من هرطقة صريحة ضدّ التوراة وضدّ الربّ.

وعلي يد الحاخام كوك، ومن بعده ابنه الحاخام تزفي يهودا، تمّ جسر الهوّة بين أنبياء الربّ وأنبياء الكيبوتزات، واتفق الجميع علي قبول مبدأ إقامة دولة لليهود كـ حجر أساس لقيام عرش الربّ علي الأرض . لكنّ النار بقيت مشتعلة تحت الهشيم، وفي محاضرة لاهبة ألقاها عشية انتصار إسرائيل في حرب الأيام الستة، 1967، قال الحاخام الابن إنه لم يكن في أيّ يوم سعيداً بقرار التقسيم الذي أصدرته الأمم المتحدة وقامت بموجبه الدولة العبرية: أين الخليل التي تخصّنا نحن؟ أين أريحا التي لنا؟ هل سننسي أريحا؟ وماذا عن الضفة الأخري من الأردن؟ إنها ملك اسرائيل في كلّ شبر منها، فمَنْ ذا الذي يملك الحقّ في التنازل عن ملليمتر واحد منها ؟

وفي اليوبيل الفضي شدّد أبناء الحاخام كوك وأحفاده علي أنّ قداسة إسرائيل لا علاقة لها ببني البشر، وبالتالي لا صلة تجمعها بالسياسات والحسابات والمعادلات والشرائع، محلية كانت أم دولية. قداسة أرض إسرائيل هي كيفية روحية وفيزيائية وضعها الربّ وفرضها علي بني إسرائيل، وعلي أرض إسرائيل. وقال الحاخام: الربّ هو الذي قرّر أننا الشعب المختار مرّة وإلي الأبد، وهذه حقيقة واقعة حول الأرواح وحول الأبدان، وحقيقة واقعة حول الأرض المقدسة التي اختارها الرب لتكون صهيون إسرائيل. إسرائيل الكبري هي الأرض المقدسة شاملة تامة، وهي الشعب المختار شاملاً تامّاً .

ولكن، فلندَعْ الحاخامات في غلوّهم يعمهون، ولنذهب إلي سياسيّ إسرائيلي ليس من الطراز العلماني، آكل لحم الخنزير، ومستبدِل التوراة برطانة ليبرالية أو إشتراكية فحسب؛ بل هو يساري، وزعيم سابق لحركة ميرتز اليسارية العلمانية، وبطل الإطاحة بالزعيمة التاريخية للحركة، شولاميت آلوني، ووزير التربية في حكومة باراك. فماذا يقول عن حصار غزّة؟ التالي، باختصار شديد، من مقالته المعنونة أزمة إنسانية؟ في غزّة؟ التي نشرتها صحيفة هآرتز يوم أمس: 1) العرب عموماً، والفلسطينيون خصوصاً، خبراء بالطبيعة في استعراض العذاب، والشيء الوحيد الذي يفعلونه طيلة حياتهم هو إظهار مدي ما يعانون من مشقّة ؛ و2) منذ أن مَسْرَح الفلسطينيون مقتل الفتي محمد الدرّة بين ذراعَيْ أبيه، لم تتمتّع البروباغاندا الفلسطينية بمثل ما تتمتع به اليوم من نجاح دولي ؛ و3) غزّة، بالتالي، هي المكان الممتاز لتطبيق إجراءات عقابية، لا تجعل الأحوال أسوأ أو أفضل، بل تنجح في جعلنا نبدو أخشن وأقسي ؛ و4) يتوجّب علي منظّمي احتفالات الذكري الستين أن يتعلّموا المزيد .

ماذا يتوجّب أن يتعلّموا، مثلاً؟ دعوة العالم إلي مزيد من محاكمة ذاته، بذاته، وبقسوة كافية ظاهرة، تكفيراً عن ذنوب سابقة ارتكبها العالم بحقّ اليهود، وتعهداً بالمزيد من أعباء حماية الدولة العبرية والدفاع عنها، بل والإمعان أكثر في عشقها؟ دعوة العالم إياه إلي فرجة إخبارية علي الغزّاويين، كاسري الحواجز بحثاً عن الزاد، وسكّان الظلام الذين رُدّوا إلي عصر الشموع؟ دعوة ثلاث شرائح صانعة لحاضر إسرائيل، الحاخام والعلماني والجنرال، إلي مزيد من تبادل المواقع؟ أم هذه كلّها مجتمعة متكاملة، ربما، فضلاً عن إغداق قسط إضافي من المديح للرئيس الفلسطيني محمود عباس وطاقمه التفاوضي العتيد، الذي يواصل من جانبه تشديد الهجاء لكلّ مقاومة للإحتلال، غير تلك التي لا تواصل اللهاث نحو طاولة المفاوضات!

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

القدس العربي

25/01/2008

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى