صفحات العالمميشيل كيلو

هل هي مجرد غلطة؟

ميشيل كيلو
يشعر المرء بالاستفزاز، كلما سمع “خبيراً” أمريكياً أو غربياً أو عربياً يتحدث عن غزو العراق باعتباره “غلطة” . تقدم التلفازات والصحف العربية والأجنبية لنا بصورة يومية نقاشات وحوارات موسعة يسهم فيها “خبراء” غربيون وصحافيون محترفون يعترفون بأن العراق لم يكن يمتلك أسلحة دمار شامل، وأن الحرب ضده كانت رد فعل أملاه خوف غير مبرر من إرهاب يمكن أن يأتي منه، كان وليد عقلية مغلقة وأفق ضيق اتسم بهما الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن . بعد هذه المقدمات والتوضيحات، يقر “الخبراء” بلهجة تعتذر أو تدين أن الحرب كانت غلطة . ويعتقد أصحاب هذه “النغمة” أنهم يقفون بأقوالهم هذه إلى جانب الحق، ويتبنون وجهة نظر مطابقة لرأي العرب، ويؤيدون مواقف الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية، التي أكدت في حينه خلو العراق من أسلحة الدمار الشامل، لكن السياسة الأمريكية تجاهلت هذا الرأي، ثم كذبته على لسان وزير خارجيتها السابق كولن باول خلال جلسة شهيرة لمجلس الأمن، قبل أن تندفع إلى غزو يؤكد هؤلاء أنه كان غلطة يتحمل مسؤوليتها الشخص الذي اقترفها: جورج بوش اللعين .
في هذا المنطق، يشبه غزو العراق اصطدام شخص بآخر في الشارع، وهو حدث عابر يكفي لنسيانه اعتذار يقدمه أحدهما للآخر . غير أن هذا المنطق لا يتفق وحالة العراق . أما الاعتراف بأن الغزو الأمريكي كان خطأ فهو ليس في الحقيقة اعتذاراً كي يكون مقبولاً، بالنظر إلى آثار الغزو الفظيعة والإجرامية بالنسبة إلى العراق: دولة ومجتمعاً، وإلى دول ومجتمعات المنطقة العربية عموماً، التي بدّل الغزو أوضاعها وأدخلها إلى سياقات جديدة، وأخيراً بالنسبة كذلك إلى الإقليم الشرق أوسطي، الذي بدأت تتشكل فيه تحالفات وعلاقات تختلف من أوجه عديدة عن تلك التي عرفها طيلة فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية .
هل صحيح أن الغزو كان غلطة؟
في معرض الرد على هذا السؤال المهم، من الضروري، بداية، التذكير بأن كبار استراتيجيي أمريكا طالبوا منذ عام ،1970 أي قبل وصول صدام حسين إلى سدة الحكم، باحتلال العراق، انطلاقاً من اعتبارات كونية تلزم بلادهم بغزوه واحتلاله، وإلا فقدت هيمنتها على المجال الأوروبي – الآسيوي علماً بأنها أول قوة في التاريخ تسيطر وتهيمن عليه من خارجه- التي حققتها خلال صراع ضار مع السوفييت والعالم النامي، ولا يكفل استمرارها شيء غير احتلال العراق: درة العالم الاستراتيجية وموقعه المركزي المتحكم في آسيا وإفريقيا وأوروبا، وفي نفط حوضي الخليج ودول الاتحاد السوفييتي الإسلامية السابقة . وزاد من ضرورة احتلال العراق وقوع الثورة الإسلامية في إيران، وانهيار السوفييت، الذي فتح الباب واسعاً أمام إمساك أمريكا بالمواقع والممرات البرية والبحرية العالمية، وبالمناطق التي لم يكن لها وجود جدي فيها، مما يفسر اندفاعها نحو البلقان، ووسط وجنوب إفريقيا في تسعينات القرن الماضي، وتمركز قواتها في جمهوريات الاتحاد السوفييتي الإسلامية السابقة، واحتلال أفغانستان، وأخيراً احتلال الموقع العراقي، الذي يربط هذه المناطق جميعها بعضها ببعض ويجعل السيطرة عليها ممكنة لأمد طويل .
وكان الأمريكيون يسعون إلى احتلال العراق مباشرة، بأي ثمن وتحت أي مسوغ، حتى إنهم رفضوا عرضاً فرنسياً بإسقاط النظام على يد ضباط عراقيين أرادوا تجنيب وطنهم كأس الحرب المرة، وأدركوا أن ولاءهم لرئيسهم لا يجوز أن يسمو على ولائهم لوطنهم، فاتصلوا بباريس وأبلغوها باستعدادهم لإطاحة الرئيس مقابل عدم شن الحرب على العراق وتدمير جيشه واحتلاله . رفضت أمريكا هذا العرض وأعلنت بلسان وزيرة خارجيتها آنذاك مادلين أولبرايت عزمها على غزو واحتلال العراق، حتى إن كانت تديره حكومة موالية لها . وللعلم، فإن هذا حدث أيام رئاسة بيل كلينتون، ولم يحدث أيام جورج بوش، الذي تحمله اعتذارات “الخبراء” المسؤولية عن غزو واحتلال العراق .
بقول آخر: إن العمل لاحتلال العراق سابق لإدارة بوش، وهو خط استراتيجي رئيس في سياسات أمريكا حيال العالم، تابعه رؤساء مختلفون في كل شيء متفقون على الهدف: احتلال العراق، الذي احتل رأس قائمة الأولويات بعد سقوط السوفييت، خلال رئاسة بوش الأب، مروراً برئاسة كلينتون، الذي قام بخطوة حاسمة على الدرب إلى العراق هي احتلال البلقان، بعد تحييد أوروبا، القارة التي يحتل مكاناً مهماً فيها، وكانت مشكلاته سبباً مباشراً لنشوب الحرب العالمية الأولى بين دولها، وصولاً إلى جورج بوش الابن، الذي وجد الطريق سالكاً، فأرسل جيش الغزو والاحتلال، بحجة لم يعارضها يومئذ معظم “خبراء” المنطقة الغربيين: هي وجود أسلحة دمار شامل لدى بغداد، ستستخدمها حتما ضد “إسرائيل” المسكينة كان هذا كله قبل الاحتلال، فماذا وقع خلاله وبعده؟
– تم تفكيك العراق وأبقيت وحدته معلقة بخيط رفيع تستطيع أمريكا قطعه في أي وقت، وتم القضاء على جيشه وإدارته ودولته الموحدة، وتم تفتيت مجتمعه ورده قروناً إلى الوراء: إلى زمن الصراعات الطائفية والمذابح المذهبية، وتم وضع اليد على قراراته وخياراته عبر إعادة بناء أجهزته بطرق تناسب المحتل وبعض القوى الإقليمية . وأخيراً، تم وضع اليد على ثرواته وأمواله ونفطه، ووقع ربطه بشركات متعدية الجنسية امتهنت نهب البلدان النامية والفقيرة، والاستيلاء على خيراتها واستغلال شعوبها واضطهادها، والتحريض على استعمال القوة ضدها واختراقها .
– وتم كذلك تسليط طبقة سياسية على العراق لطالما تغنت بالديمقراطية وألزمت نفسها بها، وحين وصلت إلى السلطة جعلت الناس العاديين، في العراق وخارجه، يندمون على صدام حسين ونظامه، ويحنون إلى أيام كانوا لا يقتلون فيها كالذباب، ولا يختطف أولادهم ويغتصبون ويشوهون، ولا يقتل العراقي العادي على الهوية، ولا يموت جوعاً، لأن السلطة كانت تتكفل ببعض طعامه القليل ولكن الذي يقيه غائلة الموت . وتم كذلك إحداث شروخ في الجسد السياسي العراقي، تمنع تفاهم مكوناته على أي أمر عام أو مصلحة عليا، أفقدت القوم إيمانهم بوطنهم، وأجبرتهم على الفرار منه وإفراغه، وصار تشكيل حكومة تضم شتات الساسة أملاً عصياً على التحقيق، ولم يعد العراقي أخاً، بل أصبح ذئباً للعراقي، خاصة إن كان مختلفاً عنه في المذهب والإثنية والمصلحة والانتماء الحزبي .
هذه “الإنجازات”، التي ليست غير غيض من فيض، لا يصح أن تعتبر غلطة اقترفها شخص، ومن غير المقبول إطلاقاً نسبتها إلى معلومات غير صحيحة لدى أمريكا . إنها جريمة بكل معنى الكلمة: جريمة ضد الإنسانية وضد كل مواطن وفرد عراقي، سواء بقي في وطنه أو تركه إلى أرض الله الواسعة . من غير الجائز وصف ما وقع بكلمات تخفيفية ترى فيه غلطة، كأن موت مليون عراقي أمر يمكن محوه والاعتذار عنه بأية كلمات أو لغة، أو كأن وسم ما حدث بالغلطة يكفي لإعادة الروح إلى من فقدوها، والمنازل إلى من هدمت على رؤوسهم أو أخرجوا منها، والوطن إلى من طرد أو فرّ منه، والدولة إلى مواطنيها، وهؤلاء إلى دولتهم، أو كأن مشكلات العراق تحل بمجرد الإقرار بأن ما عاشه كان غلطة رجل .
لا يجوز بأي حال من الأحوال قبول ما يقوله “الخبراء” الغربيون والعرب حول غلطة بوش، ولا يحق لأحد التفكير في الإطار الذي تمليه، ويسمح باستمرار جريمة تتخذ كل يوم أشكالاً جديدة، منها تقسيم العراق، ونشوب حرب أهلية بين مذاهبه وإثنياته، وضياع ثرواته وأمواله . . . الخ . لا صفح عن الجريمة، حتى إن عوضت أمريكا العراق وشعبه عما أنزلته بهما من أذى، وغادرته إلى غير رجعة، وأقلعت عن التدخل في شؤونه، وتركته يتدبر أموره وطلبت غفرانه .
لا يستطيع الكلام محو الجرائم التي ارتكبت ضد العراق البارحة، وتلك التي قد ترتكب ضده وضد العرب غداً، ولا علاج لهذه الجرائم غير معاقبة من ارتكبوها وتقديمهم تعهدات دولية ملزمة بعدم تكرارها تحت أي ظرف وضد أي كان، لأي سبب كان .
ليس ما حدث للعراق غلطة، إنه جريمة دولة ونظام وطبقة سياسية . إذا لم نتعامل معه بهذه النظرة، فإننا نرتكب جريمة كبرى بحق أنفسنا، لأننا نجعل ارتكاب الجرائم القادمة ضدنا أمراً سهلاً ومقبولاً، مثلما جعلناها ممكنة وسهلة ضد العراق، بحجج وذرائع شتى، استغلتها أمريكا في العراق، ولكن ضدنا جميعاً . ليس ما حدث غلطة، ولا يجوز أن ننتظر ما سيحدث، لأنه سيقال لنا بعد وقوعه إنه كان غلطة اقترفها أوباما أو غيره، بناء على معلومات خاطئة . من يغلط بحق غيره يعاقب، ولا أقل من أن يعاقب العرب والعالم من أجرم بحق واحدة من أكثر دولهم أهميةً وقوةً وقدرةً على حماية وجودهم الوطني والقومي من دون ذنب اقترفته .
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى