الدور الإيراني والعلاقة الإيرانية ـ السّوريةهيثم مناع

هل سقطت أطروحات الكتلة الفارسية الشيعية؟

هيثم مناع
من التبسيط بمكان حصر حركة الشبيبة ومقهوري الكلمة بحيثيات الانتخابات الإيرانية والنسبة المئوية لكل مرشح، أو اعتبار القراءة الغربية للأحداث قراءة تستحق التأريخ أو الإسناد والاستناد، فقبل الوصول لصناديق الاقتراع، كانت شعارات فئات واسعة من سكان المدن متقدمة على مطالب وبرامج المرشحين.
وفي وقت كتب فيه العديد من “الخبراء والمختصين في الشأن الإيراني” في أوروبا والولايات المتحدة أن “انتخابات 12 يونيو/حزيران القادمة حدث بلا أهمية يتصارع فيه أبناء النظام”، شكلت الحملة الانتخابية فسحة تعبير في غاية الأهمية في وسط ضاقت فيه الهوامش التي عرفها المجتمع قبل وصول الرئيس أحمدي نجاد.
سواء كان ذلك بفعل تضخيم دور الخارج في رسم سياسة الداخل وصناعة الأحداث خارج الحدود، أو في انحياز الرئيس الإيراني لفئات واسعة همشتها انطلاقة الاقتصاد الإيراني بعد الحرب الإيرانية العراقية التي أنجبت أغنياء جددا وطبقات وسطى استثمرت رفض فكرة الشمولية في الاقتصاد عند الطبقة السياسية الحاكمة، وخاضت منذ يناير/كانون الثاني 1990 معركة لتحرير التجارة الخارجية والخصخصة المرتبطة بالولاء، الأمر الذي استفاد منه في أول من استفاد، أصحاب الثقة من رجال الأعمال وذوي القربى.
بهذا المعنى، مثلت ولاية أحمدي نجاد في الخطوط العامة، محاولة إعادة تواصل مع الفئات المهمشة والمبعدة عن البازار وتكنوقراط السلطة الذين شكلوا الكتلة الرئيسية للأغنياء الجدد.
فكما ينوه الاقتصادي رامين معتمد نجاد، لم ينج قطاع استثمار في إيران الجمهورية من محسوبية السلطة وتنوع هوامش الربح بما في ذلك المؤسسات الخيرية الكبيرة التي نشطت في الأعمال التجارية.
إلا أن محاولة استقطاب الأرياف الفقيرة والمهمشة لم تكن عامة، فقد تعرضت الأقليات القومية لحملات ملاحقة وقمع جعلت نخبها تختار مير حسين موسوي.
ورغم ذلك يمكن القول بلغة لم تعد دارجة البتة منذ سقوط جدار برلين، أن الحملة الانتخابية الأخيرة قد شهدت اصطفافا طبقيا عبرت عنه النسب العالية للمعارضة في شمالي طهران ومناطق القوة للقطاع الخاص في إيران وتصويت الطبقات الوسطى، في حين صوتت النسبة الأكبر من الجموع الفقيرة لنجاد باعتباره ساوى بين الناس في الأزمة الاقتصادية وضيق الحال.
لا يوجد بين المرشحين من تذكر له خطبة مدنية أو مأثرة في حقوق الإنسان، فجلّهم ساهم بشكل أو بآخر في إنتاج المنظومة وأفعالها، وإن كان من مأثرة طبيعية لهم، فهي التنوع الإثني بين الأذري موسوي والبختياري رضائي واللوري كروبي والفارسي نجاد.
إلا أن الذين خاضوا الحملة الانتخابية لم يكونوا فقط مديري الحملات المحترفين وفرق العمل المختصة، فقد دخلت على الخط جماعات تلقائية واسعة خاضت الحدث على طريقتها وبوسائلها الخاصة.
فالمجتمع الإيراني من أكثر مجتمعات المنطقة خبرة في إبداع وسائل مقاومته. ربما لأنه المجتمع المسلم الوحيد، تقريبا، الذي يضم في ثناياه مؤسسة دينية قوية متشعبة الوظائف ومتعددة وسائل التدخل في الحياة اليومية للناس، الأمر الذي خلق على مر الأيام، وسائل دفاع ذاتية عفوية تسمح للأفراد والجماعات بالتعايش مع هذا النمط الخاص من الشمولية.
وهنا يمكن القول دون أي مبالغة بأن أصوات التمرد ليست تلك التي تستعمل الشبكة العنكبوتية، وإن دخلت هذه الشبكة أخيرا طرفا في التعبئة والتوظيف والاحتواء بل والتشويش في إعطاء صورة عن الأحداث.
ما هي المعاني الأعمق لما حدث في إيران بالنسبة للوعي الجماعي العربي والدولي؟ وهل يمكن الاكتفاء بالاصطفاف هنا أو هناك وعدم استنباط دروس نافعة من التجربة الإيرانية في ذكراها الثلاثين، هذه التجربة التي لم تحل الحرب العراقية الإيرانية الضروس دون تمتعها بحركية داخلية سمحت بنجاح الرئيس خاتمي في أقل من 20 سنة على قيام الجمهورية، وطرحت على الطاولة قضية التغيير البنيوي لإيديولوجية السلطة بعد عشر سنوات وأثبتت للعالم، أن بإمكان أي شعب يعيش في ظل نظام إيديولوجي، علماني أو ديني، أن يمتلك كل مقومات التعددية السياسية وأن يعبر عنها مهما كانت المنظومة السياسية مغلقة ومُحكَمَة الإدارة.
استوقفتني نالا العودات عند أولى هذه الظواهر عندما قالت لي: “لم تعد إيران كتلة صماء من الملالي والحرس الثوري وأنصارهم. لقد اكتشفت المجتمعات الغربية في الشبيبة الإيرانية ديناميكية سياسية تفتقر لها في عقر دارها”.
ومهما كانت عملية صناعة صورة نمطية جديدة في المحافل الغربية للمعارضة الإيرانية تمر بمخابر الخوف من النووي الإيراني ومستقبل دور العمامات السوداء والموقف من الدولة العبرية، فإن المواطن العادي في أوروبا يكتشف يوما بعد يوم أن الاحتجاج والإصلاح والتغيير لا ينحصر في الدياسبورا السياسية الإيرانية، بل هو ابن ديناميكية داخلية سمحت خلال أقل من شهر، بولوج عشرات الآلاف في العمل السياسي والاحتجاجي.
على الصعيد العربي، الصورة مضطربة وغامضة، تتداخل فيها الصداقات والعداوات والتنميط، ولكن يمكن القول إننا أمام فرصة حقيقية لتكسير صورة الفارسي كعدو للعربي، والفارسية كأكبر أقلية مهيمنة ومتضامنة بالضرورة، والشيعي كابن عصبية تاريخية في السراء والضراء.
فأهم ما كتب في نقد ولاية الفقيه لا يعادل نقاش المقاهي والحسينيات والأقبية في إيران اليوم حول ولاية الأمة كبديل لولاية الفقيه. صورة “القائد خامنئي” تزعزعت في أكثر الأوساط محافظة، ووجود نائب له أصبح مطلبا مطروحا في المؤسسة الدينية وإلغاء المنصب من مطالب الشبيبة.
هذا الحراك العام في إيران يتصدى، مباشرة أو بشكل غير مباشر، لأطروحات “البيت الشيعي” التي روجت لها أحزاب طائفية مذهبية في العراق وعززتها إدارة بريمر. كذلك يتجاوز التجربة اللبنانية التي فشلت للأسف في الانتقال من متاريس السياسات الطائفية إلى مجتمع المواطنة.
هناك دروس هامة نستقيها من أحداث إيران:
– أولها المكانة المركزية للمجتمع في سيناريوهات التغيير.
– وثانيها فشل محاولات اختصار الوجود الإنساني بالخطر الخارجي. فكما أن وجود إدارة أميركية متطرفة ساهم في صعود خطاب راديكالي على الصعيد العالمي، فإن هزيمة الخطاب المتطرف الأميركي تتطلب أجندة جديدة للعمل السياسي قادرة على مواكبة المستجدات العالمية.
– وثالثها فكرة المصالح في العلاقة بين الدول، حيث يظهر للعيان أن القراءة الرسمية الغربية للأحداث قاسمها المشترك الأعلى ليس التحول الديمقراطي في البلاد بقدر ما هو إضعاف الدور الإيراني والدولة الإيرانية، في حين تجمع أطراف الصراع السياسي الداخلية على اعتبار تعزيز هذا الدور المنطلق الأساس لبرنامجها السياسي.
لكن أين العالم العربي من كل هذا؟ وهل يمكن في أوساط تكلست أنماط تفكيرها استيعاب ما يحدث واعتباره نقطة انعطاف في التعاطي مع إيران، بالمعاني الثقافية والمذهبية والإستراتيجية؟
في مصارعة تلفزيونية على قناة الجزيرة، أخرج أحد النقاد الليبراليين للحكومة الإيرانية ما في جعبته لنقد أحمدي نجاد، فإذا به يطلق حمم كراهية ضد كل ما هو إيراني بما في ذلك المزدكية (اليسارية) والثنوية (اليمينية) والفارسية الاستعلائية والمؤسسة الشيعية القادرة على تغليف كل أكاذيب الأرض.
ربما كانت لحظة استثارة، لكن في مثل هذه اللحظات يخرج الدفين من أعماق نفسٍ راكمت صورة نمطية عن شعوب وبلدان لا يمكن معها اكتشاف ما فيها من غنى وخصب ووعود مختلفة عن تلك المعدة سلفا في كتاب إيديولوجي محفوظ.
ورغم أن الحد الأدنى من المعرفة يكفي للدلالة على أن الحرب العراقية الإيرانية والدور الإيراني في العراق ولبنان والتحالفات الإيرانية في المنطقة كانت ومازالت إستراتيجيات جغرافية سياسية جديدة لم ترتسم معالمها لتداخل التحولات الدولية بالتحولات الإقليمية، فإن ثمة من يتخندق في وهم مشروع تشييع المسلمين أو الهيمنة الفارسية على الخليج والخطر الإيراني على الأمن الإقليمي.
ولعل من طرائف القدر، أن الإعلام العربي الناقد لإيران، لا يتوقف عن مدح الذين يأخذون على أحمدي نجاد تنازلاته السياسية البروتوكولية مع السعودية ودول الخليج وليس فقط مساعداته المالية لفصائل المقاومة!
لم تستطع المؤسسة الدينية الإيرانية تسويق التجربة الإيرانية بسبب السقف المذهبي والإيديولوجي الضيق الأفق، في حين يقدم لنا المجتمع الإيراني في كل يوم، أشكال احتجاج مبتكرة وتعبيرات جديدة للمقاومة المدنية وإصرارا عنيدا على التعدد السياسي والثقافي.
ولعل هذا الجانب من جوانب الجوار والتعاون والتكامل العربي الإيراني هو الجدير بالتغذية والمتابعة ومد الجسور.
لا شك في أن إيران تعيش اليوم على مفترق طرق حاسم، إما أن يعتبر الرئيس أحمدي نجاد أن نتائج الانتخابات الرسمية هي المحدد لصناعة القرار وتحديد سمات اللاعبين السياسيين المرخص لهم في البلاد، وهو الطريق الأكثر سهولة وابتذالا، أو أن تؤصل الأحداث المؤسسة المعارضة السياسية والمدنية، أي أن تدخل التجربة الإيرانية في عملية إفساح المجال للفضاء السياسي والمدني غير الحكومي بالوجود الفعلي في القانون والواقع.
في هذه الحالة يمكن أن يتم اندماج الشبيبة الرافضة في المجتمع السياسي في صيغته التعددية الجديدة، لأن هذه الصرخات الاحتجاجية لن يؤدي قمعها وتهميشها إلا إلى الدفع باتجاهات التطرف والهجرة أو الانعزال عن الشأن العام. بمعنى آخر، إن عدم الخروج بعبر ودروس من التجربة الحالية، يعني بكل بساطة العودة إلى هيكلية سياسية وأمنية غير قادرة على الاستجابة لاحتياجات الدولة والمجتمع.
من الصعب تصور نماذج تجديدية في نمط الحكم ومنظومة بناء الدولة ومفهوم المواطنة شرقي المتوسط دون فتح آفاق إقليمية جديدة للتبادل والتعاون والتنسيق بين القوى المدنية الإيرانية والتركية والعربية والكردية.
تصورات مستقبلية كهذه تتطلب التحرر من الصورة النمطية للمجتمعات الإيرانية، صورة الفارسي ابن القومية المعادية بنيويا، والمذهب الشيعي كحركة تبشيرية تهدف للسيطرة وتصدير الأنموذج والمعتقد. وتتطلب أيضا إعادة اكتشاف التجربة التركية منذ أتاتورك إلى أردوغان، وكذلك الانتقال من صورة العداوة بين الشعب الكردي والحكومات التي تتقاسم مصيره كعنصر تعبئة ضروري للأحزاب الكردية وعامل خوف من الأكراد تستعمله السلطات، إلى العلاقة بين شعوب المنطقة كأطراف متكافئة وأساسية لإعادة بناء المستقبل على أسس سليمة، وربما كانت صيحات الحرية أول تعبيراتها، والخروج من الوحدات السياسية الاقتصادية الصغيرة إلى تجمعات قادرة على الرد على تحديات النظام الاقتصادي العالمي المتأزم أول شروطها الموضوعية.
لكن هل يمكن رسم إستراتيجيات بعيدة المدى بتصورات وهياكل تقليدية ومتآكلة؟ أم أن جملة المآسي والأوجاع التي تشهدها المنطقة تشكل الرحم الضرورية لمخاض ولادات جديدة
الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى