اسرائيلسلامة كيلةقضية فلسطين

نعــي حــل الدولتيــن

سلامة كيلة
لا يقوم الموقف من حل الدولتين في فلسطين من رفض ما هو ممكن، بل من رفض الغرق في الأوهام حول حل غير ممكن. حيث يجب أن نعرف جيداً رؤية الدولة الصهيونية وممكنات التأثير الدولي على سياساتها، من أجل معرفة ممكنات «التنازل» عن جزء من فلسطين. ولقد كان الموقف من وهمية الحل ينطلق من التصور الذي حدده بنيامين نتنياهو مؤخراً، حيث أشار بوضوح شديد إلى زبدة الرؤية الصهيونية، التي كانت منذ البدء، وظلت بعدما قامت الدولة، وبعدما سيطرت على كل فلسطين. فأولاً أوضح أن «يهودا والسامرة» (التي هي الضفة الغربية) هو «الأماكن التي سار فيها إبراهيم، يعقوب، سليمان، يشعياهو ويرمياهو»، وهي «ليست أرضاً غريبة إنها أرض آبائنا». وبالتالي يؤكد أن «حقنا في إقامة دولتنا السيادية هنا في أرض إسرائيل ينبع من حقيقة بسيطة، وهي أن أرض إسرائيل هي وطن الشعب اليهودي، وهنا تبلورت هويتنا». هنا فلسطين هي «أرض إسرائيل» بما في ذلك الضفة الغربية. وثانياً أشار إلى أنه «في قلب الوطن اليهودي يعيش جمهور كبير من الفلسطينيين»، وبهذا أصبح الفلسطينيون ليسوا شعباً له تاريخ، ووطناً محتلا، بل أصبحوا جمهوراً يعيش على أرض «الشعب اليهودي». ومن هنا يجري البحث عن حل لهذا الجمهور.
إذاً، المشكلة الفلسطينية من هذه الزاوية هي مشكلة جمهور يعيش في «أرض إسرائيل»، وبالتالي يتحدد البحث في الصيغة التي يمكن أن يحكم هؤلاء أنفسهم. هذه الرؤية هي قاعدة التصور الذي يحكم كل الأحزاب في إسرائيل، كانت منذ سنة 1967 بعد احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة، والتي على ضوئها بدأ الاستيطان حسب سياسة «القضم المتدرج». وأيضاً نتجت اللاءات الخمس التي حكمت مجمل السياسة منذئذ. وهذه أساس في التعامل مع القضية برمتها، ولا يجوز أن يجري الشك في أنه يمكن تجاوزها عبر تحويل الرؤية ذاتها. حيث إن اعتبارها قاعدة الرؤية ينبع من أن المشروع الصهيوني انبنى على جوهر الفكرة التي كررها نتنياهو، أي ارتباط «الشعب اليهودي بأرض إسرائيل». لكنه ينبع من أن إمكانيات تأسيس دولة قابلة للحياة والسيطرة يفترض توسيع حدودها، وزيادة الكثافة «اليهودية» فيها. ولهذا تعتمد الدولة الصهيونية على تطوير هائل في قدراتها العسكرية يتجاوز حدود سيطرتها على فلسطين ذاتها. المسألة هنا بالتالي هي مسألة تكوين مركز مهيمن في إطار المنطقة، وهو الأمر الذي يفرض توسيع الحدود لا تقليصها، والسيطرة عبر القوة لا التعايش.
هذه بديهيات ربما، لكنها منسية، أو يجري تجاهلها تعلقاً بوهم. وبالتالي فإن التفكير بدولة فلسطينية وعاصمتها القدس على خلفية هذه الرؤية سيكون منطلقاً من الوهم. إن المرونة الممكنة التي تسمح بأن تتنازل الدولة الصهيونية عن الضفة الغربية (أي عن أرض إسرائيل وفق تلك الرؤية) ليست متوافرة، ولن تكون متوافرة، لأن هذا التنازل يوصل إلى «نهاية الصراع» الذي، لكي تنجح الرؤية الصهيونية، يجب أن يستمر. إن رؤية الدولة الصهيونية لدورها الإقليمي تفترض ذلك، كما تفترض التوسع أكثر مما تفترض الانكماش.
طبعاً يمكن القول إن المسألة لا تتعلق بـ«تنازل» الدولة الصهيونية بل تتعلق بالموقف الدولي الذي سيفرض عليها التنازل إحقاقاً لشرعية قررتها الأمم المتحدة. هذا أساس الرؤية التي حكمت المنظمات الفلسطينية ممثلة بمنظمة التحرير الفلسطينية حينما اتجهت إلى المفاوضات وطرحت خيار الدولة المستقلة في حدود سنة 1967. لكن رغم كل القرارات فإن الأمور لا تسير نحو التحقيق. وليس من تفكير في فرض الحل كما تمارس الولايات المتحدة حينما تقتضي مصالحها ذلك. فعدم المرونة الصهيونية يفرض أن يأتي الحل عبر الضغط أو القوة، وإذا رجعنا إلى خطاب باراك أوباما في القاهرة الذي جرى التعويل كثيراً على مضامينه، فإن ما قاله كان سلفه جورج بوش قد قال أقسى منه. فبوش هو الذي لم يطالب بحل الدولة الفلسطينية فقط بل حوّلها إلى رؤية (أو رؤيا)، رؤية من الله. ولقد طالب بوقف الاستيطان أكثر من مرة بالنبرة ذاتها التي طالب بها أوباما. وبالتالي هنا ليس من جديد، حيث النغمة ذاتها في التعامل مع الرفض الصهيوني. وهذا ليس مستغرباً إلا لدى الذين يراهنون على الولايات المتحدة، والذين فوجئوا بالمواقف الأميركية المرة تلو الأخرى دون أن يكلوا لأن لا خيار لديهم غير ذلك.
هذا الموقف الأميركي هو نتاج الاتساق في المصالح مع الدولة الصهيونية والوجود الصهيوني. لهذا يكون من الوهم المراهنة على دولة هي التي تدعم الرؤية الصهيونية تلك لأنها هي التي تريد ذلك في إطار مصالحها الاستراتيجية في المنطقة العربية. إذاً، نحن نراهن على من هو أساس المشكلة، حيث ما قيمة الدولة الصهيونية إذا تحوّلت في النهاية إلى «حل لتوطين جزء من اليهود» تحت شعارات إنسانية؟ الرأسمال لا يمتلك هذه الإنسانية، ولا يريدها لأنها لا تجلب له الربح الأعلى، أما الدولة الصهيونية «المقاتلة» فهي التي تؤسس لكل سيطرته على الوطن العربي، ومجمل الشرق الأوسط. دون هذه الحقيقة ستكون كل الحلول حلولا وهمية، يتبعها من يريدون أن يلعبوا أدواراً صغيرة في إطار المنظومة الإمبريالية، لكن دون أن يصلوا سوى إلى أن يكونوا أدوات صغيرة لدى الدولة الصهيونية.
لهذا علينا أن ننعى وهم حل الدولة الفلسطينية، وأن ندق على الرؤوس من أجل لفظ الوهم. رغم أن الشعب الفلسطيني يعي ذلك تماماً، يعي بالملموس الذي يتمظهر في كل الآلام والاضطهاد والفقر والقهر الذي يعيشه يومياً. إن التخلي عن معظم فلسطين من أجل «دولة مستقلة» في جزء منها لن يوجد «الدفع الكافي» لأن تقبل الدولة الصهيونية، ولا لأن تمارس الولايات المتحدة الضغط الكافي لتحقيقها، فهما معاً في وارد آخر. ولهذا علينا أن ننعى كذلك كل الذين ما زالوا يراهنون على هذا الحل عبر إعادة بناء المقاومة، وتطوير الصراع الذي يمارسه الشعب الفلسطيني يومياً.
المسألة في هذا الوضع لا تحتمل الحلول الوسط، لأن لا وجود لطرف إلا بإنهاء الطرف الآخر. أي لا إمكانية لحل في فلسطين يقوم على تقاسمها في دولتين، لأن المسألة ليست شكلية بل تتعلق بأن المحتل يعي أن وجوده لا يتثبت إلا عبر سيطرة كاملة على فلسطين ومحيطها. وبالتالي أنْ لا دولة «يهودية» في وضع تعايشي، ولا دولة من الأساس. وأن وجوده قائم على دوره لا على حله لمشكلة «اليهود». ربما كان خطاب نتنياهو لحظة في التفكير العميق، ليس لمن أصبح كومبرادوراً في السلطة الفلسطينية، بل لمن يريد فلسطين.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى