صفحات سوريةياسين الحاج صالح

الطائفية كحصيلة للفقر السياسي وكحدٍّ له

null

ياسين الحاج صالح

كان كاتب هذه السطور اقترح مفهوما لخط الفقر السياسي معلقا بين قدرتين: التجمع الطوعي المستقل، والتعبير الحر والعلني عن الرأي. وردّ الأولى إلى نازع الاحتشاد بين الناس دفعا لخطر داهم، والثانية إلى الصراخ تألما أو تنبيها إلى خطر. وكنت بينت في المقال ذاته، وقد نشر في هذه الصفحة (5/12/2004)، أن حد الفقر السياسي في مجتمعاتنا هو الدين، لأن هناك «تجمعا» طوعيا لا يسع أية سلطة مستبدة تفريقه هو الصلاة في المسجد، وهناك «رأي» علني لا يمكنها قمعه هو قراءة القرآن.

وينطبق هذا على الأديان والمذاهب الأخرى. فلا تتدخل السلطات عموما في انتظامها الديني، ولا تفرق حشدا في كنيسة أو محفل ديني، ولا تحول دون مؤمنين وممارساتهم الدينية المحضة.

فإذا تجاوزنا المظهر الشكلي والحقوقي لكل من التجمع الطوعي والرأي العلني، وفهمناهما كوجهين للتمكُّن السياسي لمجتمع المحكومين، بدا لنا البروز المتنامي للديني في المجال العام في بلداننا تمكّنا سياسيا بديلا. ونميل إلى رؤية ظهور التعبيرات والانتظامات تلك كمحاولة لاحتياز قسط من السياسة المحرمة، أو بناء ذوات سياسية فاعلة، تنتظم حول ما هو متاح من عتاد فكري ورمزي وتنظيمي. هذا حتى لو أن الظهورات هذه لا تكف عن إنكار صفتها السياسية.

ومن المفهوم أن ترسو مجتمعاتنا المفقرة سياسيا على بر الدين بقدر ما أن انتظامها كأمم سياسية، تتمثل في دول حديثة ومواطنين مستقلين، معاق أو ممنوع. فإذ تتعطل الدولة، الشكل الأحدث للانتظام السياسي، ينتظم الناس وفقا لشكل أقدم، حسب درس جورج بالاندييه في «الأنثروبولوجيا السياسية». بيد أن الانتظام الديني السياسي، أو المحفَّز سياسيا، يولد طوائف، أو «أمماً دينية»، وليس أمة سياسية، ولا حتى أمة دينية واحدة، على نحو ما كان الحال في القرون الوسطى. فإذا جُلِبت الأمة الدينية إلى عصرنا الحالي، ترجح أن تنشطر بلداننا إلى أمم دينية متعددة، أي إلى دول طوائف. وإذا نجحت السلطات الدينية في عزل مجتمعاتها عن العالم، فستنزع هذه إلى استنفار روابط أقدم حتى من الدين، أي العشائر والقبائل وروابط الدم، لمواجهة شروط إفقارها السياسي الجديدة. وما يجعل الطائفية قوية اليوم في مجتمعاتنا المفقرة سياسيا واقع الإفقار ذاته، وأهلية «الطوائف» لتحمله أكثر من غيرها.

الطوائف، بهذا المعنى، أشكال للمقاومة الاجتماعية وحيازة السياسة. بيد أن المقاومة بالطائفية (مثل المقاومة بالفساد)، استجابة مناسبة للاستبداد ذاته. فالطائفية تتكفل بتفريق المحكومين وتخويفهم من بعضهم، فيتعذر قيام مقومة موحدة له (والفساد يضع قطاعات واسعة من الجمهور في موقع المنتفعين ماديا والفاقدين للفضيلة العامة، فيخرجون من حياة الدولة، لكنهم يتمتعون بمواطنة كاملة في أممهم الدينية السياسية، أي الطوائف). وإذ تغدو الطائفية شكلا لا بديل عنه للمقاومة والتمكن السياسي، أي حلا أوحد للإفقار السياسي، فإنها تمسي ثقافة وشرعية ونمط تفكير (وهو ما ينطبق على «الفساد الصغير» أو الشعبي؛ فهو حل بدوره لمشكلة الإفقار المادي لشريحة الموظفين، ومع الزمن أضحى ثقافة وقيما مشرّعة ومثالا سلوكيا معترفا به).

وليس نزوع الانتظام الديني السياسي، الطائفية، إلى التوسع أدنى من غيره. فالطائفية، وإن كانت نتاج الإفقار السياسي، إلا أنها لا تلبث أن تكتسب غريزة نمو خاصة بها، مستقلة عن منشئها. وظهورها العلني يؤول تدريجيا إلى تطييف السياسة والمجال العام. فلا تبقى ثمة حيزات مستقلة عصية على التطييف، وتندفع «الطوائف» كروابط أهلية إلى أن تصبح طوائف، أي أمما دينية سياسية.

وينبغي ألا يكون التطييف العام مفاجئا. ففي النهاية تصوغ نظم سلطة مغلقة مجتمعاتها المحكومة على شاكلتها. فهي ذاتها، وبقدر ما يتقدم لديها نازع الحفاظ على سلطتها، أي احتكار الثروة السياسية، تجنح إلى إغلاق حلقات السلطة العليا وقصرها على موثوقيها. أي تمسي «طائفة»، حتى لو تحدر نافذو الكلمة فيها من «طوائف» متعددة بالمعنى الدارج لكلمة طائفة. هذا عدا أن ارتفاع الطلب على الثقة في الحلقات العليا قد يدفع إلى حصر الداخلين إليها بأصول دينية أو مذهبية، بل عائلية، ضيقة. لكن الأصل في ذلك هو الثقة من أجل السلطة. فنظمنا متمركزة حول السلطة وليس حول الطائفة. وليست مشاعر التضامن الطائفي غير أداة قد تكون مفيدة مثل غيرها لحماية السلطة.

وما كانت أولوية الحفاظ على السلطة مقترنة من كل بد بتجريد المحكومين من السياسة، أي المنازعة والتنظيم المستقل والقدرة السياسية، جنح هؤلاء إلى الاستحواذ على السياسة بطرق التفافية أهمها الدين، ثم روابط الدم. وإذ تبقى السلطات المستولية أكثر حساسية لمظان الانقلاب عليها، أي الجيش والأحزاب السياسية، وأضعف من أن تقمع الدين، فإن باب الاستحواذ على المجال العام يبقى مفتوحا أمام التشكيلات الدينية. والفراغ الذي تصنعه الأولى بحرصها على مصادرة السياسة لنفسها لا يمتلئ بغير الثانية التي لا تكف عن انتحال أقنعة غير سياسية.

بالنتيجة يرتسم ضرب من تقاسم السلطة العمومية، قائم بصور ونسب مختلفة في الدول العربية جميعا: السلطة السياسية في جهة، والسلطة الاجتماعية المبنية على أساس ديني في جهة أخرى. الأولى تختص بها نخبة تسلطية مغلقة، والثانية مجتمع طوائف يقوده رؤساؤها الدينيون. وأساس السلطة الأولى هو الإكراه، فيما أساس الثانية هو الدين.

ينذر هذا التطور بنوع من «الأقطعة» الاجتماعية، تستقر فيه السلطة العليا أو السيادة في يد «ملك» مطلق، بينما تختصم الإقطاعيات الاجتماعية على النفوذ والقرب منه. وهذا هو نموذج الدولة السلطانية في صيغة محدثة. وتنزع الأقطعة هذه إلى أن لا تترك حيزا مستقلا لغير أهل السلطة الإكراهية وأهل الطوائف. خارجهما ليس ثمة غير صعاليك أو منبوذين، يتعرضون لضغوطهما معا، وقد يستخدمون كـ»رجل مريض»، يجري إبقاؤه على قيد الحياة من أجل تثبيت توازنات القوة بين أهل الدولة وأهل الدين، أو تسوية الخلافات المحتملة بقضم متبادل لـ»أرضه المحايدة» الضيقة.

وإذا صح هذا التقدير فسيكون اتجاه التطور في مصلحة الإقطاعيات أو الطوائف وليس لمصلحة مقر السيادة العام. فمسار السنوات الأخيرة في مصر وسورية يوحي باستحواذ ديني بطيء، لكن متنام، على السياسة المحرمة، دون أن يقتضي ذلك بالضرورة تقاسم السلطة. فالأهم هو السيطرة على المجتمع وضمان هيمنة الرمزية الدينية في المجال العام. وعلى هذا النحو قد تكون الحصيلة الإجمالية لهذا المسار هي نكوص مجتمعاتنا من نظم سلطة مطلقة لم نتمكن من ضبطها إلى الإقطاعية الاجتماعية والسياسية.

والخلاصة أن الطائفية هي شكل للفساد السياسي أو الإثراء السياسي غير المشروع. ويبدو أن نظم الإفقار السياسي تتسامح مع هذا الشكل الذي يتكيف مع سلطانها ولا يعترض عليها، على نحو ما تتسامح كذلك مع الفساد المادي أو تقتضيه. هذا فوق أن مجتمعا مشروخا طائفيا هو القاعدة البشرية الأنسب لدوام احتكارها القدرة السياسية.

خاص – صفحات سورية –


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى