صفحات الناس

سورية تدبك على ايقاع السوق ‘الاجتماعي’

null
حسام عواد
تقول الحكاية إن جحا أراد مرةً أن يشغل أهل قريته عن السخرية منه فأقنعهم بأن ثمة مشهدا ً عظيما ً خلف النهر، فصدقه أهل قريته واتجهوا جميعا ً إلى النهر كي يشهدوا ما وراءه.. فلما رأى جحا أن الناس جميعا ذهبت وراء النهر قال لنفسه لأذهبن وأرى ما يحصل فلولا أن هناك مشهداً عجيباً لما ذهب كل هؤلاء الناس للفرجة.
بمنطق مماثل وأسلوب تفكير (جحوي) بامتياز هناك من يريد إقناعنا بأن تغييراً شاملا ًيحدث في بلدنا وأن تباشيره تلوح بقوة في القطاع الاقتصادي وأمام النهر هذه المرة وليس خلفه.
لقاءات اقتصادية.. ورشات عمل.. ندوات وحوارات.. وأطنان من المقررات والتوصيات، وبالطبع كمية كبيرة من الخطط المستوردة المعلبة والوصفات الجاهزة مسبقة الصنع منتهية الصلاحية.
للوهلة الأولى يبدو للمتابع أن هناك تغييرا ً حقيقيا ً في قطاعنا الاقتصادي تدل عليه الآلاف من الشركات الأجنبية والمصارف الخاصة وشركات التأمين والوكالات التجارية والاستثمارات، التي لم تنج منها حتى دورات المياه العامة ـ ومؤخراً تصريحات الشركات عن طرح أسهمها في البورصة السورية ـ التي لم تأت متأخرةً عن وقتها إلا بما يقارب الـ 30 عاماً. لكن بالضبط ما حقيقة ما يجري؟ ما حقيقة هذا الانفتاح وكيف يبدو المستقبل الاقتصادي وإلى أين تتجه البلاد والعباد؟ والأهم من سيحصد نتيجة هذا التغيير؟
تطالعنا الصحف الرسمية أو شبه الرسمية المسماة ‘مستقلة’ كل صباح بتصريحات السادة الوزراء والمسؤولين في القطاع الاقتصادي عن ارتفاع معدل النمو وتسارع قاطرة النمو الاقتصادي والزيادة في الناتج القومي الإجمالي وتحسن مستويات المعيشة، حتى لتحسب نفسك وأنت تقرأ الجريدة في الصباح قد استيقظت في لوكسمبورغ أو السويد إلى أن يرتطم رأسك بسقف ‘السرفيس’ ليؤكد لك أنك ما زلت هنا تلهث وراء ما يسد الرمق.
إلا أن هناك تقارير أخرى تشير إلى أن ما يجري تحت السطح يختلف كثيرا ً عما يجري فوقه فما حقيقة ما يجري خلف النهر؟
الفساد
تشير تقارير التنمية الصادرة عن الأمم المتحدة أن سورية اليوم تحتل المرتبة 117 من أصل 177 دولة يشملها التقرير في مجال مستوى المعيشة والتعليم والخدمات والرعاية الطبية والضمان الاجتماعي ومتوسط عمر الفرد.
ووفقا للتقرير الصادر عن منظمة الشفافية الدولية حول مكافحة الفساد – وهي منظمة غير حكومية تعمل بإشراف الأمم المتحدة- فإن سورية تحتل المرتبة 93 من أصل 163 دولة يشملها التقرير، والرابعة في المنطقة بالتساوي مع مصر والسعودية. ويقدر بأن الفساد يلتهم ما مقداره 44 ‘ من الناتج المحلي الإجمالي، أي ما يقارب 12 مليار دولار سنوياً، مما يعني (تخيلوا الرقم الناتج عن السنوات العدة الماضية على اعتبارها الفترة المعترف بها كفترة التطور والتحرير والتغيير والتحديث في الاقتصاد 12 مليار دولار ؟ = ؟؟؟؟؟؟؟؟).
علماً بأن هناك 2.2 مليون مواطن عاجزين عن تأمين حاجاتهم الأساسية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن خط الفقر الأعلى المقدر بمبلغ 2035 ليرة سورية للفرد الواحد يضم 5.3 مليون مواطن، أي ما يعادل مليون أسرة سورية تقريباً. فلا يمكن لأسرة مؤلفة من أربعة أشخاص أن تعيش على دخل واحد فقط، علماً بأن هذا هو حال قسم كبير من الأسر السورية.
أما في شجون الحديث عن سوق الاستثمار السوري ـ وهو ما يفترض أن يكون مفخرة فريقنا الاقتصادي ـ فسوف نجد أن سورية تحتل المرتبة 137 من أصل 181 دولة، وفقاً لتقارير البنك الدولي. أما القدرة التنافسية للاقتصاد السوري فإننا نحتل المرتبة 12 من 13 في المنطقة العربية متفوقين بذلك على أنفسنا كـ’سوريين’ أولاً وعلى موريتانيا التي احتلت المرتبة 13 ثانياً.
بطالة مرعبة
وبمجاراة كل هذه الأرقام الفلكية لا تزال سورية تعاني من أزمة بطالة مرعبة، لا يبدو أنها في طريقها إلى الحل في المدى المنظور ولا بعد عشرات السنوات من العمل بهذه الخطط، إذ أنه وفقاً لإحصائيات هيئة مكافحة البطالة في سورية وقياساً لما حققته الهيئة في السنوات الماضية، فهي تحتاج لما يقارب العشر سنوات كي تؤمن فرص عمل للمسجلين لديها ـ حتى تاريخه ـ هذا بغض النظر عن 400 ألف وافد جديد إلى سوق العمل سنوياً.
ومن باب أعطِ كل ذي حقٍ حقه، فإن وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل وتماشياً مع آليات التغيير قامت في الفترة الماضية بتبني معايير تجاري معايير الدول الاسكندنافية لتحديد مفهوم العاطلين عن العمل وهو أن كل من عمل لمدة لا تقل عن ثلاث ساعات في أسبوع عمل واحد، أي ستة أيام، لا يعتبر من العاطلين عن العمل ووفقا لهذا المقياس فإن عمال الفاعل الذين ألف السوريون رؤيتهم في الساحات العامة مع عدتهم المؤلفة من رفش وصفيحة لصب البيتون يعتبرون من العاملين وربما من أوائل المستفيدين من عرس الانفتاح الاقتصادي الذي تعيشه جماهير شعبنا اليوم. علما بان بعض الدراسات تقول بأن تكلفة صناعة فرصة العمل في سورية تتراوح بين 18 إلى 22 ألف دولار وهو يعتبر من أخفض التكاليف عالمياً. (لا تراجع حساب الـ 12 مليار ؟ = ؟؟؟؟؟).
إذن من المستفيد من النمو الاقتصادي الذي تشهده سورية اليوم، ومن سيجلس كاليتيم على قارعة الطرقات متأملاً الناس وهم يشترون ما يحرم منه؟.
أستطيع أن أجزم أنه بالحد الأدنى ليس أنا ولا الكثير منكم سننضوي في صفوف المستفيدين وستبقى مقولة (لا حظ لي منه إلا لذة النظر) شعارنا في هذه المرحلة والمراحل اللاحقة بإذن من بيده الإذن. فمن يا تراه الواحد الذي سيأكل حصة العشرة ومن هي العشرة التي ستنام من دون عشاء اليوم وربما غداً؟
قد يكون مقبولاً أن ينصب مفهوم التنمية على ازدياد مستوى الدخل وارتفاع معدلات النمو لو كانت سورية إحدى رأسماليات الغرب الأوروبي، أما والـحال ما هو عليه فـَ ؟!
أم أن مفهوم التنمية والنمو الاقتصادي ينصب على مدى تحسن مستوى معيشة العاملين بأجر وازدياد دعم الطبقات الوسطى، التي أصبح من نافلة القول إن هناك محاولات متعمدة للقضاء على القلة القليلة المتبقية منها.
على صعيدٍ آخر ولئلا نتهم برؤية النصف الفارغ من الكأس ـ على اعتبارنا شعباً محباً لـ ‘النقّ’ ـ تفاجئك تصريحات يطلقها مسؤولون من ضمن التشكيلة الأساسية لطباخي الانفتاح، فإن هناك من يشير إلى تراجع دائم في مؤشر عدالة توزيع الدخل وهو ما لا يحتاج أي منا لمعرفة عميقة كي يراه بأم عينه في كل لحظة. وطبعا ً يشير هؤلاء إلى أن مستوى التضخم يصل إلى 12 ‘ وأن المستوى العام للأسعار في ازدياد مستمر يتجاوز الزيادة في الدخل.. مما يعني أن الحديث عن ارتفاع مستوى المعيشة بالنسبة لنا نحن على الأقل يبقى (حديث خرافةٍ يا أم عمرو).
(راجع تصريحات الدردري في ندوة الثلاثاء الاقتصادي بتاريخ 3 شباط/فبراير – 2009).
ربما يشير بعض المتذاكين إلى أن ما يحصل لدينا اليوم هو ما أفرز في أوروبا القرن التاسع عشر دولة التكافل الاجتماعي متناسياً أن تلك التغييرات في أوروبا ترافقت مع قرار سياسي بالدرجة الأولى وفي ظل تحركات نقابية وعمالية حقيقية لا يبدو أننا مقبلون على ما يشبهها، ومتعامياً عن أننا اليوم نعيش في القرن الحادي والعشرين.
القادم اصعب
وفق ما ورد سابقا ً وعلى بساطته وعدم غوصه في التفاصيل، يبدو أن ما هو آتٍ أصعب وأنه يتجاوز ما مضى وأننا مقبلون على أيام أشد صعوبة، وخصوصاً أن سياسات الانفتاح الاقتصادي لن تستطيع إبقاءنا بعيداً عن تأثيرات الأزمة المالية العالمية والتي بدأت آثارها (السلبية فقط) تظهر في السذوق التجاري، كالكساد وانخفاض مستويات الدخل وموجات تسريح العاملين. أخشى ما أخشاه أن يكون كل ما يحصل لا يعدو كونه ‘حنجلةً’ فأول الرقص حنجلة وينتظرنا من الهز والخلع والرقص الشيء الكثير.

‘ كاتب سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى