منهل السراج

الحلقة السادسة لرواية “كما ينبغي لنهر”

null
منهل السراج

هناك في المكان الذي لا يتسع لأكثر من خمسين رأساً مزدحمين، كان يحشى فيه مئتان، ينامون تسييفاً  “راس وعقب”، كتلاً لحمية، كانت يوماً رجالاً. سوف يقع برأس أي واحد منهم أو أكثر من واحد لقب المعلّم، بفتح العين وشد اللام وفتحها. المعَلَّم هو صاحب العلامة، والعلامة هي قرار ذلك العسكري الذي تصاعد في رأسه، يطلقه على ضحيته، إن تحركت، أو تنفست، أو حتى إن لم تفعل أي شيء، كم يشتاق العسكري للقاء المعَلَّم. يبدأ وجبته الشهية في فترة التنفس الصباحية للكتل اللحمية، بسلسلة من الشتائم كمقبلات، ثم يهوي بسوطه الحديدي على جسد صاحب العلامة ثم بالعصا الحديدية. بعد ذلك يرمي السلاحين، ليلتهمه بيديه، وهو يكز على أسنانه من اللذة. بعد أن يمل من يديه، سوف يسقطه أرضاً، يدعسه بحذائه الحديدي، وعندما يحس بعظام المعَلَّم تتكسر تحت قدميه، يصل إلى ذروته، ويتركه يزحف نحو باب المكان الذي تتزاحم عنده الكتل اللحمية التي تنفست حتى الاختناق. ستسمح هذه الكتل للمعلَّم أولاً بالدخول متحملين سوطاً إضافياً على الظهر أو على الرأس أو على الأضلاع. سوف يستلقي المعَلَّم منهنهاً في مكانه المعتاد يعاني من الأوجاع الشديدة حتى يحين الليل، عندها سيجلس العسكري نفسه القرفصاء عند النافذة العلوية “الشرّاقة”، كي يراقب الضحية المقبلة. يا لسوء حظ من يغفو، ويتقلب في نومه أو يتحرك أو يتنفس، فسوف يأخذ لقب المعلَّم كي يُجرّ في الصباح إلى جلاده ويؤكل. سيُجرّ المعلَّمَ إلى العسكري معلَّمٌ آخر كان دوره في الحراسة. ماذا يحرس؟ لا شيء، إنهم ميتون.
لكن في كل ليلة يوجد حارس منهم عليهم يطلق عليه لقب “السهّير”، يقف عند دورة المياه التي يسمونها ” البخشه”، يحبس نفَسَه مع النائمين الواضعين “الطماشة”  مترقباً بكل شعرة من جسده شهوة الجالس القرفصاء عند النافذة العلوية. لن يتجرأ على رفع وجهه ورؤية فخذي العسكري ملتصقتين بحذائه الحديدي، كمن يود أن يبصق فضلاته في وجوههم،  أما “السهّير” فلن يتجرأ حتى على كرهه.
كان أحمد سهّير الليلة. وقف عند حائط “البخشه” يستنشق هواء الفضلات حابساً تنفسه، ليس قرفاً، بل خوفاً. كان أحد تلك الكتل النائمة المعصوبة العينين يعاني من ضيق شديد في التنفس، لا بد أن أزمة القلب داهمته، سيحتاج لكأس البلاستيك كي يضغط بكل ألمه على صدره حتى تنتهي الأزمة، هكذا اعتاد أن يعالج جلطة قلبه. تحرك، غصباً عنه تحرك، كان الوجع أكبر من الخوف. رآه العسكري من نافذة المهجع. صرخ:
ـ يا كلب يا حارس علِّم هذا واجلبه لي غداً وقت التنفس.
ـ سيدي. إنه يعاني من أزمة قلبية.
ـ وتدافع عنه يا كلب؟ يا .. يا.. ثم بعد بصقة سخية:
ـ علِّم نفسك وعلِّمه يا “شرموط”.
في التنفس الصباحي، مات المعَلَّم الأول من الضربة الأولى لأنهم جروه من أزمته القلبية التي لم تكن قد انتهت، أما أحمد، فرغم الأحزمة التي لفّ جسمه بها من خرق عتيقة جمعوها وساعدوه في إحكامها، كوقاية تخفف ألم التعذيب عن المعلَّم، ورغم مئة آية قرأها ونفخ بها فقد أعيد إلى مكانه ليقضي عامين مشلولاً. ثم بعناية ربه وحنان الضحايا شفي، بات يجر قدماً ويدوس الأخرى بصعوبة.
الإيقاظ في السادسة، الفطور في الثامنة، بضع حبات من الزيتون يتقاسمونها بالحبة، فإن زاد عدد منها عن القسمة بالتساوي، فسوف يخبأ من أجل اليوم التالي، ليس لأنهم شبعوا، بل لأنهم لم يشبعوا أبداً. ولكي تكون القسمة متساوية، يأتي الشاي في جاط من البلاستيك يسكب بالتساوي على القصعات، ما القصعة؟ هي وعاء طعام وهي أيضاً المجموعة المتشاركة عليه والتي يمكن أن تضم سبعة أو ثمانية أو تسعة. يسكب الشاي بالعدل في الكؤوس الممدودة التي تدعى “الكار”: “مرطبانات” الطحينة الفارغة، مقصوصة الفم، منها تصنع الملاعق أيضاً، تسوى أطرافها بالنار وتقسّى باليد.
أما الحلاقة، فغضب لا يغضبه رب اليهود، يُجرون من مهاجعهم بالرفس وبالدعس، يصطفون أمام مجموعة من السجناء القضائيين الذي هم في الغالب قتلة محكومون بالمؤبد، لكنهم محسودون بالمقارنة مع هؤلاء الراكعين أمامهم والذين بعد سنين السجن الطويلة لايعرفون ماهو سبب حبسهم؟، بعيون مغمضة ورؤوس تنكسها العصي إلى مستوى سيقان هؤلاء القضائيين الذين أُحضروا كي يحلقوا لهم. يصرخون بهم، يرفسونهم، يتناولون الطاسات التي بجانبهم، والتي تحتوي على رغوة قذرة جداً، حاملين في أيديهم فرشاة وشفرة غير صالحة إلا للجروح والتشطيب.
بسرعة، بغضب، بحقد، يضربونهم بأدواتهم على وجوههم. كل واحد من هؤلاء الحلاقين يرفس الراكع أمامه إلى الحلاق الذي يجاوره.

دخلت فطمة تطمئن على نوم أخيها أحمد الذي سيعاد تسجيله حياً بعد توفيته في دائرة النفوس وفي دفاتر المختار المستعجل. وجدته على حافة السرير كحد السيف، متشنجاً صلباً كلوح معدني:
“إنه نائم”.
فكرت أن تنام أيضاً، لكنها العاشرة صباحاً وعليها تهيئة غداء أخيها العائد.
“من المؤكد سيأتي أكثر من ضيف، ليعرض مساعدته التي يستطيع، ويسأل أحمد إن كان قد صادف فقيدهم”.
ستعد مقلوبة بالباذنجان، لديها لحمة “راس العصفور”، والباذنجان طازج. يمكنها أن تفرم صحن سلطة صيفية، وصحناً من اللبن بالخيار. تناولت المقلاة من الخزانة الصغيرة، نقعت خمسة كؤوس من الرز، قشرت الباذنجان، أخرجت مواد السلطة من الثلاجة التي عادة تكون ممتلئة. يقول عبد الحكيم عنها حين يصدر صوت محركها في شوط الراحة:
ـ تجشأت ثلاجة فطمة.
هّمت أن تتناول بصلة من السلة الموضوعة أسفل درج السقيفة، قفز الجرذ. في هذه المرة لم يختبئ في مكان ما، البالوعة، أو تحت الدرج، أسفل الكرسي أو الطاولة، بل وقف في منتصف المسافة بينها وبين فرن الغاز، رفع قائمتيه الأماميتين، حاول أن يستطيل بقامته الزاحفة، رافعاً وجهه في وجه فطمة. نظرت إليه بدورها بعينين ثابتتين ولم تتحرك من مكانها. اتجه إلى بالوعة خزانة الزبالة واختفى. سكبت خمسين سطلاً من الماء الممزوج بالكاز على أرض المطبخ ودرج السقيفة بوجه محتقن وصامت:
“والله الزمان زمانك”.
استيقظت من غليانها على صوت أخيها الذي لم ينم أكثر من ساعة، يسألها عن العملة التي يتداولونها في السوق. جلس على الدرجة الأولى من سلم السقيفة، كأي طفل ينوي أن لا يترك أمه في مطبخها.
ـ لم تخبرني “خيو” كيف أوصلوك إلى الحارة؟.
ـ أعطوا كل سجين مئة ليرة أجرة طريق، لكن عندما وصل الدور إلي نفدت النقود منهم، سكتُّ، لم أقل كلمة واحدة، خشيت أن يؤجلوا الإفراج عني بسبب نفاد النقود، أنقذنا قول أحدهم: سيجدون كثيرين يتبرعون بإيصالهم إلى بيوتهم.
أوصلونا إلى كاراج انطلاق الباصات.
قال مقطباً:
ـ صدمتني هذه الباصات الحديثة، هائلة، صاج ملون ومصقول، ألواح بلور تعكس الأخيلة لماعة، نظيفة، ماسحات الزجاج، الأبواب التي تفتح آلياً، مساند المقاعد الملبسة بقطع قماشية بيضاء، تبدو من وراء الزجاج أشخاصاً ارتدوا صداريهم وجلسوا بانتظام. أحسست أن هذه العجلات الضخمة ستدهسني، كنت مثل دودة. قلت لمن معي: كأننا خراف متشابهة. فقال: مع ذلك فإننا قريباً سننام على فراش واسع، ونغسل وجوهنا بالصابون ونترك شعرنا ينبت على هواه، لنقصه على هوانا.
تبرع سائق، كان يقف بالمصادفة قرب الباص، بتوصيلهما هو ورفيقيه في سيارته الصفراء. صعدا في المقعد الخلفي، والعيون مشدودة إلى ماحل بالدنيا والناس. أمضى السائق الطريق كله يثرثر مع من كان يجلس بجواره، ولايفتأ يستدير إلى العائدين من المجهول، يقهقه بسبب وبلا سبب. كان ظهر أحمد يؤلمه بشدة وكان زميله يرتجف، رغم الحر، ويتساءل، كل حين:
ـ ألم نصل بعد؟.
ـ لم يبق أمامنا الكثير. قال السائق ضاحكاً.
قبل الوصول بدقائق توقف وقال متخذاً مظهراً جدياً:
ـ أنا مكلّف بتوصيلكما إلى المدرسة التي انطلقتما منها أولاً أيام الأحداث.
صدق العائدان المزحة، وسلما أمريهما للرب، فمن يقضي هناك كل هذه السنين لا يستغرب أن يرجع ويقضي ماتبقى من عمره أيضاً هناك. قال أحمد لنفسه:
“مازال هناك الكثير ولن نزيدهم بعودتنا ولم ننقصهم بخروجنا”.
أما الآخر فقد أغمي عليه.
قهقه السائق كثيراً وقال مداعباً:
ـ كنت أمزح معكم. بعد دقائق تصلون إلى مدينتكم وأهلكم.
قال أحمد لأخته:
ـ ماالذي حلّ بالناس؟ وهل أمثالنا نتحمل مزاحاً؟.

تجاوز أحمد حديثه، وهو يجول بعينيه زوايا البيت مشيراً إلى ركن:
ـ كنت ألعب الورق مع ابن عمي، كان يسألنا ونجيبه بنكتة: شيء أسود وقلبه أخضر، نجيبه: “زلفو آكل خبيزة “. أتذكرين زلفو اللحام الأسود؟.
هزت فطمة رأسها ثم سألت:
ـ وماذا كنتم تأكلون هناك؟.
ـ برغلاً مسلوقاً وأحياناً نصف بيضة أوبضع زيتونات نتقاسمها بالتساوي وقد يحدث شجار طويل عريض على زيتونة واحدة.
صمت للحظات غامت فيها عيناه.

أوكلوا إليه مهمة إحصاء الخبز ثم توزيعه مع بعض الشباب، كانت مهمة صعبة، أي خطأ في العد يعني عقاباً يصل حد القتل أو الضرب المبرح، لكن في الوقت نفسه تتيح له التحرك بحرية بين المهاجع.
استيقظ أحمد ليستمع إلى منامات أقرانه في المهجع، قال أحدهم:
ـ رأيتك على بساط طائراً مرتاحاً ومبسوطاً، لكن فجأة جاءك أبوشامة وسحب البساط، فهويت.
أدرك أحمد، من خلال تفسيره الخاص، أن هذه النعمة التي كان حاصلاً عليها سيحرم منها: توزيع الخبز والخروج في الممرات والباحات بين المهاجع. أحد الموزعين المساعدين لمح حارساً يخاف منه كثيراً. كان كلما صادفه في طريقه يضربه بحذائه تحت بطنه. فلكي ينجو من ضربة اليوم، رمى ربطات الخبز التي بيده عند المهجع الذي يسمى “جديد” وهرب كي ينجو من حصة الضرب، مما جعل أهل “جديد” يأخذون الحصة الأكبر. ولكن أحمد من نال الجزاء الرهيب. ضربوه بشدة، وارتمى شهوراً.
ـ كان المسكين الذي تسبب لي بهذا المصاب ينظر إلي ويبكي.

عند النوم تفرش العوازل التي هي ربع بطانية مخيط عليها قطعة من قماش الشوادر، لكل منهم مساحة بعرض شبر ونصف.. قضى أحمد سنين بركبتين مطويتين وظهر مقوس.
عندما تنتهي ساعة الحلاقة الأسبوعية تأتي “نعيماً” ونعيماً تعني صفعتين على الخدين. لكن ليس بأصابع الكف بل بكرباج سميك عرضه بضع سنتيمترات وطوله ماشاء العسكري له، هو لم يكن كرباجاً في الأصل، إنه سير نقل الحركة في الدبابة. بعد “نعيماً” يعودون إلى مهجعهم الذي يسمى “جديد حنفية” كي يميز عن الجديد الآخر، بسبب وجود حنفية بجانب الباب الحديدي الثقيل، يرتمون على بعضهم كخراف.

ـ لكن الخروف منذ الأزل خروف، أما نحن فلم نكن خرافاً، هناك، تمنَّينا لوكنا خرافاً، بل نملاً  أوأي حشرة حقيرة. كنت أحلم بمهجع الجرب لأن لديه طعام أكثر. لا لم نكن نحلم بالحرية أونهاية للحجز، كنا نحلم أن ينسونا. كنت أقرأ القرآن وقد حفظته. ثم بعد صمت، قال بتردد:
ـ قتل أحدنا نفسه، صرخ وهوفي المهجع بقوة خارقة، إلى أن جاء العسكري إليه وفتح الباب، فدفعه السجين وركض. أسرع وسط دهشة الجميع، حتى كاد أن يقطع الباحات الثلاث، فما كان من الحراس الواقفين دائماً على الأسطحة العليا إلا أن رشّوه بالرصاص، ارتاح، أدركنا أنه أراد الانتحار. ربما جن لأنه كفر بكل شيء، صاح بنا أن نكف عن قراءة القرآن، أستغفر الله، يومها أتممنا ختمة عليه، ودعونا الله أن يغفر له.
ـ رحمة الله واسعة.
ـ كان ” كار” الرجل وملعقته ينتظرانه. سمحنا له بقضاء ليلته السابقة في “البخشه”، بعد أن غسلناها له مع أنه لم يكن دوره في تلك الليلة. فالنوم في “البخشه” نعمة، لأن من ينام فيها يستطيع أن يفرد أطرافه على كيفه، كنا نغسل “بيت الأدب” ونمد قماش الشادر وننام.
سكت أحمد قليلاً، ثم هبّ من مكانه، ركع على ركبتيه أمام فطمة، يداه مشدودتان بقوة خلف ظهره، رأسه منكس، وعيناه مغمضتان.
ـ هكذا كانوا يحلقون لنا وجوهنا ورؤوسنا.
أشاحت بوجهها ماسحة على رأسه:
ـ قم
سوف تراقب كل ما يفعل أخوها العائد في يومه، فضلاته تشبه فضلات صيصان الجيران عندما يهربون في أحيان إلى بيتها، فيوسخون أرض الدار بعصارات صفراء واهنة، رائحته خفيفة غريبة ومريضة، فضلات عينيه ومخاطه، غازات بطنه، رائحة فمه. وهو رغم حمامه اليومي الذي تصر عليه، ورغم العلاج الذي يجبر عليه كل ساعة، فإنه يتقدم ببطء شديد.
كانت جالسة على حوض الزرع خلف الباب الكبير، تسوي بأصابعها أوراق الهوى الناعم، تقلب التربة بقطعة خشب، شاردة عما تؤديه. أدارت لميس مفتاحها، سمعتها تداعب لميا:
ـ يا لميا لو رأى بازوليني عينيك التائهتين على الجسر بين الضفتين فسوف يخلّد وجهك في صالات السينما العالمية.
جلست بجانب خالتها تعبث بحقيبة يدها المليئة:
ـ ماذا بك؟ أنت متوعكة، وجهك مرهق، ستقولين لا تقلقي، خالتي، جرّبي أن تشركيني بهمك.
ـ حبيبتي عيشي حياتك، لا شأن لك بهمومنا، مازلت صغيرة ونحن لا نريد أن تعيشوا ما عشناه.
ـ لماذا تصرّون على أننا جيل غير مسؤول، جربي مرة أن تضعي ثقتك بي.
نظرت فطمة في وجه الصبية غير مصدقة، وعادت تنكش التربة.
ـ أين أمك؟.
ـ تعرفين.. إما في السوق، أوعلى الهاتف، أوبزيارة إحدى رفيقاتها.. بصراحة يا خالتي أتمنى لو أنك مثل أمي. أجدها سعيدة.
جلستا في صمت طويل قطعته لميس:
ـ أين خالي أحمد.
ـ في غرفة نذير.
ـ متى أرى نذيراً هذا؟.
ـ أحمد يتغير.
ـ دعيه يتغير أولا يتغير، لوأنك تستمعين لنصائح فارس لاستطعت العيش بشكل مريح.
دوار هائل فاجأ فطمة. سقطت، وانتزعت النبتة التي كانت متشبثة بها. صرخت لميس:
ـ وقعت خالتي.
حاولت أن تنهضها. قالت فطمة بصوت واهن:
ـ دعيني قليلاً، أريد أن أتقيأ.
لم تكد تكمل جملتها حتى راحت تتقيأ فوق تراب الحوض. تحاملت على نفسها واتجهت إلى الصنبور القريب، غسلت وجهها ويديها فيما هرعت الصبية لتحضر لها منشفة. أهالت فطمة التراب على إقيائها وأعادت غرز العود الذي انتزعته في إغمائها.

بات أحمد يمارس عادات جديدة تفاجئها. فما إن تمالك صحته في جو الخدمة الممتازة الذي هيأته، حتى تناسى غيابه، وتآلف مع المحيط، رغم ندرة خروجه من البيت واكتفائه بالجلوس حول البحرة واستقبال المهنئين الذين يبالغون في إكبار بطولته. ينادي فطمة بلهجة متعالية:
ـ فطمة.. سخني الحمام. ـ فطمة.. الماء ساخن جداً. ـ لماذا تقللين السكر في الشاي ـ لا أريد أن تستقبلي أحداً من ضيوفك ـ كفّي عن العناية بلميا ـ لا تفتحي الباب الكبير أمام الرايح والعائد ـ لا تسرفي ـ ألم يكن بالإمكان أن تصبري عند زوجك بدل عيشتك هكذا؟ ما هذه العادات؟ إطعام أبو رحمون ولميا وأعمامي، يعني ماذا ينقصهم؟  ـ يجب أن نقطع شجرة النارنج، ونخفف من امتداد النخلة والدالية..

كانت فطمة جالسة ترشف قهوتها الصباحية على مهل، تستمع لأغنية من راديو في حضنها، عندما دخل مسرعاً:
ـ أريد نقل صندوق الجدة إلى الطابق العلوي.
ردت بغضب:
ـ لا يمكن أن أسمح بتغيير في هذا البيت حتى أموت.
ـ من ولّاك على كل شيء في هذا البيت؟.
صمتت. صعد إلى غرفته، وصفق الباب. شعرت بدوار وألم شديد في عنقها، ربما غصة. لم تدر إلا ولميس فوق رأسها:
ـ خالتي ماذا بك؟ أرجوك، منذ أيام  تهاجمك نوبات من الإغماء، أنت ترفضين إحضار الطبيب، أشعر أنك تخفين أمراً عنا.
ضمتها فطمة وقبلتها:
ـ لاتكترثي.
ثم طلبت منها أن تحضر كتاباً تقرأانه معاً.

يأبى أحمد العمل بمهنة أبيها في التخريج، يأبى أيضاً بيع القماش مع عميه جميل وعبد الحكيم. يطلب الزواج بخجل.
انغمست فطمة مع عائلتها في تأمين العمل المناسب، والزوجة.
كثير من تجار المدينة الذين استعادوا أعمالهم متصالحين كل المصالحة مع أبو شامة ورجاله، عرضوا خدماتهم في تشغيل أحمد وأمثاله، وإن لم يقم هؤلاء العائدون بعمل فعلي!
احتضنوهم، بلا بطاقة، ولاشهادة، إلا الاسم الذي احتفظوا به، وبعضاً من وصايا الجدة التي ظلت عالقة في ضمائرهم:
ـ تشغيل هؤلاء بركة، وسوف يرسل الله رزقهم بل وأكثر.
أو لعل مساعدتهم كانت لشعور بالذنب، فالغائبون دفعوا الأثمان عن الذين نجوا.
بعد استلام أحمد عمله الجديد، صارت نساء العيلة عصر كل يوم يتناولن القهوة حول البحرة. يقدمن اقتراحاتهن المتناقضة، المتفقة، في اختيار زوجة لأحمد العائد، فمنهن من تفضلها عازبة صغيرة، ومنهن من تفضلها متعلمة وإن تجاوزت الثلاثين، منهن من تقترح ابنة أقارب زوجها، كي تبيض وجهها مع زوجها وبيت حميها، والكنة زوجة الخال أو العم أو الأخ، تدير دفة الحديث دالّة على أخت أوابنة أخت تتمنى أن يتذكروها، في حين تمضي فطمة في النقاش، سعيدة بهذه الفوضى، آملة قدوم أطفال جدد إلى البيت الكبير.
كل محاولات الأخوات والكنات باءت بالفشل. عاد أحمد من عمله ليخبر فطمة أن معلمه عرض عليه ابنته الوسطى ذات الشكل المقبول لتكون زوجة له. فالبنت الكبرى تزوجت إلى خارج البلاد لأنها جميلة، أما الصغرى الناعمة فيريدها ابن عمها. بقيت الوسطى لتكون بحكمة ربانية من نصيب أحمد. صحيح أنها تجاوزت الثلاثين لكنها تناسبه: “ست بيت”، طبخ وترتيب، “من تم ساكت”، طيعة. تكوي الثياب جيداً. هكذا أخبر أحمد أخته بالزوجة المختارة. أما فطمة فسرعان ما وافقت وباركت، وأدركت أن أبا الفتاة الميسور الحال سيعطيها شقة تسكن فيها.
“سأبقى في البيت الكبير وحدي، كأن أحمد لم يعد”.
سارت قضية زواجه كأي زواج آخر. اختلف أهل العريس وأهل العروس على تفاصيل عديدة، منها برنامج الخطبة والعرس. قالت أم العروس بنزق:
ـ نحن تكلفنا الكثير من المال من أجل إعداد جهاز العروس من “التفاصيل”  وقمصان النوم.. فعلى أهل العريس أن يمدوا الجهاز.
تريد عرض الجهاز الثمين أمام النسوة، ثياب السهرة وقمصان النوم، ومعطفي الشتاء والصيف، وبقجة العريس التي تتضمن بيجامتين و”روبي ديشامبر” للعريس وأبي العريس الذي استعيض عنه بأكبر شخص باق من العيلة. كذلك خف للعريس، قطعة قماش لأم العريس المتمثلة بفطمة.
ترتيب الأشياء في غرفة النوم يكون بحفل يليق بالعروس، سفرة وزغاريد، والذي منه..
جهزوا طاولة بلغ طولها ثمانية أمتار، اصطفت عليها الأطعمة المتنافسة، من منسف الخروف، والكبب بأنواعها، والتبولة، واليالنجي باليبرق والباذنجان، والسمبوسك والفطائر وغيرها من المأكولات المالحة والدسمة، بالإضافة إلى سلسلة من الحلويات المحلية، شعيبيات، بقلاوة، كنافة، كلها بالسمنة العربية التي تلذع اللسان والموضوعة نيئة من دون كيّ، كي تظهر بشكل أوضح لمن لم يميز.
أمام حيرة العريس والعروس وقلة حيلتهما، نفّذت نساء العائلة طلبات أم العروس متمتمات “الفاجر هجره ولا فجره”. خلال عشرة أيام جُهّزت عروس أحمد. كلُّهم ساهموا في إتمام الزواج، ففي يوم واحد امتلأ البيت بالأدوات الكهربائية اللازمة، في يوم واحد كانت أم العروس قد أعدت حفلة تلبيس الخاتم، في يوم واحد أعدت فطمة “سفرة مد الجهاز”.
مُد الجهاز في خزائن العروس ذات اللون الأبيض أمام العيون المتفحصة الفضولية، ربما اضطرت أم العروس أن تذكر أسعار قمصان النوم الحريرية والسراويل الداخلية أيضاً، والمحل الذي جلبت منه فخورة كل الفخر بكرم الأب، وذوقها الخاص أيضاً. مرددة سورة الفلق لرد عين الحسود.
العروس غائبة، لا يصح أن تدخل بيت زوجها إلا ليلة العرس.
وضعت المصابيح البيضاء من البورسلين على جانبي السرير، وصورة العروسين في الخطبة على طاولة الزينة بجانب باقة من الورد الصناعي، تقابلها مطبقية فرحهم ملفوفة بقماش التول الأبيض، وفيها الملبّس الملون.
أما ليلة الفرح، فبرغم إصرار العروس على إجراء العرس في صالة كصديقاتها، غير أن عناد فطمة، التي قالت كلمتها ولن تتراجع عنها، جعل أبا الفتاة يجبر ابنته على قبول أرض البيت الكبير أرضاً لعرسها.
أشعلوا المصابيح التي كانت فطمة قد نسيت مواضع مفاتيحها، وحين أنارت أرض الدار فوجئت بتساقط ضوئها على المزروعات. أضافوا مصابيح أخرى، جديدة وملونة. امتدت على الحبال دروباً أفقية وشاقولية، ملؤوا أرض الدار بكراسي بلاستيكية مكتوب خلف كل منها اسم صاحب دكان تأجير “الكراسي والشوادر، التي تنصب للأفراح وللأحزان”.
رغم انهماك فطمة في إعداد صرر الراحة بالفستق، وكؤوس البوظة بالقشطة، وأباريق الماء البارد، والقهوة المرة، إلا أنها لم تنس أن تحضر طوقاً من فل أحواض الحديقة كي تضعه أمام كرسيي العروسين، وأن تنصب سجادة الجدة على الجدار، خلفهما على مصطبة خشبية جهزت خصيصاً لهذه المناسبة، التي لم تشهدها منذ زمن بعيد.
كان أبو رحمون يؤذن للمغرب، عندما تذكرت أنها لم تجهز الثوب الذي تريد ارتداءه في هذه الليلة.
تزاحمت الصبايا على الرقص مرتديات ثياب السهرة متفقات على الأغاني المناسبة، لاهيات في تنافس طفولي على رقصة أو نكتة للاستحواذ على اهتمام أمهات الشباب، العرسان المحتملين. أما النساء المتزوجات حديثاً فإن سلوكهن مختلف، صراع بين السلايف، غيرة بين الجارات، ثياب متبرجة، نصف عارية، حمرة سميكة، وكعوب عالية. وأصوات مرتفعة.
في الثانية صباحاً انتهت حفلة العرس، وكادت فطمة أن تنتهي معها. ودّعت الجميع مهدودة من التعب. صعدت الدرج متشوقة للارتماء في سريرها وتأمل القمر من نافذتها. تمهّلت عند العتبة الأخيرة، نظرة من الأعلى، فاجأها المكان المحشو بالكراسي البلاستيكية الفارغة المصطفة بانتظام. شاهدت كرسيها الوحيد، من الخيزران، بجانب درج القبو، كأنه سيفل بعد قليل من هذا الحشد، نسيت فوقه شال ثوبها الأسود القديم الذي ترتديه في كل المناسبات. تتردد طويلاً في شراء غيره. لكنه مازال جديداً. مازال يعطيها التفافاً لظهرها، وهي معجبة به، كما أنها لم تستخدمه منذ سنين. تهامست النساء بسخرية من موضته القديمة، لكن لم يعنها كثيراً، فقد كانت منهمكة في إنجاح الحفل وإسعاد العروسين.

في وقت واحد طُرقت الأبواب جميعاً، بصمت وإيماءة واحدة من رجال أبو شامة. خرج أهل المدينة الباقون بعد الهجوم وتجمعوا على الجسر، حاملين الرايات والأعلام. قال فارس وهو يهم بالاختفاء عن الأعين كي لا يشارك في هذا التجمع:
ـ يحيّون أبو شامة، يشكرونه على أنه قتل أولادهم، هدم بيوتهم ونهب أموالهم، هاهم يصفّقون بحماس، بل بهستيريا لا يمكن أن يرصدها أهم رجال الفكر والفلسفة والطب النفسي في العالم.
حمل أبو سليم ابنه الصغير، أركبه جملاً، أمسكه لوحة مكتوب عليها: “يا الله يا حامي تحفظ بيي أبو شامة”،  اضطر إلى استبدال التاء المربوطة ل شامة بـ ياء وإلى تغيير لهجته كي يكون الهتاف على القافية العامية. قيل إنه جميعهم عادوا إلى البيوت حاملين بصقة من لميا المجنونة.
ـ لكن ألم يجف ريقها؟.
ـ ربما استعانت بماء النهر.
ـ  بكت قناطر النهر تحت أقدامهم البليدة.
ـ أو بكت أنس ابنها الذي اختار منفاه في قاع النهر.
بعد أن رفع الجميع الراية البيضاء، اطمأن أبو شامة إلى أن شتيمته لهم أصبحت نشيداً صباحياً، يردده الصغار في المدرسة مجبرين. وبعد أن اطمأن إلى أن عباراته، كتبت على كرة ملونة مضيئة وعلّقت على أعلى سطح في الحارة، وأصبحت ختماً على صحون الطعام وعلى الثياب وواجهات السيارات، أمر رجاله بإعداد جداول معقدة مليئة بالأعمدة والسطور، تصرف بموجبها تعويضات لأهل المدينة إن أقروا أن موت الرجال كان من وباء نذير، وأن الدفن لم يكن جماعياً على شكل تلال، وإنما كلّ في قبره ووجهه إلى القبلة.
أمام صمت الجدة أغلقت أبواب البيوت معلنة بصمت رفض التعويض. لكن لم يطل هذا الاعتصام إذ سرعان ما استيقظوا على صوت إحدى النسوة تقبل يد الجدة، ترجوها أن توافق، ثم تندفع من الباب ساحبة معها بقية النسوة. رددن اعتذاراً ورجاء من الله ومن الجدة ومن الغائبين.
اختلطت أحاديث النسوة بين من موّتت زوجها، ومن موّتت ابنها.
بعد ذلك ملأ الطمع نفوس الكثيرين واندفع من تبقى من الرجال يطلب تعويضاً عن جدار أو أثاث، أوسجادة، أوعباءة، حذاء، أوجورب. بات الحديث الشاغل للجميع هو جداول التعويض، على أي بند ينطبق فقدان طاولة الزهر، وتحت أي بند يندرج ضياع القنباز والطربوش. وبالنسبة للأجهزة الكهربائية هل تندرج ألعاب الأطفال التي تعمل بالبطارية في العمود نفسه؟.
عمّت فوضى شغلت الناس عن الغائبين. ستجد كلاً منهم حاملاً نسخة من جداول التعويض، منتحياً جانباً متمعناً فيها من دون أمل بفهمها.
قال الأستاذ عاصم:
ـ هذه الجداول تحتاج إلى موظف بنك لديه خبرة مصارف عشرين عاماً كي يفك تعقيدها.
وأضاف:
ـ نسي الناس الحارات التي اقتلعت من أصلها، الشباب والأطفال الذين عذبوا وفقدوا، وانشغلوا بالترهات.
قال فارس الذي حمل لوحاته المطعونة بحربة البندقية:
ـ لن تعوضني أموال العالم عن تشطيبهم للوحاتي.
كان بطوله النحيل و نظرته الساهمة و أصابعه الرفيعة المنحوتة، يضع رسوماته في أرض دار فطمة ويجلسان معاً يتأملان التخريب ويحاولان تخيلها سليمة. لا يتجرأ أن يعرضها في مكان آخر. في واحدة منها وباللون البني قدمان متورّمتان مربوطتان بعد “الفلقة”، وفي الأخرى فتاة صغيرة تشهد مقتل أمها بخنجر في ثديها، في الثالثة وجوه مئات الأطفال المتراكبة المذعورة، تنتظر رصاص رشاشات مسلطة عليهم.
أما مخلص مربي الأجيال فقد قال:
ـ من يعوّضني عن طلابي؟ راحوا، فقدوا، غابوا..لم يبق طفل أراهن عليه.
قال عبد الحكيم كشّاش الحمام:
ـ على أية حال فقد وُزع من التعويضات على أهل الحارة من الجمل أذنه، فيما تقاسم الجمل رجال أبو شامة أنفسهم، من دون أن يملؤوا استمارة. من يحاسبهم؟ أبو شامة لم يكن لديه الوقت لهذه الأمور.
رفض البعض هذا التعويض، منهم الأستاذ عاصم الذي عاد من حصة تدريسه ليجدهم بانتظاره، أخذوه إلى الموت ثم أعادوه بمعجزة كي يشاهد معظم كتبه عائمة في النهر.

بعد أن نهبت تجارة أهل المدينة التي كانت في الأقمشة والأغنام ومنتجاتها، باتوا يبيعون أي بضاعة، بتذلل يستعطفون الزبائن كي يشتروا، وعندما يسألون عن الحال يقولون:
ـ الحال واقف. وقد يتغامزون: كل شي واقف، إلا المحروس.
لمّ كل أخ لحم أخيه، موّتت الأمهات أبناءهن وأزواجهن وأخوتهن، وقبضن التعويض الزهيد الذي رممن فيه بعض الجدران التي هدمت،  قششن كراسي الخيزران، منهن من جهزت ابنتها للزواج، وإن لم تتجاوز الثانية عشرة من عمرها. في حين ظلّ في المدينة الكثير من الأرامل اللواتي لم يعرفن إن كن أرامل أم زوجات لمفقودين إلى أجل غير مسمى، قالت أم الحب:
ـ بعضهن لم يتجاوزن الخمسة عشرة عاماً، صرن أمهات، ولدن أثناء الهجوم، أطفالاً لا يعرفون الآباء، فالأم هي التي تربي، تكبّر، تأمر وتنهى، تحنّ وتعطي، تطعم، تدرّس،  تصمت طويلاً خوفاً عليهم من أن يعرفوا فيسعون للانتقام.

رن جرس الهاتف.
ـ ألو.
جاءها صوت متعب:
ـ كيفك، فطمة.
ـ الحمد لله، من المتكلم؟.
ـ مخلص.
ـ أهلاً “أبو محمد”، كيف صحتك؟.
أجاب بعد أن ابتلع ريقه:
ـ والله إني أودع الدنيا.
أوشكت على البكاء، إذن لن تودّع الدنيا بمفردها:
ـ صلّ على النبي يا أبو محمد.
ـ سئم أولادي وزوجتي مني ومن مرضي، بصراحة.. الحق معهم، أطلت المكوث في هذه الحياة، عاداتي السيئة في التوجيه والوعظ والنصح للكبير قبل الصغير، كأنهم تلاميذي في مدرسة مازالت في نشاطها، كلما حاولت أن أخرس هذا اللسان، يخذلني، وأعاود التدخل بالذي يعنيني والذي لا يعنيني، صارت المبادئ في مهب الريح، انهارت القيم، ارتاح الجميع، ما ذنب أحفادي حتى أقلق ضمائرهم؟.
ـ صلّ يا أبو محمد حتى ترتاح.
قال وقد تهدج صوته:
ـ اتصلت بك يا فطمة علك تزورينني في البيت، مكتبتي وأوراقي مهملة في الصناديق، أخشى ألا يوجد أحد ممن حولي يحافظ عليها بعد موتي.
سارعت لتقاطعه:
ـ العمر الطويل يا أبو محمد.
رد بصوت عصبي:
ـ إذا كان لي خاطر عندك لا تنسي هذا الموضوع.
أطبقت السماعة ونسيت.
اتجهت إلى عيادة طبيب الأشعة. جلست في غرفة الانتظار:
“علام السرعة؟”.
هاجمها الدوار بعد حين، فقدت الصبر، رجت الممرضة الإسراع في إجراء التصوير، ماسحة قطرات عرق بارد ملأت جبينها.
استلقت دافعة رأسها إلى الخلف مهيئة مساحة كافية للرغوة الباردة التي طلى الطبيب بها رقبتها. أخذ يغير مكان ارتكاز قاعدة الخرطوم على عنقها، ملتقطاً صورة في كل نقلة. انتهى. أعطاها مناديل ورقية تمسح رقبتها وتمتم بكلمات التمني بالشفاء.
مسحت الرغوة بتمهل، جالسة على الطاولة العالية، بينما قدماها متدليتان في الفراغ متباعدتان، سرحت في عوالمها التي تأخذها وتغيّبها. طالت جلستها.
تساءلت الممرضة:
ـ هل تحتاجين إلى مساعدة؟.
تنبهت، فانهمر نهر من الدموع.
“أدرك أن كل شيء قد انتهى، لا أحتاج أن يزودوني بمظروف جديد مكتوب عليه: حضرة الدكتور.. المحترم، يليه اسم المريضة. موجه للطبيب وليس للمريض، هو من شأن الطبيب، أحمله لأسلمه له مستسلمة لقراره وقدري”.
تتخيله يتعاطف معها دقائق حضورها، وعندما تغادر سيذاكر في إضبارتها ويستعيدها كحالة فقط، ثم يستدعي المريض التالي مؤدياً عمله كما يجب، ثم يعود إلى البيت ليحدث زوجته عن الحالات، أو لا يحدثها، فالبيت للراحة ومتابعة أخبار التلفزيون، مداعبة الأطفال، تناول وجبات الطعام، استقبال الأصدقاء الأصحاء المسلّين.
بعد أن وضعت، طعام لميا، على مصطبتها، مربتة على ظهرها، كي تهدئ همهمتها. أغلقت الباب وراءها. خلعت حذاءها ومعطفها ناسية الغطاء على رأسها، وضعت الأدوية بجانب سريرها واسترخت لدقائق ثم هبت إلى غرفة الجلوس نظرت إلى الهاتف والصندوق، يوجد غبار. انتظرت أن يدق بابها أو هاتفها، فيما كانت تتردد:
“أأعد صحن شوربة؟ لا.. الشهية مفقودة”.
أدارت التلفزيون، حال الطقس أعرفه. نامت بثياب الخروج على كنبتها.
شاهدت رفيق الدرج، يمسكها من يدها ويطير بها إلى السماء، تدوس الغيوم بطرف إبهامها وتحلّق بيدين ناعمتين كأيدي الملائكة التي كانت مرسومة على بطاقات العيد. يهويان إلى الأرض فيطأانها بأقدام ثابتة، يعاودان الطيران في فضاء صاف كصباح ربيع نيسان. لكن ما إن تستجمع قوتها وشجاعتها، حتى يحين وقت الهبوط إلى الأرض. ظلت في الحلم تطير وتهبط، حتى استيقظت على صوت مذيعة التلفزيون، الذي نسيته مفتوحاً تذيع برنامجاً طبياً عن التبول اللا إرادي، طالبة من المشاهدين، بدلال، أن يتصلوا على الأرقام المكتوبة، وأن تنحصر أسئلتهم بموضوع البرنامج، التبول اللا إرادي.
سمعت صوتاً يشبه ضحكة مكتومة، ينبعث عن كرسي الجدة، التفتت، فوجدته جالساً على الهاتف.
“هل تعاني من التبول اللا إرادي وتريد الاستفسار عنه؟” سألته فطمة كما تسأل أي جار.
“أنا أبوّل أينما أريد ولا أعي إذا كان الأمر بإرادتي أم لا. أنت التي لن تجد من يساعدها في شرب كأس ماء.. عندما تعجز. ما الذي تنجزين من لهاثك في كسح الدالية، قطف بضع ياسمينات في الثامنة صباحاً، شرب القهوة على البحرة، تنظيف ضفة النهر والحديقة من كل ما أحب وأهوى، أو من الاستماع للحاج عمر المهووس، تقديم الطعام للميا المجنونة، نشوتك وأنت تنصتين لكلام فارس الناعم الذي لا طائل منه؟ أحسن له أن يشبع أولاده الخبز، من الشرود ساعات في لوحة ملطخة بألوان مجنونة مثله. عندما تموتين سيسهل علي إقناعهم بتركهم البيت لي فالجميع بات يحفر أنفاقاً ويقلدني”.
“لميس لن توافق”.
“لميس ستهاجر”.

عندما جاءت دفعة جديدة من المقبوض عليهم إلى تلك المدرسة، صاح الحارس أحد رجال أبو شامة بآخر مثله:
ـ لم يعد لدي أماكن.
ـ أين نذهب بهؤلاء؟.
ـ لا أدري يا سيدي، فمن لدي يموت واقفاً من شدة الازدحام.
أصدر الضابط أوامره بترحيل القدامى إلى المقبرة، ووضع الجدد بدلاً عنهم.
ازدحموا على مقاعد التدريس الباردة جائعين تعبين، كانوا أجساداً متلاصقة هزيلة بعظام ناتئة وعروق ناشفة على جلود مجعدة. وجوه الشباب والعجزة ساكتة يائسة، لقد تحولوا إلى أطفال مستلبين سيقوا إلى الحضانة قسراً، فجلسوا في أماكنهم يرقبون الأبواب منتظرين الفرج بقدوم الأم، ولكن بدل الأم كانوا يلمحون ضابطاً جديداً غاضباً، فتغوص قلوبهم:
“القتل رشاً بالرصاص؟ أم بكلابات على الرقبة؟ أم التعذيب ثم السجن؟”.
أما من رُحِّلوا فقد جمعوهم على جدار المقبرة الأثري، كان الأقوى يسند الأضعف، رغم الوهن الذي سيطر عليهم جميعاً، بدوا كدجاجات متراكبة:
“علّ الذبح يتأخر”.
صدرت الأوامر بإطلاق النار، فتساقطوا دفعة واحدة كالأشياء!! ببجاماتهم الرقيقة وأصابعهم الخائفة الباردة، ابن الثالثة عشرة فوق ابن التسعين، وابن السبعين بجانب ابن الخمسين، كلهم ماتوا منتظرين رحمة أو شفقة بعيدة بعيدة.
قال مخلص:
ـ لم يفعلوا شيئاً إلا قرابتهم للعم نذير المختفي، لايدري بمصير أخوته، وجيرانه وأهل مدينته.

من قبل أومن بعد،لم يستطع أحد معرفة عدد الذين نقلوا بالجرافات، مذبوحين. قالت أم الحب وهي تربت على كف مطيعة:
ـ الجار أو الأخ، القريب أو الابن أو الأب يعتبر حبيباً، إذن كل منهم يساوي ألفاً فليس مهماً معرفة الرقم الحقيقي لعدد المرات التي امتلأت بها هذه الجرافات وأفرغت في مكان ما، شمالاً أوجنوباً، أوفي خندق أحاط المدينة كلها.
ربما كان أول ذلك، أو آخره، حين جاء رجال أبو شامة صباح جمعة، ضربوا الأبواب، ففتح لهم رجل البيت، إن تبقى رجل في البيت، سحبوه خارجاً، داهموا الغرف، ثم جروا بقية الذكور. أمروهم أن يصطفوا على جدار البيت الخارجي، تأملوا ذلهم دقائق، ثم حمّلوهم في سيارات صندوق.
منذ ذلك اليوم بات لأهل الحارة وسواساً اسمه يوم الجمعة.
لم تُسمع بعد طلقة رصاص واحدة، إلا عندما قطع أحدهم خنصر إصبعه اليسرى، وأفرغ مسدساً قديماً في رأس ابنته التي كانت مستلقية في المشفى بين الحياة والموت، بعد أن ضبطوها في سيارة مع شاب، تدهورا معاً على الطريق الغربي. لقي الشاب حتفه، بينما ظل في البنت رمق من الحياة. ولكي يبرهن أبوها على نخوته وشرفه المستعاد، قطع أصغر أصابع يده اليسرى وقتل ابنته، ثم طلّق الأم وطردها من بيته واضعاً بقية فتياته تحت الإقامة الجبرية مع الجدة والعمات.
فرغ البيت الكبير إلا من ذكرى الرجال الذين غابوا.

تشتري فطمة الخبز، وبعد بضعة أيام ترميه متضايقة من العفن الأخضر الذي غطاه. تقطف أعواد البقدونس من حديقتها وتغسل حبات البندورة والخيار كي تعد صحن السلطة، وماإن يصبح جاهزاً وتنظر إلى ماصنعت حتى تعدل عن الطعام فتودعه الثلاجة. تصلح بنفسها أعطال البيت التي كثرت وفاقت قدراتها، ارتخاء قبضات الأبواب، نمو النباتات المتطفلة من بين بلاطات الدار، تعطل نافورة البحرة وانسداد مجراها. لم تعد تكترث للغبار الذي غطى السطوح والجدران.
تنظر حولها غير عابئة بشروق الشمس أو غروبها، أو بالجيران الذين يفرحون أو يحزنون. تستيقظ ربما في الثانية ليلاً، لتفاجأ أنه ليس بإمكانها الخروج لتأمين جرة الغاز أو شراء الحليب أو بعض الفاكهة والدواء، فالحارة فارغة معتمة والدكاكين مغلقة. أما صوت العالم الخارجي، طبل، غناء، قهقهات، فرح بالدنيا، تفكر:
“ما شأني بزواج ابن جيراني؟”.
ضعفت حديقتها، ابيضت، تشققت مثل شفاهها، باتت أوراق الكرمة صغيرة مقصوصة، تسلطت الخفافيش ليلاً على نخلتها، وصارت تصدر أصواتاً غريبة متعلقة بأغصانها العالية.
رأت فيما يرى النائم أن أبو شامة يمسح على رقبته، ويفاخر أن لديه تالولة جديدة متفكراً باسم لها، سقطت القديمة في غفلة منه، أقسم ألا يغفل عن الجديدة أبداً، بل سيشكّل معها ومع التالولة القديمة ثالوثاً لا ينسى في تاريخ المدينة والنهر، بل العالم أيضاً. كان في كل لمسة لها يباركها، ويذكر ربه، داعياً الجميع من دون كلام، مشاركته السعادة بالتالولة الغضة الطرية الفتية والتي يراهن على تميزها عن جميع ثألولات الناس، مع ذلك لم ينس أهل الحارة بعدُ التالولة التي سقطت في غفلة منه.
قال مخلص:
ـ فزعنا أن يحاسبنا على غفلته، فيعيد علينا الدرس الذي لقنه لنا منذ أعوام، والذي لم ننسه ولن ننساه.
أيقظها الهاتف المبكر. جاءها صوت يتحدث بعصبية:
ـ صباح الخير.. فطمة.
ـ صباح الخير أبو محمد، ابن حلال، والله رأيتك في منامي.
ـ لماذا لم تأتي لزيارة مكتبتي؟ أريد أن أطمئن على الكتب في أيد أمينة؟.
ـ تعرف أن أخي أحمد تزوج منذ فترة قصيرة، مازلنا نستقبل مهنئين، ألا ترى فارس؟.
ـ يزورني بين وقت وآخر، الجميع مُلتَهٍ.
ـ  سأحاول أن آتي غداً.
ـ لا تتأخري أكثر.
شعرت بضيق غامض، لكنها تجاهلته، نزلت إلى الحديقة حاملة بذور النعناع التي تشبه دود الأرض، نثرتها مؤدية المهمة من دون حماس. لم تكترث لتلك الكتل السوداء التي تنبئها بعودة دودة الكرمة، التي انتهت من مكافحتها منذ أيام. أعدت إبريق شاي وبعضاً من حبات الزيتون مع قطعة جبن وخبز ثم جلست تعلك اللقمة الأولى، ابتلعتها وقامت مسرعة. وضعت الصينية على المجلى وذهبت إلى السوق فيما طعم لقمة الزيتون يملأ فمها.
لأنها تعرف معظم دكاكين القماش وتعرف أهلها فقد تعبت في البحث عن دكان جديد يبيع القماش، لتأخذ حاجتها من دون أن تخبر صاحبها عن سبب حاجتها. اشترت مترين من قماش الأطلس الأخضر وثلاثة أمتار من الكتان الأبيض .
أغلقت الباب وراءها، وصعدت إلى غرفتها. رمت القماش على السرير بنيّة توضيبه في”بقجة” تشبه بقجة الجدة قبل موتها. سمعت صوت لميس تتقافز كعادتها. تحتار في هذه الصبية التي تستطيع أن تعرف أين هي خالتها قبل أن تدير مفتاحها في الباب.
رمت حقيبتها عن ظهرها، قبّلتها من دون أن تلتفت إلى القماش الذي غطي سريعاً.
ـ أتعرفين، كنتِ ليلة عرس خالي الأجمل بين جميع النساء.
ـ لا تجاملي.
قالت الصبية وهي تستعرض بشعرها:
ـ كيف كنت أنا؟.
ـ رائعة، عقبى لفرحتك يا حبيبتي، لكن بعد كم غير محدد من الشهادات، وبعد أن تتقني خمس لغات.
ـ أحبك كثيراً.
أخرجت من حقيبتها أقراص “الكمبيوتر” قائلة:
ـ  غداً سأبدأ برنامج الطباعة. يعني قبل أن تبدأ السنة الدراسية أكون قد أنجزت دورة في اللغة الفرنسية، ودورتين في “الكمبيوتر”، هل هذا يرضيك؟  أتعرفين؟ تريد ماما مني أن أقابل النسوان اللواتي يأتين للخطبة.
زقزقت الفتاة ببضع ثرثرات محببة وهي تتناول طعام خالتها ثم ودّعتها وغادرت.

بعد أن صار أبوشامة المتنفذ الوحيد في المدينة، فرض على أهل المدينة إعلان التوبة أمام أكبر عدد من الناس في التلفزيون، في الصحيفة، في الراديو. صار الناس يتحلقون أمام التلفزيون متابعين برنامج التحقيق،  مشفقين على المصير الذي ينتظر ضحية حلقة الليل من البرنامج اليومي، مدّعين براءتهم من معرفة الضحية.
هذه المرة كان مع أحد الفتيان الذين لم يتجاوزوا الثالثة عشرة. يجيب الفتى على الأسئلة لاهثاً خوفاً من ألا تكون إجابته هي المطلوب إعلانها. كان ابن عبد الحكيم جالساً على الأرض، عند قدمي أبيه، عندما صاح من دون قصد منه:
ـ هذا أعرفه.
سارع أبوه وضربه بقدمه قائلاً:
ـ لا تعرفه.
استمر الولد في عناده:
ـ كان معي في المدرسة.
جاءته “طيارة” على رأسه:
ـ قلت لك لا تعرفه.
لقنوا أبناءهم أساليب الحذق والقدرة على التملص من التهم التي من الممكن أن يقعوا فيها بسبب قرابتهم من نذير هذا.
سأل صاحب البرنامج ابن الثالثة عشرة:
ـ ما هي علاقتك بنذير؟.
أجاب وهو يغص بين الحرف والحرف:
ـ أعطاني شاب من طرفه نقوداً فذهبت يومها إلى الحلاق وعملت تسريحة على الموضة، كما أهداني مسبحة، ثم استأنف بسرعة:
ـ لكني أضعتها!.
كان خوفه أن يسألوه: أين السبحة؟ فيشبعوه ضرباً إن لم يعترف بمكانها.
أسئلة مكررة، أجوبة خائفة، والمصير مقرر مسبقاً. أصبح لأهل المدينة فلسفة خاصة، آراء جاهزة يطلقونها ببراعة متفق عليها في جميع الأحوال، حتى ابن الثالثة ينظر في العيون متفهماً ضرورة الصمت. تفتقت مواهب التملص من التهم الكثيرة، فكل أهل المدينة يقربون نذيراً  وكلهم متهمون متورطون معه وإن لم يتورطوا، يكفي أنهم من المدينة نفسها، وأنهم شهدوا الأحداث. لن يصدقهم أبو شامة وإن أشبعوه هتافاً وغناء ومديحاً. إن من يتجرأ ويلمّح لماحدث، فسوف يلعن من الجهتين، عقاب رجال أبو شامة معروف، أما أهل الحارة فسيتهمونه بالبهم والتهور ويتجنبونه خوفاً من جرأته المجنونة.

أدارت مفتاح التلفزيون على القناة التي لا تمل من بث الأخبار السياسية والاقتصادية، من أسعار العملات إلى أسعار براميل النفط. كما تحرص على بث النشرات الجوية وإيصال كل الأصوات.
سمعت صوت تحرك الجرذ في البيت.
“كل البالوعات توصل إلى أهداف الجربوع”.
زفرت من ثقل محيطها ومن ضعفها. اتصلت ببيت أختها ليلى:
ـ “عم يضيق خلقي”.
أسرعت أختها:
ـ أحضري أشياءك التي لا تستغنين عنها واقضي عندنا بضعة أيام.
ـ أشيائي التي لا أستغني عنها؟ البيت كله.
ـ أريحي رأسك يا أختي. أم العشر أولاد لا تحمل همك. هل تريدين أن أرسل لميس لعندك؟ لكن ستفتح المدرسة بعد أيام، وعليها أن تراجع بعض الدروس مع الأساتذة الخصوصي.
أغلقت فطمة السماعة ومضت إلى صندوق الجدة.

وجد أبوسليم الجربوع الصيغة المناسبة حين جمع أهل الحارة قائلاً:
ـ نداء، نداء، ممنوع الطلعة على باب الزقاق.
أراد أبوسليم تقليد رجال أبو شامة، حين كانوا يتجولون في الحارة مانعين التجول.
قال مخلص:
ـ كنا نبالغ في تنفيذ أوامرهم، فنمتنع عن التحرك من أماكننا حتى وإن كان مشوارنا إلى الحمّام.
بهيئة تمثيلية قال أبو سليم لعبد الحكيم:
ـ أنت عندما يخطئ ابنك ماذا تقول له؟.
ـ أقول له حمار.
ـ وأنت يا جميل يا نسونجي عندما يخطئ شريكك في الحسبة، ماذا تقول له؟.
ـ حمار.
ـ وأنت إن رأيت أحداً يُضرب “طيارات” ثم يصمت، ماذا تقولون عنه؟.
ـ حمار، رد الجميع من دون استثناء.
هنا صاح الجربوع ظافراً:
ـ إذن كلنا حمير.
شكّل أبوسليم  الجربوع جمعية سماها “حمار ولا عار” وبدأ بتسجيل أسماء من تبقى من الرجال.
أرسل أبوسليم طلباً مكتوباً بخط أحد الكتبة الذي يعمل في مخزن بيت “الأمّور”، خطَّه بتأن شديد، وتجرّأ أن يرسله إلى أبو شامة يستسمحه الموافقة على تشكيل الجمعية، وحجته القوية كانت: أهل الحارة الأعزاء لم يتفقوا على أمر، كما اتفقوا على هذه الجمعية.
يقولون إن أبو شامة تلقى الطلب باهتمام كبير في بداية الأمر، لكنه تبين بعد ذلك، من خلال رجاله، أن الموضوع لا يتجاوز لعب أطفال. فوافق واضعاً ختمه الخاص مباركاً الجمعية، موصياً أن ترسل برنامجها السنوي وخططها المستقبلية وأسماء أعضائها مع الرتب، وعمل كل منهم.
صنع أبوسليم بطاقات تحتوي الاسم، المولد، الرتبة، بالإضافة إلى صورة حمار يشبه صاحب البطاقة. كلّفته صورة الحمار الشبيه الكثير من الجهد والبحث، جراء الخلافات بين الأعضاء، الذين كانوا يقضون أحياناً ليلة كاملة في “منزول”  بيت الأمّور. حين يعترض صاحب البطاقة أن منخار الحمار لا يشبه منخاره، أو أن أذنيه طويلتان أكثر من اللازم. كان أبو سليم الجربوع يضرب رأسه صارخاً:
ـ كيف يمكن تأمين هذا العدد من الحمير؟.
تزامنت بطاقات الحمير مع تجديد البطاقات الشخصية للناس. ازدهرت أعمال المصورين كثيراً، لم يبق شخص إلا وقدّم طلب انتساب وتجديد هوية، تيسّرت أعمال التنسيب، لم تخضع للروتين الذي يغلّف كل معاملات المدينة.
كانت تُرى تجمّعات حول كوّة تقديم الطلبات نساء ورجالاً وأطفالاً فوق سن الثالثة عشرة. أخذوا يطلقون شائعات حول استخدام البطاقات الجديدة:
ـ احرصوا على البطاقة، سوف تغمرها مادة كيماوية سوداء إن ثقبت.
ـ سوف يُعدم من يضيعها لأنه سيبقى بدون إثبات شخصية.
اختُرعت طرق شتى لحماية البطاقة الجديدة، ازدهرت أيضاً أعمال المكتبات، حيث استورد أصحابها آلة لإعادة تغليف البطاقة عدة طبقات تحميها من التلف ومن جميع الأخطار مئة عام على الأقل، آخذين بعين الاعتبار كلام العرافة.
الوصول إلى طاولة المسؤول عن البطاقات، لم يكن سهلاً، فالغجر المحيطين بالمدينة الذين لايستغنون عن غنائهم ورقصهم، يحيون أبو شامة بطريقتهم، كانوا يسدّون مدخل الدائرة، مما يجبر أصحاب البطاقات على أن يدبكوا إلى أن يصلوا إلى ختم الموظف، يصفع ورقتهم بختمه، ويعودون إلى الدبكة حتى يصلوا إلى المخرج ظافرين بالختم.

أعاد أبو شامة إلى الحارة عيد الزيتونة، وخميس مريم، لكن بأغان جديدة وغريبة. يخرجون حاملين بطاقاتهم، يردّدون نشيد الشكر ويبدؤون العيد.

غادرت فطمة البيت صباح تجديد بطاقات النفوس، فإذا بالعم جميل يهتف حاملاً راية. خرج إلى مركز الحارة بلا راية، لكنه فوجئ بأحد رجال أبو شامة يهزه ويناوله واحدة، أخذها ضاحكاً بطبعه المعهود، ومضى يلوح بها كأنه حملها مختاراً، لكن عندما شاهد أحد العابرين بلا راية، هزه بدوره، وناوله حمله مدّعياً أنه من رجال أبو شامة. ففي مثل هذه الأيام التي اعتبرها الحاج عمر من علائم القيامة، كان الكل مباغت ومأخوذ.
انشغلوا باحتفالات عيد الزيتونة الذي ترافق مع تجديد البطاقات. ارتدوا الثياب الجديدة. ركبوا قطار الربيع الذي يدور في الحارة مزيناً بالأزهار الملونة ومكتوباً عليه: روح روحي أبو شامة والتالولة الساقطة والعالقة، وفي المؤخرة تقرأ: صباح الخير مجنونة.
ذرعت لميا المجنونة الجسر في هذا اليوم مئة مرة.
أقعت فطمة عند البحرة، تبيّض بعض الأواني النحاسية التي لم يعد يستخدمها أحد، وتقاوم دواراً، صداعاً وغثياناً، تتمتم مقهورة، فيما يصرع أذنيها صخب غنائهم ودبكاتهم.

غادرت مياه النهر الكافر المدبنة محملة بدماء من قتلوا. وأدرك الجدة الخرس والعمى.
ظلت تشتاق لأبنائها ولكل الذين فقدوا وربما تأمل عودتهم حتى ماتت. رتقت جراحها بخرق بالية. كانت تستعين بكرسي واطئ قديم كي تسند إليه عجزها. تدور في أرض الدار مطوية الظهر ضاربة الأرض بكرسيها بدقة واحدة تشبه الساعة. لم يستطيع أحد معرفة قصدها أوحاجاتها، تضرب حجر أرض الدار بكرسيها، في الليل والنهار، وتدور الدورة ذاتها. قد تجلس على الكرسي نفسه عند البحرة مطأطئة الرأس غائبة في شأنها ساعات، فتبدو للناظر إليها من أعلى الدرج كأنها كتلة سوداء هزيلة ساكنة مرتخية. مطوية الظهر ترفض رؤية أي وجه أمامها، حتى وجه الطفل.
ارتدت جلباباً أسود يغطي هزالها من قدميها حتى أعلى رأسها، جلباباً واحداً لم تخلعه منذ خروج نذير وقتل الرجال، إلى أن ماتت، لا تسمح لأحد أن يرى وجهها أو يرصد أي لمحة من عينيها الشاردتين. لم يرها أحد تضع لقمة طعام في فمها أو تشرب كأس ماء، لكنها ظلّت تدق بكرسيها أرضهم عاماً كاملاً.
منهم من ظن أن سبب سكوتها ندمها، ومنهم من قال إنه حزنها، وكثيرون قالوا: أبداً إنها تنتظر نذير وسوف تتكلم فور عودته. قالوا وقالوا، لكنها ظلت منكفئة تدق الأرض بكرسيها إلى أن أتى صباح يوم، لبثت ثابتة ساكنة عند البحرة، حتى علت الشمس السماء. ظن الأطفال أنها شجرة نبتت فجأة، أخذوا يدورون حولها كأي وسيلة يخضعونها ويشركونها في لعبهم، لكن الكبار الذين اعتادوا دقاتها في رؤوسهم وضمائرهم الخائفة، أدركوا أنها تعبت وماتت.
لم يحضر العزاء إلا أهل البيت والحاج عمر الذي لا يفوت عزاء، والأستاذ عاصم، لأنه جار، ومخلص مربي الأجيال، وفارس كأن دينه مثل دينهم.

دقة، دقتان، ثلاث.. ثماني دقات. تلتصق الساعة بحائط صالة الجلوس. منذ أن وعت فطمة وجودها في هذا البيت وهي تعطي عدد الدقات التي تعبّر عن تمام الساعة، ودقة عند نصف الساعة، ودقة عند ربع الساعة، أحياناً وبدون سابق إنذار تعطي دقة عند التمام إلا ثلثاً.
إنه صباح الجمعة، تستطيع أن تعرفه من بين مئة صباح، لوكان عدد أيام الأسبوع مئة.
نظرت من نافذة غرفة نومها إلى القبو ثم إلى النهر فوجدته راكداً خاملاً، كأنه يوم عطلته أيضاً. لا تدري لِمَ تذكرت عيني فارس. ألح لونهما الزيتي الذي يقترب من لون الطحلب ربما لكثرة ما سبح في النهر أيام طفولته.
“هل تأتي أختي لزيارتي،كعادتها يوم الجمعة؟. تمنت: لا بد أن يزورني أحمد وعروسه، فهو منذ خروجه عريساً من البيت الكبير لم يعد إليه، لا بد أنه منغمس في عمله”.
قامت تعد قهوتها وتستعد ليوم جمعة طويل متناسية المرض. لم يكن لديها ما تطبخه أوتجهزه لأحد. قطفت حفنة من زهرات الياسمين ووضعتها في منديل أبيض فوق التلفاز، وجلست تشرب القهوة. كان صوت لميا وهي تهمهم مع القطط في سكون صباح الجمعة يأتيها لينبهها أنه حان وقت فطورها، وصوت ابن عمر يقفز ويقفز منذ ساعة الفجر، يصيح بكلمات غير مفهومة. يذكرها بيوم غادر نذير الحارة فرضع الولد منها حليب “الرهقة” .
“لأؤجل الموت إلى الموت”.
فتح الباب وسمعتْ خطوات لميس تقفز. كانت ترتدي قميصاً قصيراً أبيض، على بنطال من الجينز الأزرق، وخفاً قماشياً. قوام رشيق، كتفان مكوّران.
“ترى من هذا المحظوظ الذي يستحقها؟”
قبّلت خالتها كعادتها، وقطبت بهيئة تمثيلية:
ـ يطلب إليكم إعداد القهوة فقط، لأنه لا يوجد مثل قهوتك.
تقبّلها ثم تكمل حديثها:
ـ سنصحبك إلى البحر يوماً واحداً فقط، يعني لن تتأخري عن حديقتك، وبيتك حبيبك إلا ساعات.
حاولت فطمة أن تستفسر عن التفاصيل، لكن احتجاج الصبية أن لا وقت جعلها تذعن لرغبتها.
يفرغون لها عادة المقعد الجانبي كي تراقب الطريق وتسرح مع الخارج بهدوء وسكينة.
ـ سمعنا أن فندقاً جديداً قد افتتح على البحيرة بين البحر والجبل، نريد أن نتغدّى هناك، قالت ليلى بينما كان زوجها يهز رأسه موافقاً وسعيداً بمحبة فطمة لابنته الكبرى التي يفخر بتفوقها وجمالها ورزانتها:
ـ لميس تشبه خالتها.
تذكرت فطمة أنها منذ وقت طويل لم تسافر.
اختلفت معالم الشوارع كثيراً. يحجبون الصخر والشجر والغيم بلوحات الإعلان المختلفة الأحجام، يتبارون في توسيعها كي تشغل كل مساحة الرؤية.
“لا، ليس كذلك، بل لتصفع بضاعتهم بني آدم”.
مناديل ورقية، علكة، أحذية رياضية، سائل جلي، محارم ورقية، برامج “كومبيوتر”، محارم نسائية، حفاضات أطفال، علكة مرة أخرى، أطعمة أطفال مقلية بطعوم مختلفة، لوحة فارغة هي إعلان للإعلان. شعرت بغثيان ودوار، أخذت نفساً عميقاً، تنبّهت أن هواء ربها يلفحها منذ زمن. وصلت البحر بهذه السيارة الحديثة بسرعة لم ترق لها، تريد أن تتوقف عند كل منعطف وعند كل بستان، تراقب ما حل بحقول الله وحقول الناس، لم تشاهد إلا الحقول المغلّفة بأسقف بلاستيكية تمسخ المزروعات إلى ثمار متشابهة. لم تقبل مرة أن تشتري البندورة ذات اللون الواحد والشكل الواحد، من دون رائحة.
“أوووه.. إني أقتل الوقت بهواجسي، المنظر جميل”.
نزلت من السيارة فوجدت أن الفندق يقوم على هضبة تطلّ على بحيرة لا تشبه شيئاً، ساكنة، شفافة، عميقة تلوذ ضفافها بها، أما الحصى الملونة والمصقولة من كثرة التقلّب تحت الماء فقد بعثت لديها رغبة في وضعها تحت لسانها. جاءها صوت صهرها يدعوها لرؤية الفندق، قالت:
ـ أنا أحب الماء.
انشغلت ليلى وزوجها مع أولادهما في استطلاع تفصيلي لأقسام الفندق وطوابقه ودرجته السياحية وبرامجه لهذا الصيف، المسائية منها والصباحية. أخذت، من دون أن تستأذن أحداً، كرسياً من مطعم الفندق المطل على البحيرة، وجلست وقد أدارت ظهرها لكتلة الفندق الإسمنتية:
“الماء والقاع وهذه الخضرة..”
فجأة علا صوت عبر الميكروفون، طبول ودربكات وزمامير. هبّ روّاد المطعم من أماكنهم يشاركون المغني صخبه، رقصوا وتقافزوا في اتجاهات مختلفة، كل على هواه.
نظرت فطمة بهلع إلى الحشد الراقص:
ـ كيف اجتمع في لحظة؟ وعلام اتفق؟.
الفتيات ببناطيلهن الضيقة وقمصانهن القصيرة. إحداهن رسمت خطوطاً حول السرة متعمدة إظهارها، مكتوب على صدرها “Yes ” . لم تستطع فطمة، التي تنصرف لفكرة ما، أن تزيح نظرها عن “yes ” هذه:
“ما معنى أن تصبح الفتيات موافقات هكذا؟” تساءلت في سرها.
لم تصدق أن ينتهي هذا اليوم السياحي، كانت لميس عزاءها، لكنها في طريق العودة قالت:
ـ خالتي.. أنا أحلم بالهجرة.
هاجم فطمة الدوار ثم الغثيان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى