بشير البكرصفحات سورية

سوريا وفرنسا: ميزان التفاهم والاختلاف

null
بشير البكر
“سوريا في وضع مريح ما كان يمكن تصور أفضل منه”. هذه الجملة ليست لمسؤول سوري، بل هي لوزير الخارجية الفرنسي بيرنار كوشنير، بعد لقائه الرئيس السوري بشار الأسد في الثاني عشر من الشهر الحالي. وفي الحقيقة لو جرى الطلب من نظيره السوري وليد المعلم ان يصف وضع بلاده الحالي، لما استطاع أن يذهب ابعد من ذلك، وربما كان أكثر تواضعا وتحفظا، لاسيما أن دمشق لا تزال تتلقى رسائل الانفتاح الدولي والاقليمي تجاهها بحذر شديد.
حل كوشنير في دمشق بعد زيارة بيروت، واختار لهذه الخطوة المهمة الذكرى السنوية الأولى لعودة المياه الى مجاريها بين سوريا وفرنسا، التي جسدتها زيارة الرئيس الأسد الى العاصمة الفرنسية للمشاركة في “قمة الاتحاد من أجل المتوسط”. ولم يفت الوزير الفرنسي ان يشير صراحة إلى ان توقيت زيارته دمشق لم يكن مصادفة، وتعمد التوقف عند هذه النقطة، نظراً إلى شعور بلاده بكسب رهان الانفتاح على سوريا، بعد سنوات من سياسة العزلة والحصار التي حاولت فرضها إدارة الرئيس الامريكي السابق جورج بوش، وواكبها فيها الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك.
يجدر الاعتراف بأن خطوة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي بالانفتاح على سوريا كانت ذكية وذات بعد استراتيجي، لسببين: الأول أنها كسرت الطوق السائد وسارت عكس التيار، وتحدت منطق إدارة بوش. والثاني هو الرهان على أن هذا الانفتاح سوف يسهم في حلحلة جملة من العقد في المنطقة، وذلك نابع من تقدير لدور سوريا وفهم لموقعها الاقليمي، وقدرتها على التحرك والتأثير في منطقة مضطربة ومهتزة وحافلة بالقلاقل.
سجل رهان ساركوزي نجاحا على صعيد الملف اللبناني، ولذا فإنه لم يكف عن الاشادة بوفاء الرئيس الاسد بالتزامه على هذا الصعيد، وقد قيمت باريس عاليا انجازها على هذا الصعيد، وفاخرت به أمام اوروبا والولايات المتحدة، وتحدثت اكثر من مرة عن النقلة الكبيرة التي حصلت خلال سنة واحدة، والتي كانت بدايتها “اتفاق الدوحة” الذي أنهى الاحتقان بين الفرقاء اللبنانيين، وقاد إلى تشكيل حكومة جديدة، ومهد الطريق لاجراء انتخابات رئاسية وتشريعية.
رغم أهمية هذه الإنجازات التي أنهت التجاذبات اللبنانية الداخلية، فإن فرنسا تعتبر أن أهم ما حققه الانفتاح تجاه سوريا هو وضع العلاقات السورية – اللبنانية في نصابها الصحيح، من خلال الاعتراف السوري بسيادة واستقلال لبنان، وتجسيد ذلك عن طريق التبادل الدبلوماسي، وفتح سفارات في البلدين، وتبادل السفراء.
منذ البداية وضع المسؤولون الفرنسيون خطوة الانفتاح تجاه سوريا في إطار أوسع، يتجاوز الوضع اللبناني إلى جملة أخرى من الملفات تتعلق بفلسطين والعراق وايران والعلاقات الثنائية. والملاحظ ان التركيز الفرنسي على إخراج لبنان من الطريق المسدود، لم يمنع باريس من العمل بجدية على بقية الملفات، ولهذا تحركت في صورة لافتة على صعيد مفاوضات السلام الفلسطينية – “الاسرائيلية”، ووقف العدوان على غزة، وعقد مؤتمر دولي، بالتعاون مع مصر، لاعادة إعمار ما دمرته الحرب على القطاع، ومحاولة دفع المفاوضات السورية – “الاسرائيلية” غير المباشرة التي تتم برعاية تركية، وفي النهاية المساعدة في استقرار الوضع العراقي.
يؤكد المسؤولون الفرنسيون دائماً، ان دمشق كانت متجاوبة في التفاهم حول جملة من العناوين، وقد انعكس ذلك في تصريحات كوشنير في دمشق، حينما تحدث عن دور سوريا الايجابي في المساعدة على التقدم الذي تحقق في العراق، ولاسيما التعاون مع رئيس الوزراء نوري المالكي.
يقيم الفرنسيون حصيلة سنة من العلاقات الجديدة مع سوريا بأنها اكثر من إيجابية، وأهم من ذلك أنهم توصلوا إلى قناعة بأن ما تحقق يمكن البناء عليه للذهاب بعيداً، والانتقال من منطق التعاون إلى الشراكة، وهناك آراء داخل الفريق الفرنسي المكلف إدارة العلاقة مع سوريا، يرى أن دمشق هي مفتاح باريس الرئيس في الشرق الأوسط. إلا ان نقطة واحدة لا تزال تشكل مثار خلاف بين البلدين وهي التباين حول الملف الايراني، وقد أعلن كوشنير أنه “ليس هناك اتفاق بين الجانبين السوري والفرنسي حول كيفية معالجة الملف النووي الايراني. ومن المفيد الاستماع إلى وجهة نظر الرئيس السوري حول هذا الملف”.
قامت مقاربة فرنسا حيال علاقات سوريا مع ايران على ركيزتين: الأولى الطلب من دمشق نقل رسائل إلى ايران، وقد حصل ذلك حيال قضايا عدة وفي مناسبات مختلفة، واعترفت باريس بأن هذه القناة أثبتت جدواها. والثانية العمل على ابعاد دمشق عن طهران، ضمن سياسة فك التحالف التاريخي بين البلدين، وعزل ايران. وهناك شعور في باريس بأن التقدم على هذا الطريق أصعب منه على بقية الملفات، ورغم ان دمشق ميزت نفسها عن طهران في بعض الجوانب مثل حضور مؤتمر “أنابولس”، إلا أنها لا تزال متمسكة بالتحالف الاستراتيجي مع طهران. والسؤال المطروح اليوم في الدوائر الغربية هو: هل دمشق على استعداد لإدارة الظهر لطهران، وما هو الثمن المطلوب لهذه الخطوة؟
ليست هناك إجابة جاهزة، ولكن المؤشرات كافة تؤكد على ان الجهد الدولي سوف ينصب خلال الاشهر المقبلة في هذا الاتجاه، ومن ذلك الحديث عن زيارة الرئيس الامريكي باراك أوباما إلى سوريا، التي تقدر أوساط فرنسية انها سوف تجسد عودة سوريا بقوة إلى المسرح الدولي، وتضع نقطة فاصلة بين ماضي ومستقبل العلاقات السورية – الايرانية، قبل انتقال الدول الغربية إلى مرحلة جديدة من الضغط على طهران.
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى