صفحات سورية

سورية تريد فك معسكر الاعتدال العربي ……والرئيس بشار ارسل لي ايميل

null
في تحقيق مطول للصحافي الامريكي المخضرم سيمور هيرش عن الفرصة التاريخية لادارة الرئيس الامريكي باراك اوباما لتحقيق تقدم في العملية السلمية في الشرق الاوسط، وخياراتها بشأن سورية وايران. نشر على موقع مجلة ‘النيويوركر’ وسينشر في العدد المطبوع للاسبوع المقبل.
وتحت عنوان: “الاسد يتطلع للقاء اوباما.. وسورية تريد فك معسكر الاعتدال العربي” قالت صحيفة القدس العربي: يرى الكاتب (سيمور هيرش) ان ايران تظل موضوعا مهما في دفع المفاوضات الحيوية بين سورية واسرائيل. ويقول هيرش ان العملية العسكرية الاسرائيلية في غزة والتي استمرت 22 يوما كانت نهاية لمفاوضات محادثات سلام كانت محملة بالوعود واستمرت عاما بين كل من اسرائيل وسورية.
وقال انه تم خلال العام الذي رعت محادثاته تركيا، تحقق الكثير من التقدم على صعيد الاتفاق على المبادئ والتقدم نحو التطبيع. ونقل هيرش عن دبلوماسي يعمل الآن في اسرائيل قوله ان الجانبين، السوري والاسرائيلي كانا ‘اقرب مما تتصوره’. لكن الرئيس السوري بشار الاسد في مؤتمر الدوحة اكد ان اسرائيل لا تتكلم الا لغة الدم، ودعا الدول العربية لقطع المحادثات المباشرة وغير المباشرة مع اسرائيل وذلك على خلفية الهجوم على غزة.
وتلقى الكاتب رسالة من الاسد على البريد الالكتروني يقول فيها انه وان كانت ‘اسرائيل تعمل ما بوسعها لافشال العملية السلمية’ الا ان سورية لا تزال مهتمة بالسلام قائلا، اي الرئيس السوري: ‘علينا الانتظار قليلا لنرى كيف تتطور وتتغير الاحداث’ مضيفا ‘لا زلنا نؤمن بالحاجة الى حوار جدي يقودنا للسلام’. ويرى المحقق الصحافي المعروف نقلا عن دبلوماسيين ومسؤولين حكوميين ورجال استخبارات ان عودة للمفاوضات السورية ـ الاسرائيلية حول مرتفعات الجولان متوقعة، كل هذا على الرغم من حرب غزة ونتائج الانتخابات الاسرائيلية التي جاءت بالليكود وبحكومة متطرفة. لكن الدبلوماسيين يقولون ان هذه المحادثات تعتمد على الاستعداد الامريكي للعب دور الوسيط الشريف، وهو الدور الذي يمكن للرئيس الامريكي باراك اوباما ان يقوم به.
حرب غزة وفرصة الاسد
ونقل عن مسؤول سوري رفيع قوله ان فشل اسرائيل في الاطاحة بحماس في غزة على الرغم من شراسة الحرب التي شنتها اسرائيل اعطت الرئيس السوري مساحة للتفاوض بدون ان يفقد مصداقيته داخل المؤسسات العربية الحاكمة. ويحظى الرئيس السوري بدعم القادة العرب الذين استثمروا كثيرا في العملية السلمية بين الفلسطينيين والاسرائيليين.
الامير حمد والتطلع السوري
ونقل هيرش عن الامير حمد بن خليفة آل الثاني امير دولة قطر الذي التقاه الصحافي في الدوحة الشهر الماضي، قوله ان على الرئيس السوري ان يستثمر كثيرا في السلام. وقال الامير حمد ان ‘سورية تتطلع للتعاون مع الغرب’ وان على سورية اتخاذ الخطوات المسؤولة من اجل مواصلة الحوار، وهو امر لم يكن ممكنا في ظل ادارة الرئيس الامريكي السابق جورج بوش. وتقوم الادارة الامريكية الحالية بمراجعة شاملة للسياسة تجاه سورية. وبانتظار نتائجها يعتقد مراقبون ومحللون قريبون من الشأن السوري ان عودة مرتفعات الجولان جزء من استراتيجية سلام في الشرق الاوسط لمواجهة ايران نقلا عن مارتن انديك، السفير الامريكي السابق في اسرائيل والذي يعمل مديرا لمركز (سابان) حول سياسات الشرق الاوسط في معهد بروكينغز. ويعتقد انديك ان سورية هي حجر الانطلاق الاستراتيجي للتعامل مع الملفين الايراني والفلسطيني، مشيرا الى ما قاله الرئيس الامريكي اوباما ‘تذكر ان كل شيء في الشرق الاوسط مرتبط بعضه بالبعض الآخر’. ونقل الكاتب عن دبلوماسيين يتنقلون بين دمشق وواشنطن ويعودون بانطباع ان هناك ‘فاكهة ناضجة معلقة تنتظر من يقطفها’. وقال الدبلوماسي ان معاهدة بين سورية واسرائيل ستكون بداية لعملية سلمية ستكشف طريقة تطبيقها مع مرور الزمن. ويرى الدبلوماسي ان سورية جاهزة للسلام منذ عام 1993 ولتوقيع اتفاق منفصل، وما على الادارة الامريكية سوى القيام بجهد منتظر تحقيقه وهو تعيين سفير هناك او ارسال مبعوث خاص للرئيس، والتحدث مع الرئيس الاسد بطريقة واضحة.
مفهوم سورية للعلاقة مع ايران
ويشير الكاتب الى مفهومين حول التحاور مع سورية، حيث يرى محللون ان اتفاقية سلام تعيد الجولان ستكون طريقة لعزل ايران الداعمة لكل من حزب الله وحماس الجماعتين اللتين تعتبران ارهابيتين حسب التصنيف الامريكي. لكن اخرين يرون ان الاسد يرغب عبر السلام جلب ايران معه لمحادثات اقليمية تشترك امريكا وبالامكان اسرائيل فيها. وبدت الاقتراحات هذه فيما نقله السناتور الامريكي الديمقراطي جون كيري عن ماساشوسيتس، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس الذي التقى الاسد في شباط (فبراير) الماضي. ونقل الكاتب عن كيري قوله ان الاسد يتطلع للتعاون مع الغرب وان انطباعه الذي خرج به بعد لقائه هو ان الاسد يريد ان يفعل ما يمكنه لتغيير طبيعة العلاقة مع امريكا. وقال ان الاسد عبر عن استعداد للتعاون في الملف العراقي ومحادثات حول الجولان، واشار كيري الى انه سيوصي الادارة بالتعاون معه حول هذين الملفين. ومع انه يعترف ان سورية لن تتغير فجأة لكنه اكد اي كيري، ان سورية ستتحرك بناء على مصالحها، مشيرا الى ان دمشق قامت بمحادثات عبر وساطة تركية مع اسرائيل على الرغم من المعارضة الايرانية. وبحسب الكاتب كان الاسد يتطلع الى تغير الادارة الامريكية حيث قال انه ان كان القادة الامريكيون يتطلعون للسلام فعليهم التعامل مع سورية وحقوقها في مرتفعات الجولان. واكد الاسد ان الارض ليست محلا للتفاوض وكذلك حدود عام 1967. ويرى الاسد ان كل شيء قابل للتفاوض عليه مثل الماء والتعويضات بعد اعادة الجولان ولكن ليس قبلها. ويقول الاسد انه ان كانت اسرائيل راغبة بالسلام فيما بعد الجولان فعليها الاهتمام بالقضايا الجوهرية وليس من يسلح حزب الله او حماس لانه ان كانت هناك مقاومة فستحصل على السلاح بطريقة ما. وعلى اسرائيل التعامل مع لبنان ان ارادت التصدي لحزب الله ومع غزة فيما يتعلق بحماس. واكد الاسد في رسالته الالكترونية ان حرب غزة تحتم على الولايات المتحدة ان تلعب دورا حيويا في العملية السلمية. وقال ان ما يتطلع اليه هو لقاء مع اوباما لان هذا امر طبيعي.
مصاعب اسرائيلية
وفي الوقت الذي يرى فيه الجانب الاسرائيلي ان حكومة الائتلاف التي يتزعمها بنيامين نتنياهو ستجد صعوبة في تسويق اتفاق حول الجولان للرأي العام الاسرائيلي نظرا لتركيبتها، الا ان وجود ايهود باراك وزيرا للدفاع الداعم لمحادثات مع سورية قد يؤدي لمحادثات سرية خاصة ان نتنياهو اعلن انه لن يعيد الجولان. ويرى محللون اسرائيليون آخرون ان حرب غزة لا علاقة لها بالجولان وبشار الاسد لا يزال يتطلع لمواصلة المحادثات، خاصة ان نتنياهو قد يجد في التفاوض مع سورية بديلا جيدا عن التفاوض مع الفلسطينيين. وفي حالة حدوث محادثات سرية عبر الوسيط السوري فستتحول الى محادثات مباشرة وستحتاج هنا دعم الادارة الامريكية بنفس الدرجة التي يحتاج الاسد فيها الادارة الامريكية كطرف ثالث يقوم بالاشراف على تطبيق بنود الاتفاقية التي تحتاج للتنفيذ ما بين 3- 5 اعوام. وكان اوباما قد عين جورج ميتشل مبعوثا خاصا للمنطقة ولكنه لم يزر دمشق بعد، ولكن الادارة وسعت اتصالاتها مع دمشق منذ نهاية شباط (فبراير). وبحسب الدبلوماسيين المنخرطين في المحادثات فإن اللهجة هي لهجة حوار واحترام.
مطالب جديدة
وفهم السوريون من اللقاءات ان ادارة اوباما لم تعد تطلب اغلاق مكاتب حماس وطرد قياداتها هناك بل يطلبون منها لعب دور وسيط من اجل حل الخلافات بين حماس والسلطة وكذلك اسرائيل. اما بالنسبة لحزب الله فقد اخبر السوريون ان الادارة تقوم بمراجعة علاقة سورية بالجماعة اللبنانية.
وكان الرئيس اوباما قد انتقد سورية اثناء حملته الانتخابية للاسباب المعروفة لدى الامريكيين، الا انه لم يمانع في محادثات دون شروط، وفي حالة اتخاذ اسرائيل قرار التفاوض فهو مع ادارته لن يمانع. وموقفه يختلف عن موقف ادارة الرئيس بوش التي رفضت توصيات لجنة فريق دراسة العراق عام 2006 وتعاملت مع التحادث مع سورية عبر مبدأ شخصي ورفضت دعم المفاوضات بين سورية واسرائيل واستخدمت موضوع لبنان كذريعة حيث نقل عن الرئيس الامريكي بوش قوله ان قررت الادارة دعم المفاوضات حول الجولان فماذا سنقول لمؤيدينا في لبنان الذين يواجهون حزب الله هناك!
كيف انتهت الحرب على غزة
من جانبها ترى سورية ان ادارة بوش التي لا علاقة لها بالعملية السلمية كانت وراء الكثير من المشاكل حول العالم خاصة مناطق النزاعات. ويشير الكاتب هيرش الى ان الاسد امتدح جهود الرئيس الامريكي السابق جيمي كارتر العارف بالمنطقة الذي لا يأتي ليحاضر او يخطب حسب الاسد. ويرى كارتر في دراسة جديدة ‘يمكننا صنع سلام في الشرق الاوسط’ ان سورية عامل مهم في السلام الاقليمي. وكان كارتر قد زار غزة ودمشق نهاية العام الماضي واجتمع مع قادة حماس ـ الخارج هناك. واكد مسؤول في الادارة ان اوباما علم بزيارة كارتر لدمشق مقدما واجتمع اوباما معه لساعة ناقشا فيها المنطقة. ويشير الكاتب الى ان فريق اوباما اقنع اسرائيل بوقف الحرب وسحب قواتها قبل ايام من تنصيب اوباما. ونقل عن مسؤول امني كبير قوله ان ديك تشيني، نائب الرئيس بدأ يتلقى رسائل من اسرائيل عن الضغوط التي يمارسها فريق الرئيس المنتخب لانهاء الحرب حيث وصفت اوباما بانه مؤيد للفلسطينيين. وكمقابل اكد فريق اوباما انه لن يمانع في تزويد اسرائيل بالقنابل الذكية وان الفكرة جاءت من جيمس جونز الجنرال المرشح في حينه لمنصب مستشار الامن القومي حيث قال لأوباما ‘لا يمكنك ان تأمر اسرائيل بالخروج هكذا’.
كيفية تفكيك محور طهران- دمشق
وتظل ايران في مركز المراجعة الجديدة للاستراتيجية تجاه سورية. ويشير اسرائيليون لتوتر بين ايران وسورية قبل حرب غزة حيث لوحظ هذا اثناء المحادثات السورية من خلال تغير اللهجة السورية لكنهم حذروا من ان دور سورية وعلاقتها مع ايران والجماعات المعارضة تظل مشكلة. ويرى انديك ان هناك اختلافا بين سورية وايران، ففي الوقت الذي يهدد احمدي نجاد بمسح اسرائيل يحاول حليفه السوري بشار الاسد عقد محادثات سلام. ومن هنا يرى انديك انه في حالة التوصل لسلام حول الجولان فالمحور السوري ـ الايراني سينهار مع الاقرار بصعوبة تفكيك محور ايران- حزب الله ـ حماس وسورية. ومع ان الاسد اكد الموقف الايراني غير المعارض للتفاوض الا ان هناك ادلة عن قيام سورية بمراجعة علاقتها ووزن ما ستجنيه من التعاون مع الغرب بشكل يجعلها اقل اعتمادا على ايران. ولن تملك سورية سوى الشجب حالة ضرب اسرائيل لايران. ويعتقد يوشكا فيشر، وزير الخارجية الالماني السابق ان ايران سترد في حالة توصل دمشق لتسوية مع اسرائيل لانها لا تريد ان تعزل. ويرى محلل امني بريطاني ان ابعاد سورية عن ايران سيكون صعبا ففي الوقت الذي تريد فيه دمشق استخدام التسوية لتحسين علاقاتها مع واشنطن الا انها لا تريد الابتعاد عن ايران. ولكن الجو السياسي الجديد سيعقد مهمة سورية وهو ما يذهب اليه مسؤول امريكي في الامن القومي.
حماس واثقة من الاسد
ونقل عن خالد مشعل مسؤول المكتب السياسي لحماس قوله ان ايران لن تتدخل في محادثات تسوية تقوم بها دمشق مع انها ليست متحمسة لهذا. ويشك مشعل في نوايا اسرائيل وان كانت صادقة فحماس ستدعم سورية للحصول على حقوقها الشرعية. واكد مشعل ان بشار الاسد لن يقدم ابدا على ‘الطلب منا لكي نرحل’. مشيرا الى ان الحركة هي حركة شارع وقوتها في فلسطين ولن تعمل ضد مصالح اية دولة او اي اتفاق تتوصل اليه احبت الحركة ام ابت وانها لن تتدخل في شؤون اي بلد. واكد على ثقته بأن الاسد لن يطلب من الحركة المغادرة مشيرا الى ان قوة الحركة هي في فلسطين وليس دمشق. ورد فاروق الشرع نائب الرئيس ووزير الخارجية السابق قائلا ان ‘الرجل لا يذهب للفراش فقط مع المرأة التي يحبها’ في رد على سؤال حول اثر عودة الجولان على العلاقة مع ايران.
ملف الحريري
من القضايا التي تؤثر على العلاقة ملف اغتيال رفيق الحريري، رئيس الوزراء اللبناني السابق عام 2005، وادى لتوتير العلاقة مع السعودية وفرنسا. وتعامل الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك معها كقضية شخصية الا انها لم تعد كذلك بالنسبة لنيكولا ساركوزي. ونقل الكاتب عن مستشار للعاهل السعودي الملك عبدالله ان السعودية لم تقبل تعهدات سورية ان لا صلة لها بالاغتيال، الا ان العلاقة بدأت في الآونة الاخيرة بالتحسن.
حقوق الانسان ورزمة سورية
اما الملف الاخير وهو حقوق الانسان حيث تتهم منظمات حقوق الانسان الاسد بانه يمنح امريكا ورقة التين حالة تقدمه على ملفات اخرى، ويعترف الاسد بوجود مشاكل ويقول ‘اننا لا نقول اننا دولة ديمقراطية ولكننا نتحرك في هذا الاتجاه’. في النهاية لدى سورية الكثير لتمنحه فهي دولة علمانية ويمكن ان تتعاون مع امريكا ضد العدو المشترك، القاعدة، مشيرا الى ان مدخل بوش لمواجهتها ركز على الحل العسكري دون محاولة فهم عقلية الارهاب. ورحب بتصريحات اوباما التي قال فيها ان الدبلوماسية وليست الحرب هي ما يوجه سياسة امريكا الدولية. ويرى هيرش في النهاية ان هدف سورية النهائي ليس التعاون مع امريكا واسرائيل ولكن ابعد من الجولان، ويبدو ان الاسد يحاول اقناع اوباما بالتخلي عن استراتيجية بوش السابقة القائمة على التحالف مع معسكر الاعتدال العربي: السعودية ومصر والاردن، وتشكيل جبهة ضد ايران الشيعية وحلفائها الشيعة من حزب الله والسنة من حماس. والامر في النهاية بيد الادارة الامريكية لاتخاذ قرارات في الاشهر الاخيرة. سورية اخبرت انها ستساعد في تسهيل انسحاب الامريكيين من العراق. ويمكنها ان تساعد في التعاون المشترك بين امريكا وايران التي قد تصبح حليفا ضد طالبان في افغانستان واستعدادها للتفاوض مع اسرائيل حول الجولان. وكل سيناريو يحمل مخاطره وحلها جميعا يحتاج لدبلوماسية ذكية ومقنعة وهي الدبلوماسية التي اختفت خلال الثمانية اعوام السابقة والتي يجب على فريق اوباما ان يملكها.

صحيفة القدس العربي – عن تحقيق لـ سيمور هيرش في النيويوركر

سوريا والتغيير الديمقراطي …مدخل الى مفهوم الدولة المدنية الحديثة
حسين عيسو
“كانت بولندا في القرن الثامن عشر بلداً كبيرا يضم أكثر من إحدى عشر مليون نسمة تنتمي إلى قوميات متعددة كالليتوانيين والبيلاروس والأوكرانيين إضافة إلى البولنديين وكذلك معتقدات دينية مختلفة كالبروتستانت والكاثوليك والأرثوذكس علاوة على ذلك كان الملك ضعيفا تحيط به طبقة نبلاء فاسدة لا يهمها سوى مصالحها الخاصة وما تستطيع نهبه من أموال الشعب إضافة إلى جيران أقوياء يتدخلون في شئون البلد , كل هذه العوامل أدت بالبلد إلى وضع خطير مما دفع بأحد الوطنيين الغيورين إلى التماس النصيحة من ج.ج. روسو فكان رده : أن الدولة البولندية تعاني نقصا في المزايا الوطنية وبالتالي إذا أرادت أن تخرج من هذا المأزق الخطير الذي وضعت نفسها فيه فلا بد من إحياء الشعور بالتلاحم الوطني , وهذا ممكن عن طريق إحياء المؤسسات الوطنية التي تشكل خصائص وثقافات وعادات الشعب, والتي تجعل منهم ما هم عليه وليس أي شيء آخر !. وتلهمهم ذلك الحب الدافئ لبلدهم” .
فكلما كانت الدولة مؤسسة بشكل أفضل تقدمت المصلحة العامة على المصلحة الخاصة في عقول المواطنين , لأنهم حينذاك يدركون أن مصالحهم الخاصة لا تتحقق إلا ضمن إطار المصلحة الوطنية العامة , وبالتالي يزيد تعميق الروابط بين المواطنين ويتحقق الاستقرار والازدهار في الداخل ويتحصن البلد ضد التدخل الخارجي .
نصيحة روسو كانت في منتصف القرن الثامن عشر ـ قبل قرنين ونصف ـ أي حين كانت المواطنية في طريقها لتصبح مرادفة للوطنية , التي تعني الولاء والالتزام للدولة بمختلف مكوناتها الاثنية والثقافية والفكرية . والدولة المدنية الحديثة “دولة الكل الاجتماعي” التي تمارس الحيادية تجاه اثنيات ومذاهب وأيديولوجيات مواطنيها هي التي تؤسس للمواطنية الحقيقية التي تحترم التنوع وتسعى للإفادة منه في سبيل تقوية الوحدة الوطنية .
وعليه فالمواطنة لا تتحقق إلا في الدولة المدنية دولة الحق والقانون والتي تعمل على حماية حقوق كل أعضاء المجتمع بدون تمييز قومي أو ديني أو فكري ,لذا فالمواطنة لا تتحقق إلا في الدولة المدنية التي تصون كرامة مواطنيها وتعمل على قاعدة المساواة بينهم في الحقوق والواجبات .
أما دولة الجماعة أيا كانت تلك الجماعة قومية أو دينية أو إيديولوجية فان معيار المواطنة فيها يبنى على التبعية لتلك القومية أو الدين أو الفكر المنغلق على ذاته وكدولة فئوية فإنها سرعان ما تعمل على تقريب الموالين ونبذ المختلفين وإقصائهم فتتحول إلى نظام استبدادي يلغي مفهوم الدولة , ويعمل على إقصاء الآخر المختلف أو إلغائه ويتحول مفهوم الشعب فيه إلى جماهير “الغوغاء” التي تعلن الولاء لتلك الجماعة وليس للوطن وتستبدل قيم الجدارة والاستحقاق بمقدار الولاء والتبعية فتقوى الانتهازية ويرتقي الوصوليون إلى أعلى المناصب وُتهدر القيم الاجتماعية والإنسانية ويتحول البلد إلى ما يشبه المزرعة في ظل سلطة استبدادية ُتلغي مفهوم المواطنة التي تعني المواطن الإنسان السيد كامل الحقوق بغض النظر عن انتمائه الثقافي أو الفكري, وحين ُتهدر سيادة الإنسان وكرامته وتصبح الدولة رهينة لدى تلك السلطة ُتهدر كرامتها أيضا , لذا فالمقارنة عكسية بين الدولة المدنية الدستورية الديمقراطية والإنسان المواطن والمجتمع المدني من جهة والدولة أو النظام الاستبدادي والمجتمع الجماهيري “الرعايا” من جهة أخرى .
أما أسباب فشل الأحزاب السياسية في بلدنا سوريا : فأرى أنها تعود إلى كونها ُنسخا مقلدة للأحزاب الأيديولوجية “الحزب الشيوعي السوفييتي” في هيكليتها الشمولية وأفكارها التي تعود إلى فترة نشوء الأحزاب الثورية , فباتت متخلفة حتى عن طروحات الحزب الحاكم المهيمن على السلطة والثروة ,ومازالت هذه الأحزاب تجتر ما لديها من فكر شمولي دونما محاولة لتجديد ذلك بسبب إيمانها بقدسية ما آمنت به مهما كانت بعيدة عن الواقع ,أما سبب لا مبالاة الشارع وسلبيته فيعود إلى الخوف من الآخر , وإنكفاء كلٍّ إلى فئتهِ بعدما حصل من تدمير للعلاقات الاجتماعية وتفكيك كافة أشكال التضامن بين فئات المجتمع والإرهاب الذي تمارسه السلطة وتغييب الدولة وإلغاء حقوق المواطن من جهة وفشل هذه الأحزاب في تقديم البديل من جهة أخرى وهو ما يُذكرنا بمقولة أحد الفلاسفة” حين يقول أحدهم عن مصالح دولته وما يحصل فيها [ ما شأني بذلك ] حينئذ تكون هذه الدولة قد فُقدت .”
السؤال الملح والحاضر دائما لإخراجنا من المأزق الذي نحن فيه هو ما العمل ؟! :
أرى أن الأحزاب الموجودة حاليا هي في أغلبها أحزاب قومية أو دينية أو أيديولوجية تفتقر إلى برامج واقعية لإيمانها بأن ما لديها هو المطلق الذي لا يجوز تغييره .
لذا فإننا بحاجة إلى تجمعات أو أحزاب ببرامج واقعية لا أيديولوجية أي ذات برامج لا ُتعتبر من المقدسات ويمكن تطويرها كلما اقتضى واقع الحال , أحزاباً ديمقراطية في هيكليتها وممارساتها تؤمن بفكر المواطنية وبناء الدولة المدنية الحديثة , دولة الحق والقانون , دولة الكل الاجتماعي التعددي التي يتساوى فيها المواطنون في الحقوق والواجبات , وتعتبر كافة الثقافات والأديان و الاثنيات على درجة واحدة دستوريا , بحيث لا أكثرية ولا أقلية عرقية أم دينية .
فهل الأحزاب والتجمعات الموجودة على الساحة الوطنية السورية اليوم لديها القدرة على إعادة النظر في برامجها لملامسة الواقع أم أنها وصلت إلى طريق مسدود ؟.
سؤال يبقى برسم هذه الأحزاب .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى