صفحات ثقافيةعلي جازو

«ثمة من يراك وحشاً» لجولان حاجي: شعر بلا أمل

null
علي جازو
رقّق الشاعر جولان حاجي من خشونة وكثافة اللغة الوصفية التي تزداد وعورة وضيقاً كلما كثر استعمالها. لقد آثر العودة إلى الوراء أكثر، إلى ما يمكن وصفه بنبع سردي أنقى أو مرآة تصويرية أدق. المرآة والنبع، كلاهما، أداة لإضاءة الحاضر بمكاشفة تزداد سأما وشغفا كلما اغتنت عاطفة وتجربة.
يستحوذ على مجمل فضاء الديوان الثاني للشاعر والكاتب جولان حاجي (ثمة من يراك وحشاً)، نقاءُ العبارة المشدود بسردية مبنى شبه قصصي. سردية نثرية تصويرية تحرر الشعر- قصيدة النثر السورية بالأخص – من عهدة وضيق رومانسيتها المحلية الغائمة والمبلبلة، مفسحة الرؤى نحو نثر غنائي أغنى وألطف، أكثر تأنياً وصبراً ونفاذاً. كتابة الذات المتناثرة في أكثر من مكان تعادل غيابها عن أي مكان. التجربة نضجت أو تكاد، والثقة المشمولة بشكوكها تحكي شقاءها. الشقاء كذاكرة مهاجرة وحنين مقيم في المستقبل الذي لا يتحول إلى حاضر. ثمة هذا الحبس الدائم، الامّحاء أو الشغف بالامّحاء، وعدم القدرة على النفاذ إلى أي شيء، ولا التخلص من عتمات الماضي القريب.
لا يخفى الحضور الحسي لمحمد الماغوط عبر أكثر من وجه لصيغ التشبيه، وإن كان نموذج التشبيه لدى الماغوط فضفاضاً ومباشراًً وغريزياً، فإنه لدى جولان حاجي متعدد وأكثر جدة ورحابة. لكن جولان حاجي يرسم أيضاً. هو ابن لوحاته المتكلمة. لا يتكلم ليصرخ، ولا يتذكر ليحن. إنه يشهد ويحكي. تنبثق القصيدة من موجات المرئي المتناغمة والمتحولة كما لو في تراكم درامي سردي متقطع، وتتراكب كما لو ترسم وتتلون بيدين من عقل. وإنه لمن الصعب والمدهش أن يجتمع بنقاء شديد كل هذا البوح والأسى والبهاء والرجاء في كتاب واحد، يدور حول الذات المتمزقة ومخاوفها، تمكن كاتبُها من صوغها بمزاج بطيء ومختنق. اختناق أسيف، شعرٌ بلا أمل، شعرٌ اختار اليأس كاملا. لا سلوى، لا غد، لا هنيهة، فالأبدية الكذابة والجوار الرث حول أضلاع قاسيون الباردة الخرساء، ابتلعتْ كل شيء ولم يعد من طريق آمن سوى لفظ كل شيء في الطريق عينه حيث تختلط المدينة بالبؤس، الحب بالخطيئة والقداسة بالعار، ورعشة الجمال بذاكرة العنف السرية والمخاوف التي تحل بلا سبب محل صدف هي الأخرى تنتهي دون جدوى. ما يبقى هو ما يحدث ولا يزول.
لا غد ولا أمس، إنما الغد كله تحت اللسان، في تجويف العينين اللتين حالتا لؤلؤتين مفقودتين، داخل الفم الذي هو كهف الروح حيث تصمت الإشارات كلها، وكلمة العدم تتقدم وحيدة وعارية؛ إذ لا يقين بعد الآن: (.. سأزاولُ مِهناً أمقتُها/ و أتنقّلُ بين منازلَ ليست لي / ستتداعى في أيةِ لحظة/ وأعاشرُ أناساً / لن أصبحَ أبداً واحداً منهم. / لقد حُذِفتْ حياتي/ وما تبقّى ليس إلا/ الهوامش انتثرتْ كالفتات/ على حوافِّ ورقةٍ وسخة/ أقرأُ فيها صمتَ الإشارة / وألمحُ موتَ اليقين). المقطع الأول من قصيدة الابن الثامن، إحدى أجمل قصائد الديوان. خفَّ الوصفُ المكثف وتقلص الإسهاب؛ كسمتين على ديوانه الأول (نادى في الظلمات). محلهما جاءت اللغة الثرية والفكرة الواضحة، مفسحة لحياة شبه ممحوة أن ترقى إلى لغة هي من الدقة والقرب والتشاؤم والأسى قدر ما هي من التخوف والتمنع والحذر والانغلاق.
لغة داخل اللغة
يمثل جولان حاجي، داخل الشعر السوري المعاصر، وخارجه، علامة أدبية متميزة ومنفردة، اتجاهاً خاصاً نحو تأسيس كلاسيكية جديدة. إنها لغة داخل اللغة. وهذه اللغة تخرج الشعر من الاستعمال المألوف للكلمات، دون أن تضحي بألفة الكلام، وترفعها نحو مصاف غنائية تصويرية أقل مباشرة وأكثف تعبيراً. إنها ملاذ مفتون من خيبة تعض على جسد الخيبة نفسها. لا يستسهل الشاعر براعة لغوية قديمة، إنه يضم سخاءها داخل تركيب النص بتعميق بعدها النفسي وحفر طرقها حيث مخاوف الشاعر هي لغة حياته وحيث سلطان الخيبة يرافق الألم ويصنعه في مكان تنعدم فيه يوما إثر آخر ألفة المكان. على أن الخضوع للألم ليس خضوع المستسلم الشاكي، وخسارة الألفة لا تنفي لوعة الخاسر الشغوف بما يمضي.
كأن الإقامة، في الشعر، تطوف وتنجو فوق ماء الزمن الراكد. كأنها انتشال مستمر لوجه غرق مستمر. إنه خضوع العاشق، وحيداً ومجنحاً وذاوياً، بعد أن ازداد حكمة ولوعة وسأماً في آن واحد: «آه.. / من غير هدوء كم كنتُ بخساً / كم وددتُ لو يدي كالحياة امرأة/ بيضاء وملساء كبطن السمكة/ لو فمي ينقلب ويبتلعني/ كيف، في مُدن خطاياي/ وسكوتُ الآثم يتعقبني/ بتُّ عدوَّ روحي/ فارقتُ حُبّي/ ورضيتُ بالعار؟».
الكتابة صنو التيه. الشعر مكانٌ توحّدٌ داخل التيه نفسه؛ حيث لا نعثر على الشاعر إلا إذا ضممنا رفات المكان إلى قلبه. لا مكان هنا، بل انغلاق المكان عن التفتح والاتساع والتألق. ما يتفتح أكثر هو سطوع الخوف من المكان، ما يشغل المكان هنا عالم من الكوابيس حيث تنتهي الحياة داخل المتاهة مقطوعة الرجاء. لكنها تترك رسالة، فالشعر على أي حال نداء، وإن كان يائساً. الشعر صوت المستقبل، حتى إذا لم يكن من مستقبل، حتى إذا فقدت الآذان قدرتها على الإصغاء وحسها على المشاركة والتعاطف: «بُتِرَتْ اليدُ التي علّمتني كيف أحبّ/ الحياةُ التي صنعتني انتهتْ/ كلُّ كلمةٍ بابٌ ينفتحُ على اللانهاية./ الدرجُ الذي أصعده/ لا يُفضي إلى أيِّ مكان.». أي مكان هو كل مكان. وهو في الوقت نفسه انعدام المكان.
تنبثق الكتابة من الخراب الملآن عطفاً ورأفة لتشفي غليلها من قسوة غياب فادحة. الغياب الذي ليس سوى اسم ملطف من الفناء والتلاشي داخل كوابيس الحياة التي لا تعرف نهاية سوى العزلة وفداحة اليتم. اليتم بيت الشاعر الأخير، لا الوطن ولا الأرض،لا السعادة ولا البؤس، لا الدين الإجباري ولا القومية الإجبارية. من داخل ذلك البيت، بيت اليتم أو مكان الصداقة الشبيهة بعالم من أنوار الأطياف، يولد الشاعر طيفاً بين أقرانه موتى وأحياء، يولد ويسافر، يكتب كما لو أن الأيام على وشك تمزيق قلبها. يكتب وينادي؛ حتى لو لم تعد هناك مسامع لأحد قط.
رغم أن «ثمة من يراك وحشاً» عمل هائل الكآبة والوحشة، إلا أن مستوى الابتكار فيه مدهش. تحويل اليأس إلى طاقة حيوية وذاكرة وفية وتعاطف حميم مع المسلوبين والمنسيين، هو ما قام به جولان حاجي بفكر شعري مثابر، وصور حيوية وحوارات صامتة. الصمت أيضاَ أصل جوهري لكتابة الشعر كفن فريد الصعوبة، قادر على تبادل الحياة مع اليأس والموت والحياة.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. The poetry I enjoyed most for 2009, was that of Jolan. “There, someone sees ye as a beast, there, someone is getting scared of ye while ye come closer”…Ah….

    it is a MUST-Read poetry

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى